بالنسبة لكثيرين، لا يحمل الخبر الكثير ما يستحق التوقّف عنده. فحتّى هذه اللحظة، باتت هناك ملفّات جنائيّة لحاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة في 13 دولة أوروبيّة على أقل تقدير، ويمكن أن يزيد هذا العدد طبعًا إذا كانت هناك ملفّات جنائيّة جديدة لم يُفصَح عنها بعد، في دول أخرى (راجع المدن). على هذا النحو، قد يعتقد البعض أن ملف التحقيق الأميركي الجديد بحق سلامة في نيويورك، والذي أعلنت عن وجوده صحيفة “الفايننشال تايمز” اليوم الأحد، سيكون مجرّد ملف تحقيق إضافي كغيره من الملفّات في سلسلة التحقيقات الأجنبيّة الطويلة.
إلا أنّ العديد من المصادر القضائيّة المتابعة لهذا الملف، تؤكّد أن دخول القضاء الأميركي على خط التحقيقات سيغيّر الكثير من قواعد اللعبة، وخصوصًا على مستوى أداء الحماة المحليين للمشتبه به وشركائه. وما يغيّر قواعد اللعبة هو صلاحيّة القضاء الأميركي في هذا الملف، والتي تُستمد من طبيعة العمليّات التي جرت ومرّت بالمصارف الأميركيّة المراسلة، بالإضافة إلى خشية جميع الأطراف المحليّة، وخصوصًا مصرف لبنان والمصارف التجاريّة، من اللعب والأخذ والرد مع القضاء الأميركي، حيث توجد حسابات المصارف ومصرف لبنان المُراسلة.
صلاحيّة القضاء الأميركي: الاختلاسات مرّت من عندهم
في حالة النيابات العامّة الأوروبيّة، بدأت القضيّة ببحث المحققين الأوروبيين في شبهات تبييض الأموال التي تدور حول سلامة والحلقة المحيطة به، أي شبهات إخفاء مصدر الأموال اللبنانيّة المختلسة، في أسواق المال والعقارات الأوروبيّة. بهذا المعنى، انطلقت صلاحيّة المحاكم الأوروبيّة من أماكن وقوع جرم تبييض الأموال في أوروبا، فيما تتبّعت –من هذه الزاوية- عمليّات الإختلاس في بيروت، التي أفضت لاحقًا إلى تبييض الأموال.
ولهذا السبب بالتحديد، ظلّ حماة سلامة في لبنان يراهنون على اللعب على وتر صلاحيّة المحاكم اللبنانيّة، وأحقيّتها بالبت بمسألة اختلاس الأموال، طالما أن الاختلاس المشتبه به وقع في بيروت لا في أوروبا. وإذا وجد القضاء اللبناني سلامة بريئًا، في ملف اختلاس الأموال، فسيحاول فريق الدفاع عن سلامة استخدام هذه الورقة في أوروبا، لإبطال تهمة تبييض الأموال. وطالما أنّ محاكم لبنان، صاحب الأموال المشتبه باختلاسها، لا تعتبر أن الأموال مختلسة فعلًا، سيعمل فريق الدفاع عن سلامة على المُحاججة –أمام المحاكم الأجنبيّة- بأنّ التحويلات في أوروبا لم تكن فعلًا تبييض لأموال غير مشروعة.
مع الإشارة إلى أنّ العديد من المصادر القانونيّة تشير إلى صعوبة إقناع المحاكم الأجنبيّة بالتخلّي عن دورها في التحقيق بمصدر الأموال والبت بمشروعيّتها، كما يراهن فريق الدفاع عن رياض سلامة، إلا أن فريق الدفاع ما زال متمسّكًا حتّى اللحظة بهذه المناورة حتّى اللحظة الأخيرة، على قاعدة أنّ “الغريق يتعلّق بقشّة”.
في حالة المحاكم الأميركيّة، المسألة مختلفة تمامًا، ولثلاثة أسباب:
– السبب الأوّل، هو أنّ أي تحويل بالدولار الأميركي يمر حكمًا بالمصارف المراسلة الأميركيّة في نهاية الأمر، ما يعني أن التحويلات المرتبطة بشركة فوري مرّت في النظام المالي الأميركي لحظة اختلاس الأموال، لا في مرحلة تبييض الأموال كما هو الحال مع أسواق المال والعقارات الأوروبيّة. وبهذا المعنى، لا يوجد أدنى مساحة للمناورة في ما يخص صلاحيّة المحاكم الأميركيّة بالتحقيق في مسألة الاختلاس نفسها، والبت في طبيعة العمليّات التي يُشتبه بكونها اختلاسًا للأموال العموميّة.
