ينظر المستثمرون عادة إلى سعر صرف الدولار الأميركي من خلال عدسة الاحتياطي الفيدرالي. ولكن برغم أن دورة رفع سعر الفائدة العنيفة من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي عملت بوضوح لصالح الدولار في العام الماضي، فإن الدولار يدين بارتفاع قيمته المبالغ فيها بنسبة 25% في الأساس إلى التضخم والصدمات الجيوسياسية. ومن ثَمّ، مع انحسار المخاوف من التضخم والصراع العسكري الخارج عن السيطرة، بدأ الدولار يفقد قوته، وهذا يوفر الإغاثة المالية التي تشتد الحاجة إليها في اقتصادات الأسواق الناشئة ويخفف من الضغوط المفروضة على البنوك المركزية الأخرى والتي كانت تحملها على إحكام سياساتها. خلال القسم الأعظم من عام 2022، سعى المستثمرون إلى الاحتماء بأي ملاذ وسط حشد نادر من الصدمات التي تسببت في تقليص النمو الاقتصادي وتعزيز التضخم في ذات الوقت. وفي ظل سياسة نقدية أشد تقلبا من المعتاد، فضلاً عن ترابطها الوثيق عبر الاقتصادات المتقدمة (والذي انعكس في الزيادات الحادة في أسعار الفائدة في كل مكان تقريباً)، ارتفعت تقلبات الدخل الثابت، والنقد الأجنبي، وأسواق الأسهم، وساد الدولار- باعتباره العملة الاحتياطية الرئيسية على مستوى العالم- كملاذ آمن. علاوة على ذلك، في حين اضطلع الاحتياطي الفيدرالي بدور رائد في تحديد توقيت وحجم زيادات أسعار الفائدة، فقد أضرت سلسلة من الصدمات المستقلة بالنمو في آسيا وأوروبا. وبفضل استقلال الولايات المتحدة في مجال الطاقة وبُعدها الجغرافي عن هذه الصدمات، كان اقتصادها معزولاً بشكل أفضل مقارنة بأغلب الاقتصادات الأخرى.
واجهت أوروبا التهديد الوجودي المتمثل في خسارة القدرة على الوصول إلى مصدرها الرئيسي للطاقة. في استطلاعات المشاعر، انخفضت مؤشرات الثقة بدرجة أكبر كثيراً من انخفاض المؤشرات الاقتصادية، مما يعكس علاوة مخاطر إضافية على الأصول الأوروبية. شعر كثيرون بالقلق بشأن المخاطر الضئيلة الاحتمال ولكنها رغم ذلك شديدة التأثير والتي قد تترتب على قطع إمدادات الطاقة الروسية تماماً أو نتيجة لحدث نووي، وهو الاحتمال الأسوأ. أشعلت الحرب الروسية الأوكرانية أيضاً شرارة صدمة شروط التبادل التجاري في مجال الطاقة، مما أدى إلى إعادة التوازن إلى الطلب مع بحث مستوردي المواد الهيدروكربونية في آسيا وأوروبا عن موردين جدد، بما في ذلك في الولايات المتحدة. كما تسببت السياسات المعمول بها في بلدان رئيسية في تعزيز قيمة الدولار. حتى ديسمبر/كانون الأول 2022، كانت الصين تفرض سياسة خفض الإصابات بكوفيد-19 إلى الصِفر، والتي تسببت في خلق صدمة سلبية مستقلة على جانب الطلب داخل حدودها وفي مختلف أنحاء المنطقة. وقدمت المملكة المتحدة مساهمتها الخاصة في دفع الطلب على الدولار إلى ذروته بميزانيتها الكارثية في سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول، والتي جعلت من ليز تـرَس أقصر رئيس وزراء خدمة في التاريخ البريطاني ودفعت اليورو أيضاً إلى الانخفاض مؤقتاً.
