حتّى مساء يوم الإثنين الماضي، كانت معظم الكتل النيابيّة تعيش حالة من التخبّط، إزاء الموقف الذي يفترض أن تتخذه من فضيحة الـ16.5 مليار دولار، التي أضافها حاكم مصرف لبنان كدين على الدولة اللبنانيّة بمفعول رجعي. مع الإشارة إلى أنّ هذه القيمة تمثّل كل الدولارات التي باعها مصرف لبنان للدولة اللبنانيّة منذ العام 2007، بموجب عمليّات قطع، فيما قرر الحاكم اليوم العودة إلى احتسابها كرصيد دائن، يفترض أن تلتزم الدولة بسداده في المستقبل من جيوب دافعي الضرائب (راجع المدن).
المسؤوليّة أمام المجتمع الدولي
وكان الموضوع قد تفاعل في أروقة المجلس النيابي منذ يوم الخميس الماضي، بعدما كشفت “المدن” مجموعة من المراسلات بين رئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان ورئاسة الحكومة وحاكميّة مصرف لبنان، حيث أقحم بموجبها الحاكم هذا الدين في المعلومات التي تم إرسالها إلى المجلس النيابي، والتي سيتم –على ضوئها- دراسة أرقام الخسائر ومشاريع القوانين المتصلة بإعادة هيكلة القطاع المصرفي.
أمّا سبب التخبّط النيابي الحاصل اليوم، فهو إدراك الجميع أن تبنّي هذه الأرقام سيعني عمليًّا الانقلاب على خطّة التعافي المتفق عليها مع صندوق النقد، وتقديراتها للخسائر. إذ سيعني ذلك تخفيض خسائر القطاع المصرفي بقيمة موازية، مقابل تحميل هذه الخسارة للدولة اللبنانيّة. وفي الوقت الراهن، تدرك جميع الكتل النيابيّة أن التورّط في لعبة من هذا النوع ستحمّل المتواطئين مسؤوليّة الإطاحة ببرنامج صندوق النقد الدولي بأسره، أمام المجتمع الدولي الذي يترصّد جيّدًا تفاعل القوى السياسيّة مع الملفّات الماليّة التي يتم التعامل معها.
ولهذا السبب بالتحديد، يبدو أن جميع الكتل النيابيّة قرّرت طوال الأيّام الماضية التريّث قبل الحكم على هذه المستجدات، بانتظار جلاء المشهد بصورة أفضل، باستثناء تسعة من النوّاب التغييريين، من الذين عبّروا صراحة عن رفضهم لهذه المناورة، من خلال سؤال تم توجيهه للحكومة (راجع المدن).
ولكن رغم ابتعاد الجميع عن التصريح، تكثّفت الاتصالات النيابيّة منذ الكشف عن هذه التطوّرات، لتقدير موقف كل طرف، قبل الخوض في مناقشة قانون استعادة الانتظام في القطاع المالي على أساس هذه الأرقام.
النقاش القانوني: قانون النقد والتسليف يحكم
في الجانب القانوني من المناقشات التي حصلت، وبعد التواصل مع خبراء مختصين في الشأن المصرفي، المسألة كانت واضحة جدًا:
– المادّة 88 من قانون النقد والتسليف تحصر تسهيلات الصندوق التي يمكن أن يمنحها المصرف المركزي للحكومة بـ10% من متوسّط واردات موازنة الدولة العادية، في السنوات الثلاث الأخيرة المقطوعة حساباتها، ولا يمكن أن تتجاوز مدة هذه التسهيلات الأربعة أشهر.
– المادّة 89، تمنع استعمال هذه التسهيلات أكثر من مرّة واحدة خلال 12 شهرًا.
– المادّة 90، تنص بوضوح على أنّه وباستثناء التسهيلات الممنوحة بموجب المادتين السابقتين، فالمبدأ هو أن لا يسلّف المصرف المركزي الحكومة.
