كيف يمكن توفير جزء كبير من “مصاريف” لبنان في السنوات المقبلة، بغضّ النظر عن الإصلاحات، وعن استخراج النفط أو الغاز؟
يؤكّد التدقيق في تفاصيل الأرقام أنّ ضبط قطاع الكهرباء، إذا ترافق مع إنشاء قطاع نقل عصري ومحترم للّبنانيين، سيكون كفيلاً بوقف الكثير من الهدر وضبط نزيف الدولارات إلى الخارج التي تُسجّل في قيودنا الاقتصادية عجزاً في الميزان التجاري، ترفض السلطة التحرّك من أجل التخلّص منه. وقد يصل التوفير إلى أكثر من 40% من فاتورة الاستيراد كلّها.
التدقيق بأرقام أهمّ الواردات إلى لبنان لعام 2022 يُظهر أنّها موزّعة على الشكل والترتيب التاليَين:
1- النفط ومشتقّاته من غاز ومحروقات وزيوت: 5.4 مليارات دولار (29% من مجمل الواردات).
2- السيّارات والدرّاجات والجرّارات: 1.8 مليار دولار (10%).
3- المجوهرات: 1.6 مليار دولار (9%).
4- الأجهزة الكهربائية والإلكترونيات: 1.6 مليار دولار (9%).
قد يبدو منطقياً أن تكون المحروقات على رأس قائمة الاستيراد، بـ5.4 مليارات دولار، وذلك في ظلّ الانقطاع الدائم أو شبه التامّ للكهرباء بعد الأزمة، الذي حتّم على المواطنين اللجوء إلى شراء المازوت لزوم المولّدات الخاصّة والاشتراكات.
أضف إلى ذلك غياب قطاع النقل العامّ، الذي فرض على اللبنانيين منذ عقود، اللجوء إلى النقل الخاصّ، ولهذا نشأت ثقافة “قرض السيارة” في المصارف. هذا بدوره نال إعجاب شركات السيارات والدراجات النارية، على ما يبدو، لأنّه كان حافزاً إضافياً على تعزيز الاستهلاك لدى المواطن ونموّ المبيعات لدى وكالات السيارات. ولا يُعرف إن كانت هذه السياسة مقصودة بين كارتيلات المصارف والمحروقات ووكالات السيارات… وها نحن ندفع ثمنها اليوم.
تظهر أرقام عام 2022 أنّ مجموع هذين البندين الجمركيَّين (المحروقات والآليّات) هو قرابة 7.2 مليارات دولار، أو ما نسبته نحو 40% من قيمة الاستيراد. وهذا يعني أنّ السلطة السياسية في حال انكبّت على تنظيم قطاع النقل العامّ مجدّداً وأوجدت الحلول الحقيقية لقطاع الكهرباء ستكون قادرة على تقليص فاتورة الاستيراد إلى النصف في أقلّ تقدير، أي بنحو 3.6 مليارات دولار.
الكهرباء: إضاءة قارّة آسيا كلّها
أمّا في قطاع الكهرباء، فيقول المحلّل الاقتصادي مروان إسكندر في كتابه “أسباب الانتفاضة: مطبّات السياسة الاقتصادية المالية اللبنانية” الصادر عام 2020، إنّ كلفة الكهرباء السنوية الإجمالية في لبنان بشقّيها العامّ والخاصّ، هي قرابة 3.8 مليارات دولار… وهذا الكلام كان قبل الأزمة الاقتصادية طبعاً، أي قبل أن تنقطع الكهرباء بمعدّل 20 أو 22 ساعة في اليوم الواحد، ويلجأ المواطنون إلى الاشتراكات أو إلى الألواح الشمسية التي تغطّي قرابة 1,000 ميغاوات اليوم من أصل حاجة لبنان البالغة 3,200 ميغاوات، أي الثلث.
يكشف إسكندر في كتابه أنّ أكلاف الاشتراكات وحدها كانت “قرابة 1.6 مليار دولار… منها 1 مليار بدل محروقات”، وهذا يعني أنّ الربح الصافي السنوي الذي يحقّقه أصحاب المولّدات هو قرابة 500 مليون دولار إذا اعتبرنا أنّ تكلفة الصيانة نحو 20%.
طبعاً هذه الأرباح ربّما ارتفعت نسبياً اليوم نتيجة تمدّد الاشتراكات، وهو ما يعني أنّ الـ1 مليار ثمن محروقات بدوره تمدّد أيضاً. لكنّ الفرق بين “كهرباء الدولة” و”كهرباء الاشتراك”، هو أنّ مالك مولّد الاشتراك يحصّل أمواله وأرباحه مطلع كلّ أوّل شهر، ويدفعها المواطنون “على إجر ونصّ” بلا تأفّف أو تأخير.
