لم يعد هناك ما يُبهج القلب فعلًا في تذكّر إسم رياض سلامة اليوم، أو في استحضار إرثه ومراجعة مسيرته، بعدما غادر مكتبه في بداية هذا الشهر، وبات مجرّد حاكم سابق لمصرف لبنان. بل وحتّى قبل أن يغادر الرجل منصبه، كان معظمنا قد شعر بالملل –أو ربما اليأس- من تعداد سلسلة الفضائح الطويلة المرتبطة بإسمه وقراراته، في ظل المسرحيّات والمناورات القضائيّة التي كانت تفضي دومًا إلى نتيجة واحدة: بقاء الرجل حرًا طليقًا، في تجسيد مقزّز لمشهد الإفلات من العقاب الذي بات مألوفًا في لبنان. لذلك، ربما كان كثيرون يفضّلون لو عالجت سطور هذا المقال سياسات المصرف المركزي في مرحلة ما بعد سلامة، بدل العودة إلى حكايانا البائسة والمضجرة مع الحاكم السابق.
لكنّ الأمور، في هذه النقطة من الزمن، لم تعد بهذه البساطة. فحجم الأوساخ المتراكمة تحت السجّادة، عبر السنوات الماضية، لم يعد يسمح بتجاوزه والمضي قدمًا بسهولة. والكثير مما يجب فعله الآن، لا يمكن إلّا أن يتحدّد بحسب ما جرى في الماضي في مصرف لبنان، من جهة الأسباب والمسؤوليّات ونوعيّة المستفيدين. وإذا كانت الأوراق تكشف جزءًا يسيرًا من الفظائع التي جرت، بحسب ما تبيّن في تقارير التدقيق المحاسبي والجنائي الثلاث، فالجزء الأكبر مازال بحوزة سلامة نفسه، الذي امتلك منفردًا مفاتيح الحل والربط في المصرف في تلك الفترة، كما تؤكّد التقارير نفسها.
كل هذا المشهد يدفع للسؤال: ما سرّ بقاء هذا الرجل خارج السجن حتّى اللحظة، بالرغم من كل ما كشفته تقارير التدقيق والتحقيقات؟ وهذا السؤال لا يتصل فقط بمسألة تحقيق العدالة، التي تفرض قبل كل شيء محاسبته، بل تتصل بضرورة الحصول على ما بحوزته من معلومات قادرة على إكمال الصورة، التي رسمت بعضًا منها تقارير التدقيق الثلاث.
التدقيق الجنائي يشرح قصّة النهب العظيم
منذ حصول الانهيار، دأب اللوبي المصرفي –صاحب الأذرع الطويلة في الإعلام والسياسة في لبنان- على ربط أزمة القطاع المالي بأمور عديدة: تارة عبر القول أنّ الشعب اللبناني مجتمعًا استنزف أموال المودعين منذ التسعينات، عبر سياسة تثبيت سعر الصرف وتمويل الاستيراد، وطورًا عبر الانهيار بسلسلة الرتب والرواتب وتضخّم أجور العاملين في القطاع العام. وفي كل تلك السرديّات، تم تغييب السبب الأساسي والفعلي لكل ما جرى، أي “البونزي سكيم” كما سمّاه البنك الدولي بعبارة حكيمة ودقيقة، في إشارة لوجود مخطط نهب احتيالي ومتعمّد. هذا المخطط، هو ما رسمت معالمه ألاساسيّة آلفاريز آند مرسال في تقريرها.
في تقرير التدقيق الجنائي، الذي أعدته شركة آلفاريز آند مرسال، يتبيّن أن صافي احتياطات العملات الأجنبيّة لدى مصرف لبنان، أي الفارق بين إلتزاماته وموجوداته، سجّل فائضًا بحلول نهاية العام 2015، وبقيمة ناهزت الـ7.2 مليار دولار أميركي. أي بصورة أوضح، كان بإمكان المصرف المركزي خلال تلك المرحلة أن يسدد للمصارف جميع أموالها، وأن يبقى لديه احتياطات بقيمة تتجاوز السبعة مليارات دولار. لم يكن هناك في تلك المرحلة أي مشكلة سيولة، ولم يكن الشعب اللبناني قد بدد أموال المودعين “منذ التسعينات” على نمط الحياة الرغيدة، كما تشير سرديّة المصارف.
بغضون خمس سنوات فقط، انتقل صافي الاحتياطات لتسجيل عجز بقيمة 50.7 مليار دولار، بحلول العام 2020، ما يمثّل تحديدًا كتلة الخسائر التي تنامت لاحقًا لتلامس الـ 60 مليار دولار بحلول العام 2022، بحسب خطّة الحكومة. ما الذي جرى خلال السنوات الخمس؟ ومن استفاد من تراكم هذه الخسائر التي أطاحت بأموال المصارف المودعة في مصرف لبنان؟
للإجابة، يشير تقرير التدقيق الجنائي إلى أنّ تراكم الخسائر على هذا النحو جاء بفعل تزامن تطوّرين في الوقت نفسه: أولًا، تنامي إلتزامات مصرف لبنان للمصارف بنسبة 119%، بعدما قامت المصارف بإيداع الغالبيّة الساحقة من أموالها لدى المركزي، طمعًا بالأرباح الفاحشة التي كان يقدّمها في سياق الهندسات الماليّة. وثانيًا، تناقص موجودات المصرف المركزي بالعملة الأجنبيّة خلال الفترة نفسها، بنسبة 18%. بمعنى أوضح، وخلال خمس سنوات فقط، كانت المصارف تضع أموال المودعين لدى رياض سلامة، ورياض كان يبددها.