– السبب الثاني، هو أنّ محاكم نيويورك بالتحديد، هي الجهة المخوّلة بالبت بأي خلاف أو نزاع ينشأ بخصوص عمليّات الاكتتاب بسندات اليوروبوند، التي حصلت شركة فوري على نسبة من إيرادات بيعها والاكتتاب بها. وعلى هذا الأساس، ستمتلك هذه المحاكم صلاحيّة النظر في هذا الملف، إذا ما وجدت أنّ ثمّة إجحافاً أو ضرراً طاول أصحاب هذه السندات، بعدما سددوا عمولة إضافيّة كان يفترض أن ينالها المصرف المركزي، فيما حصلت عليها شركة فوري، المسجّلة بإسم شقيق حاكم مصرف لبنان.
– تتعامل جميع المصارف اللبنانيّة ومصرف لبنان مع مصارف أميركيّة مراسلة، ما يمثّل حبل الأوكسيجين الذي يربط النظام المالي اللبناني بالنظام المالي العالمي. ولهذا السبب، لا تملك المصارف اللبنانيّة، ولا المصرف المركزي، رفاهيّة المناورة واللعب مع الطلبات الموجهة من الولايات المتحدة الأميركيّة، بما يتعلّق بداتا حسابات الحاكم وشقيقه ومعاونته وإبنه. ولهذا السبب، من المتوقّع أن يسير التحقيق الأميركيّة بسرعة أكبر، مقارنة بالتحقيقات الأوروبيّة، التي عانت من العراقيل التي حالت دون تسليمها المعلومات المطلوبة من لبنان بسرعة.
تقرير التدقيق الجنائي يدعم التحقيقات
في الوقت الراهن، ستستفيد التحقيقات اللبنانيّة والأوروبيّة، ولاحقًا الأميركيّة، من مضمون التدقيق الجنائي، التي تطرّق في صفحاته إلى فضيحة شركة فوري، والتحويلات التي جرت من حساب “الاستشارات”، والذي يصفه المشتبه به رياض سلامة كحساب “من خارج ميزانيّة المصرف المركزي”. تقرير آلفاريز آند مرسال واضح للغاية، من جهة رفضه اعتبار هذا الحساب من خارج الميزانيّة، ما يعني اعتبار الأموال المحوّلة أموالاً عموميّة عائدة لمصرف لبنان، حسب القانون.
وبهذا المعنى، تسقط آخر حجج سلامة، الذي ظلّ يصر في آخر مقابلاته التلفزيونيّة على أنّ الأموال التي تم تحويلها ليس “أموالاً لمصرف لبنان أو كان يجب أن تكون لمصرف لبنان”. مع الإشارة إلى أنّ آلفاريز سلّطت الضوء على تحويلات أخرى بقيمة 111 مليون دولار، اتبعت نمط تحويلات شركة فوري نفسه، التي بلغت قيمتها 330 مليون دولار، ما يفترض أن يوسّع التحقيقات لتطال جوانب أخرى من التحويلات التي قام بها سلامة خلال ولايته.
في مقابل كل ما وجده تقرير التدقيق الجنائي، وبعد فرض العقوبات الأميركيّة الأخيرة وفتح ملف التحقيق الجديد في نيويورك، يستمر ملف سلامة بالمراوحة ببطءٍ في لبنان. فالقاضي شربل أبو سمرا لم يجد طوال المرحلة الماضية ما يستوجب توقيف سلامة، ما يعطي سلامة اليوم إمكانيّة التواري عن الأنظار، والتهرّب من جلسات التحقيق، أو حتّى الفرار كليًا من وجه العدالة، إذا ما فقد الأمل في الدفاع عن نفسه بالطرق القانونيّة المشروعيّة. وحتّى هذه اللحظة، لا يوجد ما يضمن قدرة القضاء على تبليغ سلامة بجلسة استجوابه المقبلة في 29 آب، أمام الهيئة الاتهاميّة في بيروت، التي يفترض أن تبت بمسألة توقيف سلامة أو إبقائه حرًّا رهن التحقيق.