لغز المفاوضات الصامت: مليارات الغاز لِمَن؟

في الظاهر، التسوية متعثرة بسبب صراع كبير خارجي وآخر صغير داخلي. الأول هو الصراع الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وحلفائها وإيران وحلفائها على النفوذ. والثاني هو صراع القوى المحلية على الحصص داخل السلطة، خلال ستة أعوام مقبلة. ولكن، في العمق، هو أيضاً سباق على المليارات. فالجميع يريد حجز موقعه في دولة قد تنقذها الثروة النائمة في آبار الغاز، إذا سُمح لها بالخروج «سالمة» من تحت الماء.

هناك سبب أساسي يدفع بالوسيط الفرنسي جان إيف لودريان إلى التمسك بمبادرته والدعوة إلى حوار بين القوى السياسية في أيلول، وهو خلق أجواء مناسبة لشركة «توتال» كي تطلق مسار التنقيب عن الغاز في البلوك الرقم 9. فهذه فرصة استثمارية واعدة للشركة الفرنسية، بعد تجربة غير مشجعة في البلوك الرقم 4، مطلع العام 2020.

بعد انتظار قاربَ الـ10 أشهر بعد توقيع اتفاق ترسيم الحدود مع إسرائيل، بدأت الشركة أعمالها الميدانية في الموقع، ويُفترض أن تصبح قادرة على تقديم تقريرها عن نتائج التنقيب في تشرين الثاني المقبل.

ووفق دراسات عدة، يُقدّر الخبراء وجود ثروة في البلوك 9 تتراوح قيمتها بين 100 مليار دولار و300 مليار، ستتوزع بين الشركات المعنية بالاستخراج، أي «توتال» و»إيني» الإيطالية و»قطر للطاقة» القطرية، والدولة اللبنانية.

إذا كانت التقديرات سليمة، وإذا جرت عملية التنقيب على ما يرام، فستحصل الدولة اللبنانية على عشرات المليارات من الدولارات، من البلوك 9 وحده، عندما يبدأ استخراج الغاز وبيعه. وهذا مقدَّر خلال فترة تقدّر بـ7 سنوات، إذا سارت الورشة بأقصى سرعتها. وفي هذه الأثناء، قد توضَع بلوكات أخرى قيد الاستثمار.

لن تكون السلطة في لبنان مضطرة إلى انتظار سنوات كي تبدأ الاستفادة من أموال الغاز. ويكفي أن ينشر تقرير «توتال»، قبل نهاية العام الجاري، ويكشف عن وجود كميات من الغاز مناسبة تجارياً، حتى تبدأ السلطة في مفاوضة الدائنين والمجتمع الدولي على هذا الأساس. وستكون التركيبة السياسية التي ستتولى الحكم في السنوات المقبلة قوية جداً بامتلاكها المليارات السهلة الخارجة من قاع البحر، وهذا سيسمح لها بستر كل الموبقات التي ارتكبتها خلال عشرات السنين، والتي أوصلت البلد إلى الكارثة.

إنّ منظومة السلطة، التي تتهرب حتى اليوم من أي إصلاح، وتخفي الملفات الفضائحية خشية أن تنكشف فتُعرّضها للمحاسبة، ستكون في وضع أقوى. وستمسك السلطة بيد من حديد، وترفض أي مطالبة خارجية بالإصلاح، ولن تقف في وجهها معارضة داخلية أو أجهزة محاسبة أو قضاء. والنماذج معروفة في العالم، حيث الأنظمة الفاسدة تصبح ديكتاتوريات عندما تحصل على المال.

لذلك، مسيرة استخراج الغاز- إذا استُكملت – ستقود إلى انفراج اقتصادي، لكنها ستبرر المزيد من ممارسات التسلط. وهذا الأمر سيتبلور قريباً، خلال العام الجاري، إذا جاء تقرير «توتال» واعداً.

القوى المُمسكة اليوم بالسلطة تجد مصلحة في الإعلان في أسرع ما يمكن عن وجود الغاز، وهي في هذا الاستعجال تتقاطع مصلحياً مع فرنسا.

فمن مصلحة الطرفين إشغال الجميع بحوارٍ يملأ الفراغ ويمنح الغطاء السياسي لورشة التنقيب عن الغاز. والأرجح أن لودريان يدرك جيداً صعوبة ولادة أي تسوية في أيلول المقبل، لكنه يعتبر أن تعبئة الوقت بالمساعي السياسية من شأنها أن تحفظ لفرنسا دورها في الرعاية وتتيح لشركتها أن تطلق ورشة استثمار الغاز.

ولكن، هل إن طريق استخراج الغاز والمليارات مفروشة فعلاً بالورود؟ وهل يكفي استعجال فرنسا وقوى السلطة المحلية لإنجاح المحاولة؟

للتذكير، التفكير في التنقيب عن الغاز والنفط في مياه لبنان يعود إلى عشرات السنين. وفي هذا المجال، لبنان يتأخر عن إسرائيل سنوات عدة. والأمر يعود إلى إرباكات وصراعات داخلية وضغوط خارجية، أميركية خصوصاً. فعندما تم توقيع اتفاق الترسيم بين لبنان وإسرائيل، بوساطة أميركية، في تشرين الأول الفائت، أطلق الإسرائيليون فوراً ورشة الاستخراج. وأما لبنان فكان عليه الانتظار عاماً آخر ليعرف إذا كانت لديه الكميات المناسبة للاستثمار تجارياً، ثم الانتظار سنوات للاستخراج، إذا جاء تقرير التنقيب إيجابياً.

بالتنقيب والاستخراج، لا تريد قوى السلطة إضاعة فرصة تاريخية تمنحها السيطرة على البلد بالمال والنفوذ لسنوات وسنوات. وفي المقابل، تحاول المعارضة عبثاً أن تحفظ حداً أدنى من الموقع والدور. وبين الطرفين يناور «التيار الوطني الحر» للحصول على أكبر قدر من المكاسب في هذه اللعبة.

ولكن، كل هذه المعمعة تبقى في فنجان ما لم تقل الولايات المتحدة كلمتها. ففي السياق الدولي- الإقليمي، لا يمكن اتخاذ أي قرار في مجال الطاقة الاستراتيجي من دون موافقتها. فهل تقبل بتسليم لبنان إلى حلفاء إيران، متمتعين بكامل نفوذهم السياسي والعسكري والمالي ومُسَيطرين على الطاقة شرق المتوسط لسنوات مقبلة؟ وأيّ ثمن ستحصل عليه إذا كانت ستقبل بذلك؟

عند هذه النقطة يتوقف ملف الغاز والنفط في لبنان. فالأميركيون الذين لم يمنحوه الضوء الأخضر كي يحصل على الكهرباء من الأردن وعلى الغاز من مصر، إمعاناً منهم في فَرض العقوبات عليه، هل سيقررون رفع هذه العقوبات والسماح للبنان باستثمار موارده بأوسع مدى، أي بما يجعله قادراً على تحدي أي مطلب ومواجهة أي ضغط؟

ما يمكن قوله الآن هو أن الحفارة قد وصلت وستنطلق في عملها بعد أيام. هذا هو المؤكد. أما الباقي فيستدعي الانتظار والترقب، خطوة تلو خطوة.

 

مصدرالجمهورية - طوني عيسى
المادة السابقةجلسة الـ”كابيتال كونترول” سقطت: قانون لحماية المصارف لا المودعين
المقالة القادمةبيان المركزي: شفافية تعكس النهج الجديد