منذ أن أُثير احتمال لجوء السعودية إلى بَيع النفط للصين باليوان، قبل نحو عام، لا يزال السجال بشأنه يتوسّع، على رغم أن السعوديين لم يُدلوا بدلوْهم بشكل رسمي حياله، حتى خلال زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، للمملكة في كانون الأوّل الماضي. وإذ خلت البيانات الرسمية آنذاك تماماً من أيّ ذكْر للموضوع، فقد نُقلت عن الضيف دعوته مُحادثيه السعوديين والخليجيين إلى قبول مدفوعات النفط بالعملة الصينية، من دون أن يصل إلى طلب تقويم تلك السلعة باليوان
تختلف التقديرات الغربية حيال ما اعتُبر تلويحاً سعودياً ببيع النفط للصين التي تستحوذ على 26% من مُجمل صادرات المملكة النفطية، باليوان، بدلاً من الدولار، بين مَن يرى أن الانتقال من «البترودولار» إلى ما صار يُطلق عليه مجازاً «البترويوان»، مجرّد وهم، وأن ذلك التلويح لا يعدو كوْنه ضغطاً سعودياً جاء في ذروة تأزُّم العلاقات مع واشنطن، وبين مَن يعتقد أن مسألة لامركزية العُملات، آتية لا محالة، نتيجة ضعْف النظام النقدي العالمي الذي يهيمن عليه الدولار.
وكالة «بلومبيرغ» وصفت الكلام عن حتميّة الانتقال من «البترودولار» إلى «البترويوان» بأنه أوهام، بينما أشار موقع «ميدل إيست مونيتور» إلى أن مكانة الدولار تتراجع تدريجياً، ما يدفع بالدول الممسِكة بالاحتياطات الدولارية الضخمة إلى استبدال جزء منها بأصول أكثر أماناً، كالذهب. وفي هذا السياق بالذات، يندرج توقُّع أن تقوم السعودية باعتماد عُملات أخرى في التجارة؛ إذ قال وزير المالية السعودي، محمد الجدعان، في دافوس، في كانون الثاني الماضي، إنه «لا مشكلة في مناقشة كيفية تسوية اتّفاقاتنا التجارية، سواء كانت بالدولار أو اليورو أو الريال السعودي». وعلى رغم أنه لم يَذكر اليوان بالاسم، إلا أن النقاش المُثار حول احتمال قبول المملكة مدفوعات نفطية به، هو المقصود بالكلام المُشار إليه. ومنذ أن أثارت صحيفة «وول ستريت جورنال» احتمال قيام السعودية بذلك، في 15 آذار الماضي، يتداول سعوديون، يُرجَّح أنهم تابعون للحكومة، الأمر على وسائل التواصل الاجتماعي، مُعربين عن تأييدهم اعتماد العُملة الصينية.
«البترودولار» اعتُمد عام 1974 في صفقة بين الرئيس الأميركي الأسبق، ريتشارد نيكسون، والملك السعودي الراحل، فيصل بن عبد العزيز، الذي وافق على اعتماد الدولار كعُملة وحيدة لبيع النفط، مقابل ضمانات أمنية أميركية للمملكة، بعد 3 سنوات من قيام نيكسون بفكّ ربط الدولار بالذهب، في تدبير هدَف إلى المحافظة على التفوّق الأميركي في الاقتصاد العالمي، وإنّما في الوقت نفسه حَكَم على النظام النقدي العالمي بالتعرّض لأزمات، أو حتى لانهيار محتوم، كما يعتقد بعض الخبراء.
فالنقد المستخدَم للشراء والبيع والادّخار غير مسنود إلى أيّ شيء، وفي الوقت نفسه هو عُرضة للتأثّر بالعوامل الاقتصادية والجيوسياسية. وحتى هذا النقد، غاب إلى حدّ كبير بشكله المادّي في العصر الرقمي الحالي، وأصبح مجرّد أرقام على الشاشة، حيث يمكن في أيّ وقت مُصادرة المبلغ أو تغييره أو إزالته من الحساب من دون تأثير كبير فوري على الاقتصاد، لأنه ليس مدعوماً بأيّ أصول مادّية أو ملموسة تخضع لقيود. ويعود جزء كبير من هذا النظام وهيمنة أميركا عليه، إلى «البترودولار»، حيث يُقوَّم النفط بالدولار، ثمّ يُعاد تدوير الدولارات الناتجة من بيعه إلى واشنطن من خلال عملية شراء الدول النفطية لسندات الخزانة الأميركية وغيرها من الأصول.
لذلك، عندما أُثير تفكير السعودية في تداوُل نفطها مع الصين باليوان، استَنفرت أميركا، على رغم أن العديد من المحلّلين الغربيين قلّلوا في ذلك الوقت من شأنه باعتباره مجرّد مجاملة للصين، أو ضغطاً على الولايات المتحدة في ذروة تأزّم العلاقة. وتكتسب السعودية أهمّية كبيرة بالنسبة إلى الصين التي عَرضت تسعير عقودها النفطية باليوان عام 2018، كجزء من جهودها لجعل عُملتها قابلة للتداول عالمياً، نظراً إلى أن المملكة، فضلاً عن مساهمتها الكبيرة في توفير إمدادات النفط لبكين، هي مستورِد كبير للبضائع الصينية.
