إنها قضية وقت قبل أن تتحلّل مفاصل الدولة اللبنانية، مع عجز حكومة الرئيس نجيب ميقاتي عن تأمين حاجاتها بالعملة الصعبة، خصوصًا بعد رفض مصرف لبنان على لسان حاكمه بالإنابة وسيم منصوري تمويل الحكومة بالعملة الصعبة. العجز عن التمويل بدأت ملامحه مع مشكلة تأمين السيولة لشراء الفيول، من بواخر تم شراؤها عبر هيئة الشراء العام بحسب وزير الطاقة والمياه وليد فياض، مستندًا إلى اتفاق كان قدّ تم بين مصرف لبنان مع حاكمه السابق وحكومة تصريف الاعمال على تحويل أموال وزارة الطاقة على سعر منصة صيرفة، وهو ما يرفض تطبيقه الحاكم بالإنابة منصوري.
عمليًا ما تبقى من رصيد لهذه الحكومة في المصرف المركزي بالعملة الصعبة هو 275 مليون دولار أميركي حسابات القطاع العام، بالإضافة إلى 125 مليون دولار أميركي رصيد حقوق السحب الخاصة. هذا المبلغ يشكل حاجة الحكومة لمدة شهر ونصف لمواجهة مستحقاتها المالية. وبالتالي وابتداءً من نهاية هذا الشهر الحالي، سينعكس نقص الدولارات في خزينة الدولة سلبًا على العديد من الخدمات العامة، ولعل أخطرها (بحسب الانعكاسات السريعة) : الأمن، الأدوية، القمح، كل خدمات الدولة الإدارية… وهو ما قد يتسبب بتردّي الوضع الأمني من باب الاضطرابات الاجتماعية. ولا يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، فإن التزامات الدولة المالية تجاه المؤسسات الدولية (إشتراكات) ودفع تكاليف البعثات الديبلوماسية في الخارج.. ستتأثر حكمًا بهذا النقص.
بالطبع كانت حوكمة الدولة الاقتصادية والمالية والنقدية خلال العقد الماضي من الأسوأ على الإطلاق، حيث تّم تحميل خزينة الدولة ديونًا قاربت مئة مليار دولار أميركي، بمعظمها كانت تُموّل من القطاع المصرفي – أي من أموال المودعين، قبل أن تأخذ الحكومة القرار بوقف دفع دينها بشكل عشوائي وغير منظّم. هذه الديون كانت لتغطية الإنفاق التشغيلي، بدل أن تكون لتغطية الإنفاق الاستثماري الذي شكّل في أحسن أحواله 4% من إجمالي الموازانات السابقة.
والأصعب في الأمر أن الاستيراد اللبناني من الخارج تخطى العشرة مليارات دولار أميركي في الأشهر الستة الأولى من هذا العام. من أين تأتي الدولارات لتمويل هذا الاستيراد؟! وإذا أخذنا بعين الاعتبار التهريب الجمركي الحاصل، فإن هذا الرقم قد يكون ثلاثة أو أربعة أضعاف الرقم المسجّل رسميًا. لماذا لا يوجد مداخيل للدولة من هذا الاستيراد؟ إنه الفساد بكل بساطة!
خياران لحكومة تصريف الاعمال نقص التمويل يضع الحكومة أمام خيارين :
– الخيار الأول : شراء الدولارات في السوق لسدّ حاجاتها من العملة الصعبة، وهو ما يعني 300 مليون دولار أميركي شهريًا مع طبع عملة (حتمي)، مما سيؤدّي الى ضرب الليرة اللبنانية في السوق السوداء.
– الخيار الثاني : أن تعمد حكومة تصريف الاعمال إلى التشدّد في جباية مستحقاتها بالعملة الصعبة، وخصوصًا من الاستيراد مع محاربة التهريب الجمركي والتهرب الضريبي. هذا الأخير يفرض التشدّد في مراقبة التعاملات النقدية التي يتخطّى بعضها عدّة ملايين من الدولارات.
