بكثير من الصعوبات التي تحول دون الوصول الى سعر الصرف الموحّد الذي سيعتمد للدولار الواحد في الموازنات العامة الإستثنائية، والتي ستكون متوسطة الأمد ولفترة 4 سنوات على وقع تسارع وتيرة انهيار العملة الوطنية، تشقّ وزارة المالية طريق إعداد موازنة 2023 ولو أتت خارج المهل القانونية.
وأن تتظهّر الموازنة الى العلن ولو متأخّرة خير من ألا تأتي أبداً في زمن الأزمات والإنهيارات، وإنجازها هذه السنة مهمة صعبة كونها ستكون مواكبة لإصلاحات ضرورية مطلوبة من صندوق النقد الدولي، للسير على سكّة وقف النزيف واعتماد نهج النهوض.
وحول المرحلة التي قطعتها موازنة 2023 التي لم تتظهّر الى العلن، وما إذا كانت سترى النور قريباً وماذا تتضمّن، تحدّث مستشار رئيس الحكومة للشؤون الإقتصادية سمير الضاهر لـ»نداء الوطن» كاشفاً أن «موازنة 2023 لن تكون على غرار موازنة 2022 التي بيّنت هول المشكلة والفاجعة المالية التي يرزح تحتها لبنان، بل ستختلف لناحية الإصلاحات.» وفي ما يلي نصّ الحوار:
أين أصبحت موازنة 2023؟
قبل التطرق الى موازنة 2023 لا بدّ من الإشارة بداية الى التفاوت الكبير في حجم الإيرادات والنفقات خلال 5 سنوات. فإيرادات موازنة 2017 قدّرت بـقيمة 13 مليار دولار مقارنة مع نحو 750 مليون دولار في الموازنة التي صدرت بعد 5 سنوات.
أما النفقات فكانت في موازنة 2017 تقدّر بـ17 مليار دولار مقابل مليار دولار في الموازنة الأخيرة. ويعني ذلك أن الموازنة تعكس حجم الإقتصاد الذي تقلّص من 55 مليار دولار الى 25 مليار دولار، محقّقاً انكماشاً بنسبة 60% خلال فترة 5 سنوات، لم يسبق أن سجّلتها الإقتصادات العالمية سوى تلك التي تعاني من حروب.
تلك المفارقة تؤكّد أن موازنة 2023 ستكون إستثنائية في ظروف قاهرة تبيّن وقع الأزمة الإقتصادية واستطراداً المالية. ولم تتضمّن موازنة 2022 زيادات وإنما كانت تحتوي على تعديل للشطور والرسوم وهو أمر طبيعي في زمن انهيار العملة المحلية، ومثال على ذلك أن رسوم كاتب العدل التي كانت بقيمة 20 دولاراً أو 30 ألف ليرة أصبحت تعادل 60 سنتاً (وفق سعر صرف السوق 50 ألف ليرة).
ما هي الصعوبات التي تواجهها الحكومة في إعداد الموازنة؟
يتبيّن على وقع احتدام الأزمات المالية والنقدية والإقتصادية والإجتماعية، أن ترسيم مالية وسياسة الدولة لسنة كاملة من خلال الموازنة لم تعد بالمهمة السهلة، فوزارة المالية المكلفة إعدادها تواجه «صعوبة منهجية». إن «الأساس بالنسبة الى الموازنة هو أولاً ضبط العجز إذ لا تستطيع الدولة بعد اليوم الإقتراض لا داخلياً ولا خارجياً، من هنا فلا يوجد حلّ لسدّ العجز سوى طبع العملة، ما ستكون له تداعيات تضخمية، باعتبار أن كل ليرة تتمّ طباعتها تشكّل مدماكاً إضافياً في تخفيض سعر صرف الدولار أمام الليرة اللبنانية.
وثانياً، يجب تحديد قيمة النفقات والإيرادات واحتسابها وفق سعر صرف واحد للدولار، إذ لا يجب أن يكون هناك تعدّد بالتسعيرات بعد اليوم كأن يكون هناك دولار جمركي وآخر طالبي ودولار ضرائبي ودولار للدواء… وبما أن مجمل نفقات الدولة هي بالدولار الأميركي، مثال إن كلفة المعدّات التي تشتريها وزارة المالية على سبيل المثال تكون وفق سعر صرف السوق، وبذلك يجب أن تحدّد بالموازنة استناداً الى السعر الحقيقي، وبدل النقل لموظفي القطاع العام الذي سيحدّد مثلاً بـ5 ليترات بنزين يومياً… وبذلك لا يجوز أن تكون الإعتمادات مبنية على أسعار صرف إعتباطية. علماً أنه بالنسبة الى الرسوم الجمركية، فإن تحديد الدولار الجمركي وفق سعر صرف السوق سيزيد أسعار السلع والكلفة ستكون على عاتق المواطن.
