بمبادرة من الوزراء السابقين ماري كلود نجم ومنصور بطيش وجان لوي قرداحي بالإضافة الى المحامي كريم ضاهر أطلقت عريضة للتوقيع على نطاق واسع تحت عنوان «لأجلِ الحَقيقة… وإحقاق الحقّ وحُقوق الشعب اللبناني». وجاء فيها ما يلي: كَشَف تقرير شَركة «ألفاريز أند مارسال» عن عَمليَّات نَهب وهدر وسوء إدارة من خِلال مصرف لبنان بقيمة 115 ترليون ليرة تُوازي قَبل اندِلاع الأزمة 76 مليار دولار، وهي مُجمَل كلفة هندَسات ماليَّة موَزَّعة ما بَين 85 ترليون ليرة كلفة الهندَسات و30 ترليون ليرة دُفِعتْ عَلاوات على سَنَدات خزينة وعلى شهادات إيداع (صفحة 88). وبَيَّنَ التقرير بأنَّ فَجوة مصرف لبنان بالعُملات الأجنبيَّة، وخِلافاً لِما راحَ يَدَّعيه كثيرون في حِينه، كانت 71.9 مليار دولار بنهاية العام 2020 (صفحة 14)، هي مِن أموال المودِعين، وقَد ازدادت لتَتَجاوز راهِناً 77 مليار دولار، ما يُساوي تقريباً كلفة مُجمَل تلكَ الهندَسات. وكَشَف التقرير عن تزوير فاضِح في حِسابات مصرف لبنان. كلّ هذه الأرقام والمُمارَسات الاحتياليَّة التي تمَّ الكَشف عنها، تؤكِّد الحَجم الهائِل للسَرِقات والهدر في مصرف لبنان وعَبره. كذلك، تُظهِرُ بوضوح أبرَز مصادِر خساراته التي أدَّتْ مع غَيرِها من المُسَبِّبات الاقتِصاديَّة والسِياسيَّة المَعروفة، بالإضافة إلى مَنظومة الفَساد المُتَجذِّرة وسُوء الحَوكَمة، إلى الانهِيار الكَبير وإفقار مُعظم اللبنانيِّين. إنَّها جَريمة العَصر الماليَّة بحَقِّ الوَطَن دولةً وشَعباً، وسُكوتُ القضاء والبرلمان والمَسؤولين السِياسيِّين عنها جَريمةٌ أكبَر. لَطالَما حَذَّرَت تقارير البَنك الدولي وصُندوق النَقد الدولي من هذه الارتِكابات الجرائِميَّة غَير المَسبوقة التي وصَفَها تقرير لَجنة حُقوق الإنسان في الأمَم المُتَّحِدة بأنَّها «إفقارٌ مُتَعَمَّد للشَعب اللبناني». وبما أنّ تقرير الشَركة المُولَجة بالتَدقيق قد ذَكَر أنَ مصرف لبنان رَفض أنْ تتَواصَل الشَركة مع موَظَّفيه، وحَجَب عَنها الكثير مِن البيانات الأساسيَّة والمَعلومات (الفقرة 1.4 ص 9-11)، فقد أدّى ذلك الى التَعمية على الجَرائِم الماليَّة المُرتَكَبة.
تسليم كامل البيانات
بالتالي، على ضَوء كُلّ ما تقدَّم، والتِزاماً بالقانون والشَفافيَّة وبِحَقِّ الناس في الوصول إلى المَعلومات، يُفتَرَض بمصرف لبنان كَشف كلّ الحَقائق والوقائِع وتسليم كلّ البيانات والمَعلومات، التي طلبَتها شَركة التَدقيق الجِنائي ولَمْ تَحصل عليها، إلى الجهات الرَسميَّة والقضائيَّة المختصَّة، والإعلان عن أسماء جَميع المُستَفيدين من هذه التَجاوزات والهَرطَقات الماليّة التي أدَّتْ في ما أدَّتْ إلَيه إلى سَلْب الناس مُعظَم ودائِعِهم.
