في الميزانيّة النصف شهريّة، التي تعكس وضعيّة المصرف المركزي في نهاية الربع الأوّل من السنة، كان ملفتًا ارتفاع قيمة بند احتياطات الذهب في الميزانيّة إلى حدود 18.23 مليار دولار، فيما لم تبلغ قيمة هذا البند أكثر من 16.38 مليار دولار في منتصف شهر كانون الأوّل الماضي. بمعنى آخر، ارتفعت قيمة هذا البند بحدود 1.85 مليار دولار، خلال فترة لم تتجاوز الثلاثة أشهر ونصف الشهر.
مصدر هذه المكاسب، ليس سوى ارتفاع أسعار الذهب في الأسواق العالميّة، بفعل الاضطرابات التي تعصف بالنظام المالي العالمي، ولجوء المستثمرين للذهب كملاذ آمن. لكن بالنسبة لمصرف لبنان، كان ارتفاع قيمة الذهب على هذا النحو أشبه بورقة لوتو، عزّزت قيمة الموجودات الفعليّة في الميزانيّة بمكاسب مجّانيّة. أمّا الأهم، فهو أنّ قيمة هذه المكاسب تخطّت -خلال الفترة نفسها- حجم الاستنزاف في احتياطات مصرف لبنان، نتيجة تدخّلاته في السوق وضخّه الدولارات من خلال منصّة صيرفة.
استنزاف الاحتياطات ومكاسب الذهب
بين الفترتين، تشير الميزانيّة النصف شهريّة إلى أنّ حجم السيولة المتوفّرة لدى مصرف لبنان قارب حدود 9.4 مليار دولار في نهاية الربع الأوّل من السنة، أي في أواخر شهر آذار. مع العلم أنّ حجم هذه السيولة كان يوازي حدود 10.25 مليار دولار في منتصف شهر كانون الأوّل الماضي، أي قبل نصف شهر من بداية العام، ما يعني أنّ استنزاف السيولة منذ ذلك الوقت قارب 850 مليون دولار. ورغم أهميّة هذا الرقم وضخامته، بالنسبة إلى فترة محدودة لا تتخطّى الثلاثة أشهر ونصف الشهر، تبقى هذه القيمة أقل من 46% من المكاسب التي حققها مصرف لبنان نتيجة ارتفاع قيمة بند احتياطات الذهب.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ عمليّات منصّة صيرفة تمثّل تحديدًا المصدر الأساسي لكل هذا الاستنزاف. فعلى سبيل المثال، قارب حجم عمليّات المنصّة خلال النصف الثاني من شهر آذار حدود 623 مليون دولار، في حين أنّ حجم الاحتياطات المتوفّرة لدى المركزي تقلّص بنحو 65.96 مليون دولار خلال الفترة نفسها. وهذا ما يشير بوضوح إلى أنّ أكثر من 10% من حجم التداول اليومي في عمليّات المنصّة مصدره السيولة التي يتم ضخّها من الاحتياطات. ومن الواضح أيضًا أن إحجام مصرف لبنان عن امتصاص الدولارات من السوق خلال الأسابيع الماضية زاد من الضغط على الاحتياطات التي يتم تخصيصها للتدخّل في السوق.
في كل الحالات، وبالعودة إلى مكاسب ارتفاع أسعار الذهب، من المعلوم أنّ مصرف لبنان يقوم بقيد هذا النوع من المكاسب كأرباح ناتجة عن إعادة تقييم الموجودات. وهو ما يظهر في العادة في حساب الأرباح والخسائر الخاص بالمصرف. بمعنى آخر، من المفترض أن يسهم هذا التطوّر بالتحديد في تقليص محدود، ولكن مؤثّر، في حجم الخسائر التي سيتم التعامل معها لاحقًا في ميزانيّة المصرف المركزي. ولكن معرفة حجم وأثر هذا التطوّر سيكون متعذّرًا في الوقت الراهن، قبل إعادة هندسة الميزانيّات من جديد بشكل شفّاف وواضح، خصوصًا أن الميزانيّات الغامضة التي يتم نشرها اليوم لا تسمح بتتبّع حجم أو نسبة الخسائر في الميزانيّة بشكل دقيق.
خسائر المصارف على كاهل الدولة
الحديث عن غموض الميزانيّات وفنون الهندسات، يأخذنا تلقائيًا لمراجعة بند الموجودات الأخرى. البند الذي أخفى، تاريخيًا، خسائر مصرف لبنان الناتجة عن تعاملاته مع المصارف، ومنها تلك المتصلة بالهندسات الماليّة والأرباح الخياليّة التي تم منحها لأصحاب المصارف، على حساب أموال المودعين المودعة في مصرف لبنان. في هذا البند، لطالما سجّل سلامة الخسائر على أنّها “موجودات” وهميّة، باعتماد معايير محاسبيّة اختلقها الحاكم بقرار منه.
في نهاية آذار، تقلّص حجم بند الموجوات الأخرى، أي الخسائر المتراكمة، إلى نحو 10 مليار دولار بقدرة قادر، بعد أن تجاوز في نهاية كانون الثاني الماضي، أي قبل شهرين، حدود 94.46 مليار دولار. ما نعلمه حتّى اللحظة، هو أنّ ما تغيّر بين الفترتين هو التالي: تم اعتماد سعر صرف 15 ألف ليرة للدولار للتصريح عن الميزانيّات، بدل 1507.5 ليرة للدولار. وتمت إضافة 16.5 مليار دولار من الديون على الدولة اللبنانيّة، بقرار فردي من رياض سلامة، بعد أن لجأ الحاكم إلى احتساب عمليّات القطع (شراء الدولار) منذ العام 2007 كديون على الحكومة (راجع المدن). مع الإشارة إلى أنّ هذه الخطوة الغريبة جاءت كحيلة أو خدعة محاسبيّة، خصوصًا أنّ المركزي استحصل خلال الفترة نفسها على كميّات أكبر من العملة الصعبة، على حساب المال والدين العام، من دون أن يسجّلها كديون لصالح الدولة (راجع المدن).
في كل الحالات، من الصعب اليوم تحليل كل تفاصيل أحجية انخفاض حجم بند الموجودات الأخرى، نظرًا لضخامة الانخفاض في حجم هذا البند. لكن الواضح والأكيد حتّى الآن، هو أن المركزي قلّص حجم الخسائر المصرفيّة، التي كان يفترض أن يتعامل معها أصحاب المصارف، لمصلحة تحميل هذه الخسائر لدافعي الضرائب، أي عموم الشعب اللبناني. والأكيد أيضًا، أن وزير الماليّة –الموظّف أيضًا في مصرف لبنان- مازال صامتًا، ولم يقدّم أي تفسير بخصوص ما جرى في ميزانيّة المصرف المركزي. وعلى أي حال، من المعلوم أن يوسف الخليل يمثّل اليوم أحد المتورّطين التاريخيّين في العمليّات الملتبسة التي جرت داخل مصرف لبنان، والتي ساهمت في تراكم الخسائر على هذا النحو، من خلال موقعه كمدير للعمليّات في مصرف لبنان.
في خلاصة الأمر، مازالت الميزانيّة النصف شهريّة مليئة بالإلتباسات التي لم تتضّح تفاصيلها بعد، بينما يتمنّع وزير الماليّة حاليًا عن نشر التدقيق المحاسبي الذي جرى مؤخّرًا في مصرف لبنان، والذي يفترض أن يعكس وضعيّة المصرف الفعليّة. أمّا التدقيق الجنائي، الذي يفترض أن يُظهر أسباب تراكم الخسائر على هذا النحو، فلم يُعرف مصيره بعد.