كيف سيتمّ التعامل مع الرسوم لا سيّما نسبة الرسم الجمركي؟
في ما يتعلّق بالرسوم الجمركية، يجب اعتماد سعر صرف دولار السوق الحقيقية مع خفض نسبة الرسوم الجمركية وليس الدولار الجمركي، لأن الكلفة ستكون كبيرة على المواطن، وذلك من رسم جمركي بنسبة 30 في المئة الى 20 أو 15 أو حتى صفر في المئة.
هذا الواقع يرتّب على أي موازنة ستصدر أن تتحلّى بالمصداقية وأن تتضمّن عوامل إصلاحية خارج سرب التلاعب بسعر صرف الدولار، وبالتوازي يجب أن يترافق ذلك مع الإلتزام ببرنامج التعافي الإقتصادي الذي أعدّته الحكومة والتوافق مع صندوق النقد الدولي.
ماذا يحصل إذا لم يعتمد سعر موحّد لسعر صرف الدولار في الموازنة؟
إذا لم نشرع في ذلك ويتمّ اعتماد سعر موحّد للنفقات والإيرادات في الموازنة، نكون سلكنا طريقاً بعيداً عن شروط صندوق النقد الدولي والخطة التي أعدّتها الحكومة. إضافة الى ذلك سيتوسّع حجم العجز في الموازنة ما سيضطرّ مصرف لبنان الى التمويل من خلال طباعة العملة، على أن يلي تلك الخطوة انهيار العملة الوطنية (بشكل إضافي).
فتوحيد سعر الصرف يعتبر مرحلة تمهيدية لتحريره بالكامل وهو مطلب أساسي من مطالب صندوق النقد الدولي.
لا بدّ إذاً في موازنة 2023 الأخذ في الإعتبار إتجاه صندوق النقد، ففي الموازنات المعتمدة في سائر الدول يعتبر الإنفاق وفي المقابل فرض الضرائب أداة إقتصادية ومالية أساسية، تعكس رؤية الحكومة الإقتصادية واتّجاهها.
متى تنجز الموازنة الإصلاحية المنشودة؟
رغم تلك الصعوبات والتي قد تشكّل معوّقات حقيقية أمام الخروج بموازنة إصلاحية، فإن العمل على إعدادها على قدم وساق والصعوبات المنهجية قيد الدرس، ووزارة المالية تأخذ برأيي فقط بصفتي مستشاراً إقتصادياً لرئيس الحكومة علماً أن الوزارة ستحوّل اقتراحاتها في ما بعد الى مجلس الوزراء.
ماذا عن الضريبة الموحّدة على الدخل كيف سيتمّ احتسابها؟
تحتلّ عادة البنود الضريبية حيّزاً مهماً في الموازنة إذ من شأنها أن توفّر الواردات لخزينة الدولة، فالضرائب التي تفرض عادة تكون مباشرة وغير مباشرة. بالنسبة الى الضريبة الموحّدة على الدخل وهي أساس الضرائب المباشرة، نشير الى أنه في الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا على سبيل المثال لا الحصر، فان أساس الضرائب المباشرة على مجمل الدخل للفرد وناجمة عن تأجير شقّة على سبيل المثال وفوائد وديعة مصرفية، أو عوائد تشغيل سيارة تاكسي…
عندها يتم توحيد مجموع الدخل لتفرض ضريبة تصاعدية من 0% للحدّ الأدنى للأجور وترتفع الى 80% على بعض الشطور».
في لبنان الضريبة على دخل الرواتب تتراوح بين 10 و20%، في حين أن سائر الرسوم لا سيّما الفوائد المصرفية منها تسدّد على حدة أيضاً… وفي هذا الإطار من المنتظر أن تحدّد فذلكة الموازنة موعد تعديل نسب الضريبة على الدخل.
ماذا ستكون أولويات الإنفاق في الموازنة؟
إن الهدف الأساسي في الموازنة تحديد أولويات الإنفاق وضمان استمرارية المرفق العام، لا سيّما الجيش اللبناني الذي يشكّل قوّة دافعة تحمي الحدود… وتسديد رواتب القطاع العام، والتي تمّ رفعها الى ثلاثة رواتب مع بدل نقل حدّد بـ5 ليترات بنزين يومياً، على أن يتمّ إعادة تقييم الراتب بشكل دوري كل ثلاثة أشهر، وذلك لمواكبة تحرّك سعر صرف الليرة التي تنهار بشكل يوميّ. فيرتبط وفق تلك الآلية راتب القطاع العام بمؤشّر أسعار الإستهلاك أي التضخّم. وهذا الأمر يفرض توفّر إيرادات حقيقية كافية تستطيع وزارة المال إيجاد التخريجة لتوفيرها بطريقة عادلة، وتوفير إحتياطي ضخم قادر على تحمّل آلية تعديل الرواتب بشكل دوري من دون إعداد سياسة لضبط سعر صرف الدولار أمام الليرة.