لِذلك، نُطالب حاكِم مصرف لبنان بالتَكليف ونُوَّاب الحاكِم بالإفراج عن كامِل المُستَنَدات والمُعطيات المَطلوبة وذلك، انسجاماً مع المبادئ التي عَبَّروا عَنها والوعود بالشفافيَّة والحوكَمة الرَشيدة التي أطلَقوها… فالحَقُّ لا يتَجَزَّأ.
كما نُطالب نوَّاب الأمَّة وقُضاتها بالقيام بواجِبِهم بالمُساءَلة والمُحاسَبة وُصولاً لإعادة الحُقوق الماليَّة لأصحابِها ولمُحاكَمة المَسؤولين عن هذه الارتِكابات وغيرِها.
فإذا لَم تنكَشِف الحَقائق كاملةً بالأسماء والأرقام، سنَبقى أسرى الشِعارات والقِراءات السياسيَّة العَقيمة والمُنحازة. مِن الحَقيقة الموَثَّقة يبدأ إحقاقُ الحقّ. وإحقاقُ الحقِّ آتٍ، حَتماً لا محال. (انتهى بيان طلب توقيع العريضة)
76 مليار دولار
بالمقابل، مصادر أخرى تسأل: من أين تبدأ مرحلة ما بعد تقرير «ألفاريز أند مارسال» وكيف؟ «هل تبدأ بالقضاء للمحاسبة؟ أم تستكمل في تدقيق جنائي في مجمل إدارات القطاع العام لمعرفة كيف أنفقت الأموال ولصالح أي جهات سياسية؟ أم أنه يجب أن ينتقل التدقيق الجنائي الى المصارف بعد أن أظهر تقرير «ألفاريز» أن كلفة الهندسات المالية المباشرة بالإضافة للعلاوات بلغت 76 ملياراً استفادت من معظمها المصارف؟
بما أن تقرير التدقيق الجنائي لا يمكن اعتباره كاملاً، لأن شركة التدقيق نفسها ذكرت ضمنه أن مصرف لبنان امتنع عن تزويدها كامل البيانات التي طلبتها ما منعها من تحديد أسماء المستفيدين من بعض التحويلات التي قام بها البنك المركزي لصالح مؤسسات ومصارف أو شركات… الأمر الذي دفع البعض الى الاعتقاد أن «وزير المالية قد أجرى عدّة تعديلات على التقرير عبر حذف أجزاء من النسخة الأصلية لحماية كبار السياسيين».
76 مليار دولار توازي حجم الفجوة المالية في مصرف لبنان، هي خسائر تكبّدها المصرف، وفي الحقيقة هي أموالُ مودعين «قامرت» بها المصارف وأساءت استخدامها بتوظيفها لدى مصرف لبنان لتحقيق أرباح وتوزيع عمولات ومكافآت لصالح أفراد معيّنين منهم كبار الزبائن وأصحاب المصارف وكبار المديرين فيها. فكانت النتيجة واحدة: نهب الودائع لإثراء الأثرياء!
في هذا الإطار، اعتبر أحد كبار المصرفيين أن تقرير التدقيق الجنائي فتح أبواباً عدّة لملاحقة الفساد والهدر وتضمّن عناوين مختلفة تستوجب استكمال التدقيق والتحقيق في كلّ منها على حدة، منها بالتأكيد وجوب إجراء تدقيق جنائي في المصارف، وفقاً لما قاله لـ»نداء الوطن».
الإستفادة من الهندسات
وأوضح أن المصارف استفادت من الهندسات المالية بطريقة متفاوتة وبنسب مختلفة، كما أن بعض الزبائن ضمن المصرف الواحد استفاد بشكل أكبر من زبائن آخرين في المصرف نفسه، متسائلاً كيف توزّعت أرباح المصارف المتأتية عن مشاركتها بالهندسات المالية، ما هي النسبة التي تقاضاها المديرون التنفيذيون والمديرون العامون للمصارف؟ مطالباً التدقيق بثروات هؤلاء وبالتحويلات المالية التي تلقوها خلال فترة الهندسات المالية على شكل مكافآت، «رغم أن ذلك يتطلب رفع السرية المصرفية عن حساباتهم».
