انطلقت منذ بداية هذا الأسبوع اجتماعات الربيع للعام 2023، التي يعقدها في العاصمة الأميركيّة واشنطن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ومن المفترض أن تستمر فعاليّات هذه الاجتماعات لغاية مساء يوم الأحد المقبل، بمشاركة من حكّام المصارف المركزيّة أو من ينوب عنهم، ووزراء الماليّة والتنمية، وشخصيّات من المجتمع المدني والأوساط الأكاديميّة وكبار ممثلي القطاعات الخاصّة.
تخفيض تقديرات النمو العالمي
في العادة، يُنظر إلى هذا النوع من الاجتماعات كمناسبة لاستشراف آفاق نمو واستقرار الاقتصاد العالمي، واتجاهات مخاطر الديون الخاصّة والسياديّة ومعدلات التضخّم، ناهيك عن آثار أزمات الأمن الغذائي واضطرابات القطاع المالي.
وعلى هامش هذه الاجتماعات، نشر صندوق النقد تقرير “آفاق الاقتصاد العالمي-نيسان 2023″، والذّي خفّض تقديرات الصندوق لنمو الاقتصاد العالمي إلى 2.8% هذا العام، بعدما كان قدّر أن تبلغ هذه النسبة 2.9% في تقريره الأخير خلال شهر كانون الثاني الماضي.
كما خفّض التقرير تقديرات الصندوق للنمو المتوقّع خلال العام المقبل إلى 3%، بعدما بلغ هذا التقدير حدود 3.1% في كانون الثاني الماضي. أمّا العامل الأساسي الذي دفع الصندوق إلى تخفيض تقديراته للنمو الاقتصادي العالمي على هذا النحو، فكان اضطرابات المصارف الكبرى التي حدثت في أوروبا والولايات المتحدة، والتي حذّر الصندوق من تداعياتها على أداء كبرى التكتّلات الاقتصاديّة.
انكماش الاقتصاد في بريطانيا وألمانيا
من الواضح، حسب تقديرات الصندوق، أن بريطانيا ستسجّل هذا العام الأداء الأسوأ، من بين كبرى الاقتصادات المتقدمة. إذ يشير التقرير إلى أنّ الاقتصاد البريطاني سينكمش خلال هذه السنة 0.3%، ما يمثّل أسوأ نسبة انكماش مقارنة بسائر الاقتصادات الغربيّة الكبيرة. لكن من المهم الإشارة إلى أنّ هذا التوقّع يبقى أفضل من توقّعات التقرير السابق للصندوق، الذي توقّع في بداية هذا العام أن تبلغ نسبة انكماش الاقتصاد البريطاني حدود 0.6%. أما ثاني أسوأ أداء اقتصادي من بين الاقتصادات الغربيّة الكبيرة، فسيكون من نصيب ألمانيا، التي يتوقّع الصندوق أن ينكمش اقتصادها هذه السنة بنسبة 0.1%.
في المقابل، لم يغيّر الصندوق كثيرًا من توقّعاته للاقتصاد الفرنسي، الذي يفترض أن يشهد هذه السنة نموًا بنسبة ضئيلة تقارب 0.7%، فيما رفع الصندوق توقّعاته لنمو اقتصاد الولايات المتحدة إلى حدود 1.6%، بعدما توقّع سابقًا أن يقتصر هذا النمو على نسبة 1.4%. وبحسب تقرير الصندوق، تحسّنت نسبة النمو الأميركي المتوقّعة بفعل تنامي قوّة سوق العمل، وهو ما عوّض عن الضغوط الناتجة عن رفع الفوائد الأميركيّة واعتماد سياسات التشديد النقدي.
أمّا الصين، ثاني أكبر الاقتصادات العالميّة، فسترتفع معدلات النمو فيها إلى حدود 5.2%، بفعل استمرار مفاعيل فتح الأسواق هذه السنة، قبل أن يتباطأ هذا النمو إلى مستوى 4.5% خلال العام المقبل. وتوقّع الصندوق أيضًا أن تحقق اليابان نسبة نمو تقارب 1.3% فقط هذه السنة، بدلًا من توقّعات الصندوق الأكثر تفاؤلًا التي قدّرت في بداية العام الحالي أن تبلغ نسبة النمو هذه حدود 1.8%.