– المادّة 91 تنص على أنّه في الظروف “استثنائيّة الخطورة” وفي “حالات الضرورة القصوى”، وفي حال حاولت الدولة الاقتراض من المصرف المركزي بمستويات تفوق تلك المحددة في المواد السابقة، على المصرف حث الحكومة على استبدال مساعدته بوسائل أخرى. وفقط في الحالة التي يثبت فيها أنه لا يوجد أي حل آخر، وإذا ما أصرت الحكومة بعد ذلك على طلبها، يمكن المصرف المركزي أن يمنح القرض المطلوب، بعد دراسة التدابير التي تحد من تداعيات هذه الخطوة على الاقتصاد الوطني.
– وحتّى عند منح القرض على هذا النحو، في الحالات الاستثنائيّة والخطيرة، ينص القانون على أن لا تتخطى مدّة القرض المطلوب العشر سنوات، وعلى تحديد معدل الفائدة ومدة القرض وشروطه الأخرى في عقد يوقع بين المصرف والمستقرض.
كل ما سبق ذكره، لم يجر منذ 2007، ما يعني أنّ الحكومات المتعاقبة لم تملك حتّى صلاحيّة مراكمة هذا الدين على الدولة اللبنانيّة. هذا إذا ما افترضنا أنّ المعنيين في تلك الحكومات وافقوا على مراكمة هذه الديون، من دون أن يتم قيدها في ذلك الوقت في ميزانيّات المصرف المركزي، إلى أن ظهر هذا الدين اليوم. بصورة أوضح، لا يمكن لأحد في الحكومات السابقة التدخّل وتبرير ما قام به سلامة اليوم، لأن ذلك سيحمّله مسؤوليّة تجاوز الصلاحيّات المنصوص عنها في القانون، ما سيعني تحميله أيضًا المسؤوليّة الجزائيّة عن مديونيّة الـ16.5 مليار دولار التي ظهرت اليوم.
وبمعزل عن كل ما سبق ذكره، تشير مصادر نيابيّة متابعة للملف إلى أن معظم المعنيين في وزارة الماليّة والحكومات السابقة سمعوا من سلامة مقترح استبدال عمليّات القطع بسلفات في حساب الخزينة، إلا أنّ الفكرة تم رفضها بشكل قاطع. فالمادّة 85 من قانون النقد والتسليف نفسه تضع مصرف لبنان في مصاف “مصرف القطاع العام”، المسؤول عن تلقي أموال القطاع دون سواه من المصارف، على أن “يجري تحويل الأموال التي يطلبها منه القطاع العام حتى قيمة موجودات هذا الأخير لديه”.
بهذا المعنى، لا يوجد نص قانوني واحد يسمح للمصرف المركزي بالامتناع عن إجراء عمليّات القطع، ومراكمة الموجودات بالليرة اللبنانيّة، مقابل سحب الأموال بالدولار من حسابات جارية مدينة. بل وعلى العكس تمامًا، يفرض القانون بشكل صريح استعمال موجودات القطاع العام فقط، لتمويل تحويلاته.
توريط السنيورة في الملف
بعض المدافعين عن خطوة سلامة، أو ربما الراغبين بمعمعة الموضوع، أشاروا إلى أنّ قيد المبالغ كسلفات على الدولة اللبنانيّة يتم اليوم بموجب اتفاق شفهي قديم جرى بين رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة ورياض سلامة. إلا أنّ هذه الزعم تم دحضه بالعديد من المعطيات، أبرزها عدم إبراز أي عقد استقراض يترجم التفاهم المزعوم على الآليّة التي رتبت الدين الضخم، وعدم إمكانيّة الاستمرار بمراكمة الديون على مدى 16 سنة بموجب اتفاق شفهي بين حاكم المصرف المركزي ورئيس الحكومة اللبنانيّة.
في كل الحالات، من المرتقب أن يكون هذا الموضوع المتفجّر موضوع مداولات لجنة المال والموازنة، التي بدأت مؤخرًا دراسة قانون استعادة الانتظام في النظام المالي، المتصل بمسألة فجوة الخسائر وتقديراتها. وبمجرّد فتح الملف بشكل علني، سيكون بالإمكان الوقوف عند آراء الكتل المختلفة من مسألة دين الـ16.5 مليار دولار. أمّا الحكومة، فمن المرتقب أن تكشف عن موقفها بشكل واضح وصريح في إجابتها على سؤال النوّاب التغييريين، الذين طالبوا بالمزيد من الإيضاحات والتفسيرات حول هذه القضيّة.