تتربص نذر الخسائر المؤلمة بالكثير ممن استثمروا في قطاع العقارات بسبب التقلبات التي لا تزال تلقي بظلالها القاتمة على الاقتصاد العالمي وتجعل القطاع المصرفي في دوامة بدوره لم يعهدها منذ فترة طويلة.
ويعد ارتفاع أسعار الفائدة والتضخم العنيد والظروف الاقتصادية القاسية أعداء مألوفين لمشتري العقارات التجارية المخضرمين، الذين يتغلبون عادة على العواصف في انتظار ارتفاع الطلب على الإيجارات وانخفاض تكلفة الاقتراض.
ونادرا ما تؤدي فترات الانكماش الدوري إلى حدوث مبيعات سريعة، طالما أن المقرضين واثقون من أن المستثمر يمكنه سداد قرضه وتظل قيمة الأصل أعلى من الدين المقرض مقابله.
لكن هذه المرة، يحذر محللون وأكاديميون ومستثمرون قابلتهم رويترز من أن الأمور قد تكون مختلفة.
ومع العمل عن بعد الآن بشكل روتيني للعديد من الشركات العاملة في المكاتب والمستهلكين الذين يتسوقون بشكل اعتيادي عبر الإنترنت، فإن مدنا مثل لندن ولوس أنجلس ونيويورك مليئة بالمباني التي لم يعد السكان المحليون يرغبون فيها أو يحتاجون إليها.
وهذا يعني أن قيم ناطحات السحاب في وسط المدينة ومراكز التسوق مترامية الأطراف قد تستغرق وقتا أطول للارتداد. وإذا تعذر العثور على مستأجرين، فإن الملاك والمقرضين يخاطرون بخسائر أكثر إيلاما مما كانت عليه في الدورات السابقة.
وقال ريتشارد مورفي، أستاذ ممارسة المحاسبة في جامعة شيفيلد البريطانية، لرويترز “بدأ أرباب العمل يدركون أن بناء منشآت عملاقة لتخزين موظفيهم لم يعد ضروريا”.
وأضاف “يجب أن يشعر الملاك التجاريون بالقلق. سيكون من الحكمة أن يترك المستثمرون فيها الآن”.
وذكرت وكالة موديز إنفستورز سيرفيس في يونيو الماضي أن البنوك العالمية تمتلك نحو نصف ديون العقارات التجارية المستحقة البالغة 6 تريليونات دولار، مع استحقاق أكبر حصة في 2023 – 2026.
وكشفت البنوك الأميركية عن خسائر متصاعدة من الممتلكات في أرقام النصف الأول من 2023، وحذرت من المزيد في المستقبل.
وقال المقرضون العالميون لصناديق الاستثمار العقاري الصناعية والمكتبية في الولايات المتحدة إن “الشركات في القطاع أصبحت الآن أكثر عرضة بنسبة 17.9 في المئة للتخلف عن سداد الديون عما كانت تتوقعه قبل ستة أشهر”.
وهذه المعطيات قدمها المقرضون الشهر الماضي لمزود البيانات كريدت برنماركت بشأن تقييمات مخاطر الائتمان. وكان المقترضون في فئة العقارات والتطوير العقاري في المملكة المتحدة أكثر عرضة بنسبة 4 في المئة للتخلف عن السداد.
وقال جيفري شيرمان، نائب كبير مسؤولي الاستثمار في شركة دوبل لاين للاستثمار الأميركية البالغة 92 مليار دولار، إن “بعض البنوك الأميركية كانت قلقة من تقييد السيولة الثمينة في عمليات إعادة تمويل العقارات التجارية المستحقة في العامين المقبلين”.
وأكد أن “هروب الودائع يمكن أن يحدث في أي يوم”، مشيرا إلى انتقال ودائع العملاء من البنوك إلى صناديق أسواق المال وسندات الخزينة ذات العائد المرتفع “الخالية من المخاطر”.
وقال شيرمان “طالما أن الاحتياطي الفيدرالي يحافظ على أسعار الفائدة مرتفعة، فإنها قنبلة موقوتة”.
ومع ذلك، لا يزال بعض صانعي السياسة العالميين واثقين من أن التحول بعد الوباء في مفهوم معنى “الذهاب إلى العمل” لن ينذر بأزمة ائتمان على غرار 2008 – 2009.
وانخفض الطلب على القروض من الشركات في منطقة اليورو إلى أدنى مستوى له على الإطلاق في الربع الماضي.