وأكد أن التدقيق الجنائي في المصارف سيكشف كيفية توزيع الأرباح المتأتية للمصارف جرّاء مشاركتها بالهندسات المالية التي قام بها مصرف لبنان، وسيكشف حجم الأموال التي تقاضاها الزبائن من الفوائد الخيالية بالإضافة الى حجم العمولات والمكافآت التي حصل عليها المديرون العامّون الذين ساهموا في تأمين هؤلاء الزبائن.
وبغضّ النظر عمّا إذا كان القانون يشرّع تلك الممارسات أو يعتبرها غير قانونية، اعتبر المصدر المصرفي أنه يجب الكشف حتماً عن طريقة توزيع تلك الأرباح بالإضافة الى تحديد الأفراد المستفيدين منها. ورأى أن مطالبات مجلس النواب المتكرّرة باسترجاع الأموال المنهوبة يجب أن تصبّ في هذا الإطار، «لأن هذه هي الأموال التي يجب استرجاعها».وسأل المصرفيّ في الختام: بعد صدور التقرير، ما هي الخطوات اللاحقة له؟
التقرير ناقص
من جهته، لفت أحد المسؤولين السابقين في مصرف لبنان إلى أنه لا يمكن اعتبار تقرير «ألفاريز» مكتملاً طالما أن 30 في المئة من وثائق مصرف لبنان وبياناته هي التي أتيح الاطلاع عليها فقط، ما يعني أن صياغة تقرير أو التوصّل الى حقيقة كاملة لا يمكن أن يكون دقيقاً في ظل حظر 70 في المئة من البيانات، وهو الأمر الذي يمكن أن يقلب النتائج رأساً على عقب في حال الكشف عنها كاملة.
وأكد لـ»نداء الوطن» أن التدقيق الجنائي يجب أن يطال أيضاً كافة مؤسسات الدولة بالإضافة الى المصارف، مشيراً الى أن إعادة هيكلة القطاع المصرفي أولوية ملحّة يجب تطبيقها وفقاً لأسس سليمة تستوجب حتماً إجراء تدقيق جنائي فيها، كما تستوجب مساءلة وتحديداً للمسؤوليات، معتبراً أن إعادة هيكلة القطاع شرط أساسي يتجاهله معظم المعنيّين «الذين صغّروا حجم الأزمة الى حدود مشكلة صيرفة وإقراض الدولة فقط!»
وأوضح أن الكشف عن أسماء الأفراد الذين استفادوا من الأرباح المتأتية عن الهندسات المالية لا يستلزم تدقيقاً جنائياً في المصارف، بل يتطلب رفع السرية المصرفية وإجراء عملية تدقيق حسابي بسيطة للحسابات المصرفية خلال فترة الهندسات المالية. مشيراً الى أن المثلث الذي يجب تتبّع كيفية تبديد الأموال عبره يشمل مصرف لبنان، القطاع المصرفي ووزارة المالية. مطالباً بأن يتم ذلك بشكل سريع ومن دون مماطلة.
تتبّع الحسابات
ورأى المصدر المصرفي أنه يجب أوّلاً تحديد الجهات التي استفادت من الهندسات المالية عبر تتبّع الحسابات المصرفية التابعة لها، ليصار لاحقاً الى تحديد شرعية تقاضيها تلك الأرباح، لافتاً الى أن الفوائد الخيالية التي كانت تسدّد على الودائع والتوظيفات أتت في وقت لاحق لبدء الهندسات المالية وليس بموازاتها، وبالتالي يجب أن يتم تحديد فترة تقاضي تلك الفوائد ومقارنتها بالفوائد المعتمدة في المرحلة نفسها في دول الجوار التي تعاني من ظروف مماثلة نوعاً ما لظروف لبنان، وذلك للتحقق من وجود ممارسات مشبوهة في تلك الفترة تستدعي الإدانة والتشكيك. ما يعني أن تحديد الجهات المستفيدة مطلوب أوّلاً ليصار لاحقاً الى تحديد شرعية تحقيق تلك الأرباح في كلّ حساب مصرفي على حدة.