والتعامل بغير الدولار في التجارة ليس جديداً. وهو يحصل حتى بين حلفاء أميركا الذين أبرم عدد منهم مثل الهند وباكستان والإمارات صفقات مع روسيا أو الصين لدفع ثمن النفط أو السلع الأخرى بعُملاتهم المحلّية المختلفة. والشهر الماضي، أعلن العراق أنه يخطّط لتنظيم التجارة مع الصين مباشرة باليوان، وهو إجراءٌ اعتبره اقتصاديون صينيون «خطوة غير مسبوقة لعولمة اليوان، تَمنح بكين وشركاتها قوّة في أسواق النفط، وتشجّع الرياض على عقْد اتّفاق مشابه». فالصينيون يَعتبرون اتّخاذ السعودية خطوة كهذه، تحوّلاً نحو إقامة نظام نقدي عالمي أكثر لامركزية.
الرأي الذي يميل إلى أن العالم في طريقه إلى تعدُّد العملات، وخاصة في تجارة النفط، يستند إلى ما يراه سوء تقدير كبيراً من جانب واشنطن في عقوباتها الشديدة ضدّ روسيا وإيران وفنزويلا، حيث يَعتبر موقع «ميدل إيست مونيتور» أن الولايات المتحدة سجّلت هدفاً في مرماها، حين أخرجت روسيا من نظام «سويفت»، وجمّدت أكثر من 350 مليار دولار من احتياطياتها من الذهب والعملات الأجنبية، على خلفيّة حرب أوكرانيا، إذ إن هذا الإجراء سيؤدّي إلى ضرْب الثقة بالنظام النقدي القائم على الدولار لدى العديد من البُلدان، ولا سيما تلك التي لا تنتمي إلى الغرب وتُقلقها مخاطر الاحتفاظ باحتياطاتها بالدولار. إلّا أن ذلك سيتوقّف على نتيجة حرب أوكرانيا، حيث يُتوقّع أن يؤدّي انتصار الأخيرة إلى استعادة الثقة به كعملة مستقرّة مهيمنة على الاحتياطي العالمي. أمّا إذا خسرت كييف، فسيؤدي ذلك إلى كارثة على الدولار.
في تلك المعادلة، لا تنوي السعودية، كما يرى الموقع، الاعتماد على نتيجة الحرب لتحديد سياساتها الخارجية والاقتصادية. فهي تُصرّ على الحفاظ على علاقات ممتازة مع الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه توسيع علاقاتها مع روسيا والصين وقوًى أخرى، وستستمرّ في التداول بالدولار في معظم تعاملاتها التجارية في المستقبل المنظور، لكنها في الوقت نفسه ستكون منفتحة على قبول العملات الأخرى، حتى لو كان ذلك على حساب الهيمنة الأميركية وبمثابة خرق لاتفاقية «البترودولار» مع واشنطن. ويُعتبر اهتمام المملكة بالانضمام إلى مجموعة «البريكس» المكوَّنة من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، جزءاً من هذه النظرة. ومن المقرّر أن تتّخذ المجموعة قريباً قراراً بشأن العضوية المحتمَلة للسعودية وإيران ودول أخرى. وإذا تمّ قبول المملكة، فسيُعتبر ذلك ضربة قوية للدولار ونهاية لإعادة تدوير «البترودولار».
وفي هذا الإطار، يرى الخبير الاقتصادي نورييل روبيني، المعروف بـ«الدكتور دووم»، في مقال نشرتْه صحيفة «فاينانشال تايمز» الشهر الماضي، أن النظام الأحاديّ القطب سينتهي، وتنتهي معه هيمنة الدولار. ويقول إن «اليوان الصيني يشكّل تهديداً لهيمنة الدولار»، متوقّعاً «ظهور نظام عُملة ثنائيّ القطب»، ومعتبراً أن «المنافسة الجيوسياسية المتصاعدة بين واشنطن وبكين ستَظهر حتماً في نظام احتياطيّ العملات العالمي الثنائيّ القطب أيضاً». ويلفت روبيني المعروف بتنبّؤاته المتشائمة بالنسبة إلى الغرب، إلى أنه بينما يُحذر المشكّكون عادةً من أن الضوابط التي تَفرضها الصين على اليوان من شأنها أن تَمنعه من تجاوُز العملة الخضراء، فإن الولايات المتحدة لديها مشاكلها الخاصة التي «تقلّل من جاذبية الدولار».
ومع ذلك، لا يمكن اعتبار اللحظة الحالية هي لحظة التحوّل في هذا الاتجاه. فالأرجح أن التعامل باليوان سيظلّ محدوداً وقاصراً على جزء من التعاملات مع الصين نفسها، سواء كانت نفطية أو تجارية أخرى، ولا سيما أن الحكومة الصينية لا تزال تتحكّم إلى حدّ كبير بسعر اليوان (تُخفّضه) لدعم صادراتها. وفي المقابل، يبقى الدولار عملة عائمة بالكامل، وسائلة، على عكْس العُملة الصينية التي قد لا يكون سهلاً استبدالها عند الضرورة، أو استخدامها في التجارة مع غير الصين. وحتى شي جين بينغ نفسه لم يَطلب خلال زيارته للرياض، من السعودية ودول الخليج الأخرى، تقويم النفط باليوان، وإنّما شجّع المنتِجين على قبول المدفوعات به.
وبخلاف ذلك، لدى السعودية ودول الخليج أسباب أخرى للتمسّك بالدولار. أحد أكثرها أهمّية هو أن عملات معظم تلك الدول مربوطة به، ما يتطلّب استمرار تدفُّقه لدعم هذا الربط. أيضاً، لهذه الدول مصلحة في بقاء الدولار قويّاً، نظراً إلى ضخامة احتياطاتها بالعملة الخضراء واستثماراتها في سندات الخزانة الأميركية، فضلاً عن أنه لا يوجد ما يشير إلى أن الرياض في وارد استفزاز الأميركيين بتدبيرٍ كاعتماد اليوان في تجارة النفط، حتى لو مع الصين فقط.