كما وجدت “اختبارات الإجهاد” السنوية لمجلس الاحتياطي الأميركي (البنك المركزي) أن البنوك في المتوسط ستعاني من انخفاض معدل خسارة القروض المتوقع في 2023 مقارنة بعام 2022.
وبنى المجلس تقييمات في ظل سيناريو قاس يبلغ 40 في المئة من الانخفاض في قيم العقارات التجارية.
وتراجع متوسط قيم العقارات التجارية في المملكة المتحدة بالفعل بنحو 20 في المئة من ذروتها دون التسبب في انخفاض قيمة القروض بشكل كبير.
وأشار مصدر تنظيمي كبير لرويترز، لم تذكر هويته، إلى أن البنوك البريطانية لديها تعرض عقاري أقل بكثير كنسبة من إجمالي الإقراض مقارنة بما كانت عليه قبل 15 عاما.
لكن تشارلز هنري مونشاو، كبير مسؤولي الاستثمار في بنك سيز، شبّه تأثير التشديد الشديد لسعر الفائدة على الصيد بالديناميت. وقال “عادة ما تأتي الأسماك الصغيرة إلى السطح أولا، ثم تأتي الأسماك الكبيرة والحيتان أخيرا”.
وأضاف “هل كان كريدي سويس هو الحوت؟ هل كان سيلكون فالي بنك هو الحوت؟ سنعرف بعد ذلك فقط. لكن الحوت يمكن أن يكون عقارا تجاريا في الولايات المتحدة”.
ونشرت شركة الخدمات العقارية العالمية “جونز لانج لاسال” بيانات الشهر الماضي تظهر نمو إيجارات المكاتب الرئيسية في نيويورك وبكين وسان فرانسيسكو وطوكيو وواشنطن العاصمة في نفس الفترة.
وكانت لاسال قد أشارت في مايو الماضي إلى انخفاض سنوي بنسبة 18 في المئة في أحجام التأجير العالمي للربع الأول من 2023.
وفي شنغهاي، المركز المالي الرئيسي في الصين، ارتفعت معدلات الشواغر في المكاتب بمقدار 1.2 نقطة مئوية على أساس سنوي في الربع الثاني إلى 16 في المئة، حسبما قالت شركة سافيلس المنافسة. ويقول محللون إنه بناء على ذلك فإن مسار التعافي سيعتمد على نجاح سياسات التحفيز على مستوى البلاد.
وتتعرض الشركات أيضا إلى ضغوط لتقليص بصمتها الكربونية، حيث إن بنك أتش.أس.بي.سي من بين أولئك الذين يقطعون مقدار المساحة التي يستأجرونها وينهون عقود الإيجار في المكاتب التي لم تعد تعتبر “خضراء” بما فيه الكفاية.
وترى شركة جي.أل.أل أن أكثر من مليار متر مربع من المساحات المكتبية على مستوى العالم ستحتاج إلى تعديل تحديثي بحلول عام 2050، مع زيادة المعدلات الحالية ثلاث مرات إلى ما لا يقل عن 3 و3.5 في المئة من المخزون سنويا لتلبية أهداف صافي الصفر.
وكان أكبر صندوق معاشات تقاعدية في أستراليا، وهو أسترليان سوبر بقيمة 200.4 مليار دولار، من بين أولئك الموجودين على الهامش، حيث قال في مايو إنه “سيعلق الاستثمار الجديد في الأصول المكتبية والتجزئة غير المدرجة بسبب ضعف العائدات”.
وفي غضون ذلك، يستمر البائعون على المكشوف في الالتفاف حول مالكي العقارات المدرجين في جميع أنحاء العالم، ويراهنون على أن أسعار أسهمهم ستنخفض.
ونما حجم الأسهم العقارية التي أقرضها المستثمرون المؤسسون لدعم نشاط البيع على المكشوف بنسبة 30 في المئة في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا و93 في المئة في أميركا الشمالية على مدى 15 شهرا حتى يوليو، وفقا لمزود البيانات هاولتري.
وتتوقع شركة كابيتال إكونومكيس أن تبلغ عائدات العقارات العالمية حوالي 4 في المئة سنويا خلال هذا العقد، مقارنة بمتوسط ما قبل الجائحة الذي بلغ 8 في المئة، مع تحسن طفيف فقط متوقع في ثلاثينات القرن الحالي.
وقالت الشركة “يجب أن يكون المستثمرون على استعداد لقبول علاوة مخاطر أقل على الممتلكات”. كما “ستبدو الملكية مبالغا في قيمتها وفقا لمعايير الماضي”.