ما الذي جرى لتبديد كل هذه الأموال؟ يشير التقرير نفسه إلى أنّ كل هذه التطوّرات كانت تتزامن مع الهندسات الماليّة، التي رتّبت على المصرف المركزي أكلاف تقارب قيمتها الـ115 ترليون ليرة. أرباح الهندسات الضخمة تم دفعها للمصارف وكبار المودعين بالليرة طبعًا، إلا أنّ ضخها في السوق كان يسمح لأصحاب المصارف وكبار المودعين بتحويلها إلى الدولار بالسعر الرسمي، ثم إلى الخارج، ما كان يستنزف الاحتياطات الموجودة لدى المصرف المركزي، تحت ستار “تثبيت سعر الصرف”. هذا تحديدًا ما قصده البنك الدولي والرئيس الفرنسي وأمين عام الأمم المتحدة، الذين أجمعوا على وصف ما جرى بالبونزي سكيم، أي العمليّة الاحتياليّة.
الكثير مما جرى في تلك الفترة مازال مجهولًا. تمكّن تقرير التدقيق الجنائي من كشف المعالم الأساسيّة للجريمة فقط. لكن التقرير يشير أيضًا إلى جرائم ماليّة لا تقل خطورة: من حكاية شركة فوري التي اختلس من خلالها الحاكم 330 مليون دولار من أموال مصرف لبنان، والتي تحقق بشأنها المحاكم الأوروبيّة، إلى نحو 111 مليون دولار من العمولات التي تشبه قصّتها حكاية شركة فوري، وصولًا إلى الأموال التي كان يدفعها الحاكم من أموال المصرف لإعلاميين واقتصاديين و”فعاليّات ثقافيّة وسياسيّة” مختلفة، كتبرّعات مجهولة الأهداف.
التدقيق المحاسبي: التزوير في الميزانيّات
في تقريري التدقيق المحاسبي، المُعد من قبل كل من “أوليفر وايمن” وKPMG، نكتشف جانبًا آخر من الحكاية. هناك، نسمع عن معايير إعداد الميزانيّات، التي خرجت عن نطاق الممارسات المقبولة والمألوفة في سائر المصارف المركزية، وتحديدًا لجهة مراكمة خسائر ضخمة توازي أضعاف الناتج المحلّي، من دون الإعتراف بها وقيدها بشكل صحيح. وهذه الألاعيب، جرت تحديدًا من خلال قيود تقارب حدود التزوير في الميزانيّة، من قبيل قيد “إيرادات خلق النقد المستقبليّة” كموجودات وهميّة، لتفادي الاعتراف بالخسائر التي طالت الموجودات الفعليّة.
والتدقيق المحاسبي أيضًا، نسمع عن سائر الحيل التي طبّقها سلامة للتملّص من تحديد خسائره، وبالتالي تفادي معالجتها، مثل عدم الاعتراف بالخسائر التي طالت قيمة سندات الدين المقوّمة بالعملات الأجنبيّة، والإصرار على إعداد الميزانيّات وفق أسعار صرف غير واقعيّة، بالإضافة إلى اعتماد معايير مزدوجة في التعامل مع بنود الموجودات والإلتزامات المختلفة. وجميع هذه الممارسات الاحتياليّة، التي أشارت إليها شركتا التدقيق المحاسبي، سهّلت القيام بعمليّة النهب الكبرى، التي تحدّثت عنها آلفاريز آند مارسال في تقرير التدقيق الجنائي. وبذلك تكون التقارير الثلاثة قد رسمت صورة متكاملة، عن أهم الارتكابات التي انطوت عليها إدارة رياض سلامة لمصرف لبنان.
هنا، يصبح من البديهي السؤال عن سبب عدم توقيف رياض سلامة حتّى الآن، للحؤول دون فراره من وجه العدالة، وللتمكّن من تقصّي المزيد من الحقائق، حول العمليّات التي أدّت إلى تبديد أموال المودعين. فهل من الطبيعي أن تصل رائحة هذه الارتكابات إلى مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية، الذي فرض العقوبات الأخيرة على سلامة مع كندا والمملكة المتحدة، وإلى محاكم فرنسا وألمانيا، من دون أن يقتنع القضاء اللبناني بوجود شبهات جديّة لتستدعي الرجل؟ هنا، يصبح من المفهوم تقدّم القاضية هيلانة اسكندر، التي تمثّل مصالح الدولة اللبنانيّة في الدعوى على سلامة، بدعوى الارتياب بحق القاضي شربل أبو سمرا، الممسك بملف التحقيق المتعلّق برياض سلامة.