بالطبع الحكومة المشلولة والمجلس النيابي المعطّل غير قادريْن على تغيير هذه المعادلة، وهو ما يعني أن الانهيار سيكون شبه حتمي وعنيف.
قدوم السياح إلى لبنان أدخل الكثير من الدولارات إلى لبنان، مع تقديرات سيولة بقيمة تتراوح بين 500 و800 مليون دولار أميركي إنفاقا سياحيا في لبنان. إلا أن الدولة لم تستحصل على حصّة من هذه الأموال، وإذا استحصلت فإن النسبة ضئيلة ، بسبب الاقتصاد النقدي الذي يحجب عن الحكومة رؤية ومعرفة حجم الكتلة النقدية بالدولار الأميركي وفرض الضرائب المحقّة. بعض التقديرات تشير إلى حجم كتلة نقدية بالدولار الأميركي بأكثر من خمسة عشر مليار دولار أميركي منها 6 إلى 7 مليارات موجودة بين أيدي مجموعات من الصرافين، أصبحت قدرتهم على المضاربة تفوق قدرة «المركزي» والمصارف مجتمعين.
من الواضح أن السلطات الدستورية من حكومة ومجلس نيابي ووزرات… لم تعد قادرة على ضبط الوضع ، وكل ذلك بسبب التعطيل الذي أصبح عملة متداولة في السوق السياسية.
القرار خارجي بامتياز
ومن كل ما تقدّم يمكن الاستنتاج أن القرار أصبح خارجيا بامتياز، وهو رهينة الاتفاقات الإقليمية – الإقليمية والإقليمية – الدولية، وبانتظار حصول هذه الاتفاقات ومعرفة مصير الكيان اللبناني المُثقل بالأزمات، هناك فترة صعبة بانتظار لبنان واللبنانيين، أللهم إلا إذا تمّت الرأفة بالشعب من قبل أصحاب القرار.
في هذا الوقت، من المتوقّع أن يكون لبنان على موعد مع عدّة أزمات قد تظهر إلى العلن في الأسابيع والأشهر المقبلة، منها أزمة قمح، أزمة أدوية، أزمة اتصالات، وأزمة قدرة شرائية… وكل ذلك بسبب نقص الدولارات لدى الدولة اللبنانية. وهنا يجدر الذكر أن حكومة تصريف الاعمال لا تمتلك أي حلول لهذه الأزمات (بسبب التعطيل)، إلا الطلب إلى المؤسسات الدولية والدول مساعدات وهبات لإطعام الشعب وتقديم الحد الأدنى من الخدمات له. أضف إلى ذلك أن المدارس الرسمية لن تفتح أبوابها هذا العام من دون دمج الطلاب السوريين مع الطلاب اللبنانيين، في واقعة ستكون حتّمية بسبب الحاجة إلى تمويل. وما سيزيد الوضع سوءًا هو الوضع المتردّي في سوريا، والتي يرتبط اقتصادها بالاقتصاد اللبناني بشكل عضوي، مع تشابك الجغرافيا والمصالح الخاصة والنزوح السوري. هذا التشابك كان يمكن أن يكون أكثر تنظيما لو أن الدولة كانت موجودة من خلال مؤسساتها الرقابية والأمنية، ومنعت المخالفات بكل أنواعها.
لقد آن الآوان لوضع مصلحة المواطن قبل المصالح الخاصة. ورجال الدولة تُذكر في التاريخ من خلال خياراتها وأفعالها، على غرار ما فعله الرئيس فؤاد شهاب الذي واجه الفساد والمحاصصات ببناء دولة مؤسسات. هذه الخيارات والأفعال تبدأ بانتخاب رئيس للجمهورية اليوم قبل الغد، وتشكيل حكومة، والقيام بالتعيينات الإدارية والمالية والقضائية والعسكرية، والتوجّه نحو الإصلاحات التي تبقى الشرط الأساسي للمجتمع الدولي لتقديم أي مساعدة مالية تسمح للبنان بالخروج من أزمته الكيانية، التي إذا طالت ستتغلّل في المجتمع وسيصعب على لبنان التخلّص منها قبل عقود.