أمّا فواتير كهرباء الدولة فلا تستطيع مؤسّسة كهرباء لبنان، بحسب دراسة إسكندر، تحصيل أكثر من نصفها أو 50% من قيمة الفواتير (بمعزل عن قيمتها قبل الأزمة وبعدها)، وذلك بسبب الهدر الفنّي 15%، والسرقات 20%، والامتناع عن التسديد 12%.
إذا عدنا إلى أرقام التدقيق الجنائي لشركة “ألفاريز إند مارسل” الذي نُشر أخيراً، تبيّن لنا أنّ مصرف لبنان تكبّد قرابة 47 مليار دولار من أجل دعم قطاع الكهرباء منفرداً، وذلك في غضون 11 سنة فقط (من 2010 إلى 2021). دفع مصرف لبنان هذه المليارات بالنيابة عن الحكومة لعدم قدرتها على الجباية وضبط الهدر والسرقات وخلافه.
الرقم الذي ذكره التدقيق الجنائي (47 مليار دولار) قادر على إنشاء معامل لتوليد الطاقة لإضاءة قارّة آسيا كاملة، أو توفير المحروقات لكلّ المولّدات الكهربائية العاملة في لبنان لمدّة 47 سنة متواصلة!
أمّا اليوم، وفي ظلّ سياسة الحاكم الجديد لمصرف لبنان الرامية إلى وقف كلّ “الدعم” في القطاعات كلّها، فبدأ يُحكى عن احتمال توقّف “المركزي” عن توفير الدولار لمؤسّسة كهرباء لبنان… وهذا يعني أنّ الكهرباء ستنقطع 24/24 قريباً في الأسابيع المقبلة.
أرقام العام الفائت نموذج
إذا نظرنا إلى الأرقام الاقتصادية لعام 2022 باعتبارها آخر سنة مقطوعة الحساب، نلاحظ أنّ قيمة الواردات من الخارج في ذاك العام بلغت نحو 19.1 مليار دولار، وهو رقم مرتفع جدّاً طبعاً، خصوصاً إذا ما قورن بحجم الصادرات التي بلغت فقط 3.5 مليارات دولار.
نتيجة ذلك سجّل الميزان التجاري في العام المذكور عجزاً بقيمة 15.6 مليار دولار، ولولا تحويلات المغتربين من الخارج عبر المصارف وشركات تحويل الأموال، التي تقدَّر بنحو 7 مليارات دولار (بحسب أرقام البنك الدولي)، ولولا المساعدات الأجنبية (الحكومية وغير الحكومية) للّبنانيين الأشدّ فقراً واللاجئين السوريين (تقدّر بنحو 2.5 مليار دولار)، ولولا المليارات التي تدخل بطريقة غير منظورة وغير شرعية (بين 2 مليار و5 مليارات دولار)، لكان وضع لبنان الاقتصادي بمكان آخر مختلف تماماً، وأشبه بجهنّم بالفعل.
لكنّ الغريب أن ينحصر النقاش الاقتصادي الدائر في البلد من أجل إخراجه من أزمته الاقتصادية، بالإصلاحات التي بتنا نعرفها عن ظهر قلب. فلا أحد يحدّثنا، حتى الآن، عن خطط ما بعد الإصلاح، وكيف ستتمكّن السلطة اللبنانية من ترشيق نفقاتها من أجل خفض العجز، أو ما هي الإجراءات التي ستتّخذها من أجل خفض العجز في الميزان التجاري أو ميزان المدفوعات الذي يشكّل المعيار الأوّل والرئيسي للحكم على نجاح اقتصادات الدول.
كيف تنوي السلطة إعادة العجلة الاقتصادية إلى الدوران؟ هل يعيد قانون إعادة هيكلة المصارف الودائع إلى خزائن تلك المصارف فور إقراره؟ هل يكون توحيد سعر الصرف كفيلاً بتدفّق الدولارات من الخارج إلى داخل لبنان مجدّداً؟ ماذا سيجلب سنّ تشريع الموازنة لعامَي 2023 و2024 بخلاف الضرائب والزيادة في الرسوم؟
لا إجابات عن كلّ هذه التساؤلات. لكنّ المنطق يقول إنّ ثمّة إجراءات أخرى إضافية لا بدّ أن تتّخذها السلطة السياسية، فوق تلك الإصلاحات، حتى يبدأ التغيير الحقيقي، وحتى تعود المياه الاقتصادية إلى مجاريها.