لا… ليس 80% من اللبنانيّين فقراء

80% من اللبنانيين تحت خط الفقر… هذا الخبر ليس جديداً. تعلنه المنظمات الدولية منذ أشهر، وتؤكّده وزارتا الشؤون الاجتماعية والخارجية، وعلى الرغم من ذلك يسأل المراقبون: لماذا لا يثور الناس؟ لماذا ما زالوا صابرين على هذا الفقر والتضخّم في سعر الصرف؟ ألم يحن الوقت للانتفاض مجدّداً؟

التدقيق في أرقام خط الفقر، ثمّ ربطها بهذه الأسئلة، يجعلان الباحث في هذا الواقع أشدّ دقّة وحرصاً في إطلاق الأحكام. عمليّاً يمكن القول إنّ هذه المؤسّسات تستند في تقديراتها إلى بيانات الدولة اللبنانية الرسمية، التي تُعتبر “قديمة” نسبياً، ولا تعطي صورة واضحة عن شكل الاقتصاد اللبناني الحالي ولا عن بنيته أو حال أغلب اللبنانيين الحقيقية. وهي بنية تتغيّر وتتحوّل بشكل يومي تقريباً على مستوى الأفراد والمؤسسات الصغيرة، في غياب “رؤية وطنية” للتعافي.

اقتصاد الظلّ: 8 مليارات $

تشير التقديرات إلى أنّ “اقتصاد الظل” في لبنان يتوسّع منذ بداية الأزمة، وقد وصل اليوم إلى قرابة 8 مليارات دولار. تقول بعض التقديرات إنّه بين 50% و60% من أصل الناتج المحلي اللبناني، فيما تقديرات أخرى تقول إنّه أقلّ من ذلك بسبب التضارب في تقدير حجم الناتج المحلي الناتج بدوره عن اقتصاد الظلّ نفسه.

في تعريف “اقتصاد الظلّ”، تعتبر الأمم المتحدة أنّه ذاك الاقتصاد الذي يتكوّن من “أنشطة منتِجة بالمعنى الاقتصادي، وهي أيضاً أنشطة قانونية في المبدأ”، لكنّها “مخفيّة عمداً” عن السلطات العامّة بدافع تفادي دفع الضرائب أو دفع اشتراكات الضمان الاجتماعي أو الالتفاف على معايير أو متطلّبات معيّنة. وتُضاف إليه طبعاً كلّ الأعمال غير المشروعة وما ينتج عنها من تربّح، مثل تجارة الأسلحة والمخدّرات والبشر وغيرها.

وفق هذا التعريف، وفي ظلّ الفوضى المستشرية، يمكن الاستنتاج أنّ أكثر من نصف الاقتصاد في لبنان بات “اقتصاد ظلّ”: غير خاضع لمعايير وزارة المالية وبياناتها، ويتحرّك خارج القطاع المصرفي، وخارج موازنات الدولة اللبنانية، خصوصاً أنّ سلوك السلطة الحالية وسلوك مصرف لبنان باتا يدفعان نحو تعزيز هذا النوع من الاقتصاد.

هل الـ80% رقم حقيقيّ؟

ربطاً بهذا كلّه، الأمر الأكيد هو أنّ الدولة اللبنانية لا تستفيد من تلك المليارات الـ8 بأيّ دولار. وهي أيضاً خارج القطاع المصرفي ولا يمكن تعقّب تحرّكاتها. وبالتالي فإنّ كلّ ما يُساق ويُبنى على رقم “80%” هو تقديرات قد تكون غير دقيقة للسببين التاليَين:

– أوّلاً، لأنّه مبنيّ على أرقام الدولة القاصرة.
– ثانياً، نتيجة الفوضى التي دفعت بالمواطنين إلى التكيّف مع الأزمة.

كيف ذلك؟

تعالوا ندقّق بهذه “الحسبة”، ولنفترض أنّ عدد اللبنانيين المقيمين على الأراضي اللبنانية هو 4 ملايين تقريباً. فكم هو عدد المتكيّفين مع الأزمة الذين استطاعوا أن “يُسلّكوا” أمورهم اليوم؟ وحينما نقول “متكيّفين” فلا يعني ذلك أبداً أنّهم مرتاحون وميسورون، بل هم من الذين استطاعوا التأقلم مع الأزمة بالحدود المعقولة.

– 2 مليون يعتاشون من ودائعهم: تقول المصارف إنّ عدد الحسابات المصرفية لديها نحو 1.5 مليون حساب، وطبعاً هناك احتمالات كبيرة أن يكون لكلّ شخص حسابان أو 3 حسابات. فلنقل إنّ عدد الأشخاص الذين يملكون حسابات هو 500 ألف، أي نصف مليون مواطن، وإذا اعتبرنا معدّل العائلة الواحدة 4 أفراد، فهذا يعني أنّ قرابة 2 مليون يتكيّفون مع الأزمة من خلال ودائعهم وما يتحصّلون عليه منها.

