تسيطر على المودعين حال انعدام الثقة بمصرف لبنان والمصارف، مهما اختلفت الإجراءات والتعاميم بشأن ودائع مُحتجزة منذ خريف العام 2019 من دون أي مسوّغ قانوني. ولا شك أن حال انعدام الثقة مُبرّرة، بالنظر لما يواجه المودعون من إجراءات مُجحفة بحقهم، وأساليب مُلتوية لطالما استهدفت تذويب الودائع، لا سيما الصغيرة منها.
وليس التعميمان 151 و158 سوى دليل قاطع على تعمّد مصرف لبنان فرض اقتطاعات مجحفة بحق أموال المودعين، تتجاوز نسبة 85 في المئة من القيمة الحقيقية للودائع. لكن لا بد من توضيح المستجدات التي طرأت حديثاً على التعميم 158، أسبابها وكيفية الاستفادة منها.
المستفيدون من التعميم 158
عدّل مصرف لبنان بموجب تعميم وسيط صدر يوم أمس التعميم 158 الصادر في تاريخ 8 حزيران 2021، المتعلّق بالإجراءات الاستثنائية للتسديد التدريجي للودائع بالعملات الأجنبية. التعميم 158 كان يتيح للعملاء سحب 800 دولار فقط من حساباتهم شهرياً، منها 400 دولار فريش و400 دولار نصفها بالليرة اللبنانية نقداً على سعر صرف 15 ألف ليرة ونصفها الآخر بالليرة أيضاً، يتم استخدامها عبر البطاقة المصرفية في نطاق البيع حصراً.
تلك الآلية التي سادت على مدار أكثر من عامين، رفضها الكثير من العملاء، باعتبارها مجحفة بحق ودائعهم وتمارس الهيركات بحقها. إذ أن التعميم 158 كان يُلزم المودع بسحب 400 دولار بالليرة اللبنانية على سعر 15000 ليرة قسراً، على الرغم من ارتفاع سعر صرف الدولار إلى محيط 140 الف ليرة خلال مدة سريان التعميم.
بمعنى آخر، تعمّد مصرف لبنان فرض هيركات واقتطاع ما يفوق 85 في المئة من قيمة 400 دولار شهرياً من ودائع العملاء بموجب التعميم 158. وهو ما دفع بالكثير من العملاء إلى رفض التوقيع على التعميم 158 وعدم الاستفادة منه.
وحسب أرقام مصرف لبنان، بلغ عدد المستفيدين سابقاً من التعميم 158 ما مجموعه 180976 عميل، حتى نهاية شهر نيسان 2023. وقد بلغ المبلغ الإجمالي المدفوع لهؤلاء العملاء أكثر من مليار و778 مليون دولار (أو ما يوازي 1.778.604.896 دولار) منها 889.474.488 دولار أميركي، دفعت نقداً مناصفة بين مصرف لبنان والمصارف.
ما يعني أن قرابة 181 ألف مودع تم فرض هيركات على أموالهم، وسُلبت منهم آلاف الدولارات عنوة تحت سقف التعميم 158.
ما الذي تغيّر بالتعميم 158
أما اليوم، فالمستفيدون من التعميم 158 بات بإمكانهم سحب 400 دولار نقداً (فريش) من حساباتهم من دون أن يكونوا ملزمين بسحب 400 دولار بالليرة على اساس سعر 15000 ليرة للدولار. بمعنى آخر، لن يتم اقتطاع جزء من ودائع المستفيدين من التعميم 158. الآلية الجديدة توحي بتطبيق أحد إجراءات الكابيتال كونترول وإن بشكل غير مقونن. فالعميل بإمكانه سحب جزء من وديعته لا تتعدى 300 دولار، من دون أن يخسر من وديعته مبلغاً إضافياً أي من دون الخضوع لعملية هيركات جديدة.
لكن لا بد من الالتفات إلى مسألة سحب المبلغ النقدي في وقت لاحق، أي 400 دولار، فإنها ستتقلص إلى 300 دولار فقط. فالتعميم الجديد ميّز بين المستفيدين من التعميم 158 القدامى والجدد. وقد خفّض سقف السحوبات لمن يستفيد من التعميم بعد الأول من تموز 2023 من 400 إلى 300 دولار.
أما من يستفيد بوقت سابق من التعميم 158 فإنه سيستكمل عمليات السحب على أساس 400 دولار شهرياً، إلى حين نفاد المبلغ المحوّل إلى حسابه الفرعي بموجب التعميم المذكور. فالعميل عندما يوقّع على التعميم 158 يقوم المصرف بتحويل المبلغ الذي سيستفيد منه على مدار عام كامل الى حسابه المتفرع، وعليه فالحسابات المتفرعة للمستفيدين حالياً من التعميم 158 كانت تحوي 4800 دولار سنوياً (400 دولار شهرياً)، أما الحسابات الجديدة فستحوي 3600 دولار سنوياً (300 دولار شهرياً). وذلك لأن جدولة الدفعات تتم بشكل سنوي، أي أن المصرف يقوم بتحويل مبلغ محدد يغطي 12 دفعة على مدار عام.
وحسب أجواء المصارف، فالكثير من المودعين أقدموا على الاستفسار عن تعديل التعميم 158، ووافقوا على التوقيع عليه باعتباره أقل إجحافاً مما سبق. بانتظار إصدار مصرف لبنان الآلية التنفيذية للتعميم، وتعميمها على المصارف للمباشرة بتطبيق التعميم معدّلاً.
كابيتال كونترول لا هيركات
قد يفسّر البعض تعديل التعميم 158 بوقف الهيركات على المودعين، باعتبار إعفائهم من سحب 400 دولار بالليرة على أساس سعر صرف 15000 ليرة للدولار. إلا أن الواقع يقول إن مصرف لبنان يجهد بشتى الوسائل إلى تجفيف الليرة من السوق في سبيل خفض سعر صرف الدولار في السوق السوداء، أو أقله للمحافظة على سعر الصرف عند مستوياته الحالية (في محيط 91000 ليرة).
فالتعديل لم يستهدف إنصاف المودعين بشكل مباشر، وإلا لكان على مصرف لبنان رفع الدولار المصرفي بموجب التعميم 151 إلى سعر منصة صيرفة بالحد الأدنى أو لكان حدد للمستفيدين من التعميم 158 الـ400 دولار فريش وأخرى على سعر منصة صيرفة بدلاً من 15000 ليرة.
بالمحصّلة قد يخفف تعديل التعميم 158 من الإجحاف بحق المودعين وسيدفع بالكثيرين منهم للإستفادة من التعديل الجديد على الرغم من أن عمليات السحب من الودائع لن تتجاوز 300 دولار شهرياً. فـ”الكابيتال كونترول” بحق الودائع أقل إجحافاً من “الهيركات”.