من أين ستتوفّر مصادر التمويل؟
تأمين التمويل سيتمّ من خلال الإيرادات الضريبية وغير الضريبية، والأخيرة تتمّ من عائدات مؤسسات الدولة مثل مؤسسات كهرباء لبنان التي كانت تحقّق خسائر كبيرة جرّاء عدم تعديل تعرفة الكهرباء منذ 1994، وكذلك الأمر بالنسبة الى فواتير المياه والمحروقات والأدوية والمازوت… التي كانت تعتبر منخفضة وتمّت إعادة النظر فيها فيها ورفعت منذ أشهر.
حتى أن اعتماد التدقيق في المؤسسات العامة، توقّف العمل به منذ العام 2010، الأمر الذي أشارت إليه خطة التعافي نظراً الى أهمية التدقيق في التخفيف من حدّة الخسارة لتسير إدارات الدولة على سكّة الربح.
إدارة مرفأ بيروت على سبيل المثال لم يتم اعتماد التدقيق فيها منذ 27 عاماً، واللجنة الموقتة لإدارة المرفأ لم تسلّم يوماً حسابات مدقّقة الى خزينة الدولة. والأمر نفسه ينطبق على شركتي الخلوي اللتين يجب أن تخضعا للتدقيق المالي. وهنا تبرز ضرورة اعتماد التشركة corporatization في المرفأ مثلاً من خلال تأسيس شركة بإدارة القطاع الخاص مع المشاركة في الأرباح مع اقتراح فرض نسبة 70% ضريبة على الأرباح.
شركة طيران الشرق الأوسط أيضاً تحقّق أرباحاً لكنّها معفيّة من ضريبة الدخل وحقّقت العام الماضي أرباحاً بقيمة 60 مليون دولار. فإذا فرضت ضريبة دخل على الـMEA تدرّ الى خزينة الدولة 10 ملايين دولار باعتبار أن نسبة الضريبة على الشركات محدّدة بنسبة 17%. وكذلك الأمر بالنسبة الى إدارة حصر التبغ والتنباك «الريجي» والتي تحقّق أرباحاً.
وفي الغضون يبرز هنا مشروع قانون إلغاء السرية المصرفية الذي يسمح للخزينة أن تعرف ما إذا كان يوجد تسرّب ضريبيّ أو لا.
وما هو النظام الضريبي الأمثل الذي يجب اعتماده في لبنان؟
من المعلوم أن النظام الضريبي في لبنان غير عادل وغير منصف، بالنسبة الى الإيرادات الناجمة عن الضريبة غير المباشرة كالـTVA والرسوم الجمركية… فهي تشكّل 70% الأمر الذي يؤثّر على الفقير كما المقتدر. وبالنسبة الى الإيرادات الناجمة عن الضريبة المباشرة على الدخل والأرباح فهي تشكّل نحو 25% والفقير يسدّد الضريبة نفسها التي يدفعها المقتدر. هذا عدا عن التسيّب والتهرّب الضريبي الذي يحصل.
لذلك، بالنسبة الى الضريبة على القيمة المضافة والعائدات من الرسوم الجمركية، فإن كلّ ما له علاقة بالإستهلاك والقرطاسية والمأكولات والأدوية لا يجب أن تفرض عليه ضريبة على القيمة المضافة للطبقة الفقيرة والمتوسطة، إذ يمكن فرض ضرائب على الكماليات، باعتبار أن من يشتري سيارة بقيمة 50 ألف دولار يمكنه أن يدفع رسماً جمركياً بقيمة 10 آلاف دولار.
فالإقتصاد اللبناني يحتاج الى 15 مليار دولار، وليحصل التعافي سنشهد نمواً وتوسيعاً في القاعدة الضريبية، علماً أن معوقات النمو هي الغياب التام للبنى التحتية.
هل وفق تلك المعادلة يحقّق الإقتصاد نموّاً؟
السير على مسلك التعافي يتطلّب حكماً تحقيق نمو في الإقتصاد، عندها تتوسّع القاعدة الضريبية من دون الحاجة الى زيادة معدّلات الضرائب. فإذا كان حجم الإقتصاد بقيمة 20 مليار دولار مع معدل ضريبي بنسبة 20% يتمّ تحقيق إيرادات للخزينة بقيمة 4 مليارات دولار، أما إذا كان حجمه 50 مليار دولار مقابل معدّل ضريبي بنسبة 20% ضريبة فتحقّق الدولة إيرادات ضريبية بقيمة 10 مليارات دولارات أي بقيمة أكبر.
وانطلاقاً من كل تلك المعطيات، تعتبر الموازنة أداةً أساسية في السياسة الإقتصادية المعتمدة في البلاد وبذلك لا يقتصر عملها على التكلفة والجباية فقط.
من هنا، لا حلّ للأزمة سوى الإتفاق مع صندوق النقد الدولي والإلتزام ببرنامج إصلاح يعطي المصداقية وبالتالي الثقة. فالثقة كفيلة بتنشيط القطاع الخاص وتوجيهه نحو الإستثمار، علماً أن معوقات جمّة تبرز أمامنا في عملية تحقيق الإصلاحات وأبرزها البنية التحتية.