هؤلاء يستنزفون ودائعهم بموجب التعميم 161 (اللولار 15 ألف ليرة). بعضهم يستفيد من التعميم 158 فيحصل على جزء من وديعته بالدولار (400 فريش و400 على سعر صرف 15 ألف ليرة). فيما كلّهم يملكون القدرة على النفاذ إلى منصة “صيرفة”، التي شكّلت لكلّ من يملك مدّخرات في المنزل وحساباً مصرفياً (خصوصاً النافذين منهم) فرصة للاستفادة من دولاراته، إذ يصرّفها إلى ليرات ويودعها في حسابه المصرفي محقّقاً بين 5% و10% إضافية من قيمة ما أودعه. صحيح أنّ هذه اللعبة موسمية لكنّها باب لإسكات الناس، ومتنفّس للتكيّف بمعدّل مرّة كلّ شهرين على الأقلّ. وتراوح أرباحها بين 100 و3,000 دولار للحساب الواحد.

– مليون مواطن يتلقّون “مساعدات” من الخارج: تشير آخر الأرقام إلى أنّ عدد التحويلات، التي تأتي من الخارج عبر شركات تحويل الأموال العاملة في لبنان، يبلغ قرابة 300 ألف تحويل شهرياً one to one، وهذا يعني أنّ هناك 300 ألف عائلة تستفيد من هذه التحويلات. وإذا افترضنا أنّ العائلة الواحدة تتكوّن من 4 أشخاص، فهذا يعني أنّ نحو 1.2 مليون لبناني يستفيدون من التحويلات الخارجية بالدولار.

– مليون مواطن في القطاع الخاصّ على طريق التكيّف الكامل: هناك موظّفو القطاع الخاص من الذين يعملون مع جهات خارجية. وهؤلاء لا إحصاءات دقيقة يمكن أن تخبرنا عن أعدادهم، إلّا أنّ الأموال التي يتلقّونها عبر الحوالات في المصارف من الخارج (شركات، جهات دولية، منظمات غير حكومة)، ليست قليلة. إذ تشير المعلومات إلى أنّ حجم كتلة “الفريش دولار” في المصارف اليوم، على الرغم من انهيار ثقة المواطنين بالمصارف، هي نحو 3 مليارات دولار على شكل ودائع طازجة، وهذه طبعاً يملكها أفراد وشركات يعملون في لبنان ويتلقّون عائداتهم من الخارج أو من الداخل. وهؤلاء يمكن تقديرهم بما لا يقلّ عن مليون مواطن بين موظّفي مهن حرّة (محامٍ وطبيب ومهندس وأصحاب مؤسّسات متوسّطة وصغيرة مثل مطاعم ومقاهٍ وفنادق…) وعمّال في شركات ومؤسّسات “تدولرت” في الأعوام الأخيرة.

– المهن الحرّة تتحوّل إلى الدولار: يضاف إلى هؤلاء أصحاب الحرف، مثل الحدّادين والنجّارين والصناعيين والكهربائيين وغيرهم. هؤلاء “دولروا” خدماتهم، وما عادوا يرضون أن يتقاضوا أتعابهم إلّا بالدولار الأميركي منذ أن استفحلت الأزمة منتصف عام 2020. وهؤلاء يمكن تقديرهم بعشرات أو مئات الآلاف.

– موظّفو القطاع العامّ والمؤسّسات العسكرية: يقدّر هؤلاء بـ280 ألفاً، وهم يقبضون رواتبهم على أسعار صرف تراوح بين 8 آلاف ليرة (القضاة) و60 ألف ليرة (الموظفون المدنيون)، إضافة إلى ما يتحصّل عليه العسكريون في الجيش اللبناني من مساعدات عينيّة و”فريش” تمكّنهم من “الصمود” شهراً تلو آخر.

– “المضاربة”: مهنة من لا مهنة له: عدد كبير من اللبنانيين لا يمكن إحصاؤه باتوا صرّافين. يمتهنون المضاربة وبيع وشراء الدولارات والليرات. العدوى تتوسّع وأعداد هؤلاء تزداد يوماً بعد يوم، إلى أن باتت تلك الحرفة المستجدّة وظيفة لكلّ عاطل عن العمل، أو بمنزلة وظيفة ثانية إضافية يلجأ إليها كلّ من يطمح إلى تحسين دخله لسدّ ما تيسّر من الاحتياجات اليومية.

تشير كلّ هذه الأرقام صراحة إلى أنّ “اقتصاد الظلّ” أو “اقتصاد الكاش المدولر” بات أكبر من الاقتصاد الرسمي، وهو آخذ بالتوسّع نتيجة سياسات الحكومة ومصرف لبنان. وهذا يدلّ على أنّ من استطاعوا التكيّف هم تقريباً أكثرية المواطنين. بينما معدومو الحال هم الفئة التي ما زالت تحصل على رواتبها بالليرة اللبنانية فقط، وهم غالباً موظّفو القطاع العام من غير المشمولين بالمساعدات العينية والمعاملة الخاصّة، مع عدد قليل من موظّفي القطاع الخاص المظلومين في رواتبهم حتّى الساعة.

لا.. ليس 80% من اللبنانيين تحت خطّ الفقر. راجعوا حساباتكم، وستعرفون لماذا “لا أحد يريد أن يثور”.

مصدرأساس ميديا - عماد الشدياق
المادة السابقةماذا عن ورقة المليون ليرة؟
المقالة القادمةرقمٌ كبير لسعر الدولار إذا عُدّلت المادة 47… ما علاقة حاكمية المصرف؟!