كيف يجب أن تكون توقعاتنا للدولار في الفترة المقبلة؟ تشير الدلائل المستمدة من السنوات الثلاثين الماضية إلى أن الدولار لا يميل إلى بلوغ ذروة ارتفاعه، عندما لا يكون التضخم في حد ذاته مصدراً رئيسياً لعدم اليقين، إلى أن يدخل الاقتصاد الأميركي حال الركود بالفعل وعندما تكتسب استجابة الاحتياطي الفيدرالي للركود الزخم داخل مكون أصول المخاطر في النظام المالي. على النقيض من ذلك، أتت ذروات الدولار في وقت مبكر عندما رفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة في سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن العشرين. في ذلك الحين، كان التضخم المرتفع يمثل الخطر الرئيسي الذي يهدد النمو والمصدر الرئيسي لعدم اليقين بشأن السياسات والسوق. وعندما بدأ التضخم ينخفض، انحسرت حالة عدم اليقين بشأن السياسات والنمو. واستعادت السوق في النهاية الثقة في قدرة الاحتياطي الفيدرالي على تخفيف شدة سياساته في مواجهة مخاطر الركود دون التضحية بالتزامه بالتضخم المنخفض المستقر. مع تراجع التضخم، ستميل توقعات النمو إلى التحسن، وستنحسر حالة عدم اليقين، وكذا الحال بالنسبة للدولار. بعد الاستفادة من وتيرة رفع أسعار الفائدة التراكمية السريعة في طريقه إلى الصعود، بات من المرجح الآن أن يعاني الدولار حيث تقود الولايات المتحدة العالَم في جهود إعادة التضخم إلى الانخفاض، لأن سلوك الاحتياطي الفيدرالي يميل إلى التحكم في وتيرة تحركات أسعار الفائدة في أماكن أخرى. مع اقتراب الاحتياطي الفيدرالي من إيقاف- أو ربما حتى إنهاء- عملية إحكام السياسات، ستكون كل البنوك المركزية الأخرى مستعدة لإبطاء تحركاتها أو التوقف في النهاية أيضاً. وسوف يؤدي هذا إلى إغراء المستثمرين على الخروج من ملاذاتهم الدولارية الآمنة والعودة إلى أصول أعلى خطورة. من المرجح أن يقدم الدولار أسعار فائدة أعلى نسبياً بالقيمة المطلقة، لكن حالة العائد هذه من المنتظر أن تتقلص في عام 2023 مع استبعاد أسعار السوق لبعض الزيادات التي حدثت في عام 2022. عندما يتعلق الأمر بزخم النمو النسبي، لم تتباطأ الولايات المتحدة بشكل حاد مثل نظيراتها، ويرجع هذا بدرجة كبيرة إلى أنها كانت أقل قُرباً من الصدمات المذكورة أعلاه. لكن هذه الديناميكية يجب أن تعمل الآن في الاتجاه المعاكس في عام 2023، لو لم تحدث بعض الصدمات الخارجية المنشأ أو تداعيات كبيرة للحرب الدائرة في أوكرانيا. كانت تعديلات توقعات النمو نزولاً في الصين وما ترتب على ذلك من ضعف أداء العملات الأجنبية عائقاً واضحاً لأسواق الفوركس في عموم الأمر. وقد يشكل إنهاء سياسة كوفيد-صِفر، على الأقل إلى الحد الذي يسمح بنجاح استراتيجية الخروج، مصدراً مهماً للضغوط الكفيلة بدفع قيمة الدولار نزولاً. ومع اقتران هذا بانتعاش توقعات النمو الصينية، ستستفيد العملات في آسيا وأوروبا بشكل معقول من اقتصاد أميركي يتسم بتباطؤ النمو واستمرار التضخم. بطبيعة الحال، سيظل خطر وقوع صدمات جديدة وغير متوقعة قائماً على الدوام. ولكن ما لم تقع هذه الصدمات، وإلى أن تحدث، يجب أن يستمر انخفاض قيمة الدولار مع انحسار حالة عدم اليقين المحيطة بالتضخم وتراجع تقلبات السياسة النقدية. من منظور بقية العالم، يُـعَـد انخفاض قيمة الدولار أرخص شكل متاح من أشكال التحفيز. وهذا نبأ طيب للنمو العالمي، ما دام باقياً.