أمّا لبنان، فكان خارج رادار توقّعات الصندوق، إذ استعاض التقرير عن هذه التوقّعات بجملة: “بالنسبة إلى لبنان، تم حذف البيانات والإسقاطات للفترة 2021-2028، بسبب الدرجة العالية من عدم اليقين”.
التضخّم والمخاطر السلبيّة الأخرى
رفع صندوق النقد توقّعاته بالنسبة إلى معدلات التضخّم هذه السنة إلى حدود 5.1%، مقارنة بالتوقعات السابقة التي قاربت 4.5% في تقرير كانون الثاني الماضي. أمّا السبب الأساسي لهذه النظرة المتشائمة، فكانت التقارير والدراسات التي أشارت إلى أنّ نسب التضخّم “لم تبلغ الذروة بعد في العديد من البلدان”، رغم انخفاض أسعار المحروقات والغذاء مقارنة بمستويات العام الماضي.
في النتيجة، يقدّر الصندوق وجود ثلاثة عوامل أساسيّة تمثّل مخاطر سلبيّة، بما يمكن أن يؤثّر على معدلات النمو الاقتصادي العالمي:
– أولًا، استمرار الارتفاع في معدلات التضخّم، وما سينتج عن ذلك من ضغوط ستدفع المصارف المركزيّة لرفع معدلات الفوائد بشكل إضافي، وهو ما سيضغط بدوره على معدلات النمو الاقتصادي ووضعيّة القطاع المصرفي.
– ثانيًا، احتدام واستمرار المعارك في أوكرانيا، مع كل تداعياتها السلبيّة على مستوى إمدادات الطاقة والغذاء وأسعار المواد الأوليّة واهتزاز الثقة بأسواق النفط والغاز والقيود التجاريّة.
– ثالثًا، الانتكاسات المتكرّرة المتصلة بمسار تعافي الصين من تداعيات تفشّي وباء كورونا، والتي من شأنها زيادة الضغط على معدلات النمو الاقتصادي الصيني، ناهيك عن أثرها على القطاع العقاري في الصين.
خطر الاضطرابات المصرفيّة
بالإضافة إلى كل هذه المخاطر، خصّص الصندوق جزءًا من النقاشات للتحذير من مخاطر الاضطرابات المصرفيّة، التي عصفت مؤخرًا في الولايات المتحدة الأميركيّة وأوروبا. وبحسب خبراء الصندوق، من المحتمل أن تتكرّر هذه الاضطرابات بمجرّد تعرّض الحلقات الضعيفة في النظام المصرفي العالمي لاختبارات قلق المستثمرين، تمامًا كما حصل في كريدي سويس. وجميع هذه الضغوط، قد تسهم في النتيجة في تقليص معدلات النمو الاقتصادي العالمي، بمعدلات قد تتراوح بين 0.3% و2.5%.
وأشار تقرير الصندوق كذلك إلى أنّ اضطرابات المصارف قد تؤدّي في النهاية إلى تقليص معدلات الإقراض في الدول الغربيّة، ما سيسهم تلقائيًا في تقليص معدلات الاستهلاك والنمو. كما قد تسهم هذه الاضطرابات في هروب المستثمرين والمودعين من النظام المالي، باتجاه الاستثمار في أصول أكثر أمانًا على المدى البعيد، ما سيزيد من ضغوط السيولة القائمة اليوم.
في خلاصة الأمر، عبّرت اجتماعات الربيع وتقرير الصندوق عن نوعيّة الضغوط التي يتعرّض لها الاقتصاد العالمي، بفعل العوامل التي تقاطعت خلال الأعوام الثلاثة الماضية. أمّا لبنان، فبدا غائبًا تمامًا عن مناقشات يفترض أن تتصل بالعوامل الخارجيّة التي يتأثّر بها في الوقت الراهن. حاكم المصرف المركزي لم يحضر طبعًا، ربما خشية من إمكانيّة توقيفه بناءً على مذكرات إحضار أجنبيّة، فأوفد نائبه الأوّل نيابة عنه. أمّا حضور نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، فكان خارج إطار أي اهتمام سياسي أو رسمي أو إعلامي محلّي. ومرّة جديدة، بدا أن لبنان خارج هذا العالم اقتصاديًا.