أول من أمس، أصدرت إدارة الإحصاء المركزي مؤشر أسعار تموز 2023 الذي كشف أن موجة التضخّم لم تتوقف بعد رغم الاستقرار النسبي في سعر صرف الدولار منذ مطلع هذه السنة
في تموز 2019، سجّل مؤشر الأسعار 108.5 نقاط، أما في تموز 2023 فقد سجّل 4858.95 نقطة، أي بزيادة 43.7 ضعفاً. في المقابل كان سعر الصرف يبلغ 1507.5 ليرات، وارتفع إلى 89 ألف ليرة، أي بزيادة 58 ضعفاً. تاريخ العلاقة بين مؤشر سعر الصرف وبين مؤشّر تضخم الأسعار «لطالما كان يُشير إلى ارتفاع أسعار الاستهلاك بوتيرة أعلى من وتيرة ارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة. إنما هذه الفجوة التي حصلت الآن، صارت تتقلّص تدريجاً وسط استقرار نسبي في سعر الصرف ومواصلة الأسعار ارتفاعها» يقول رئيس مركز البحوث والاستشارات كمال حمدان. هذا يعني أن موجة التضخّم في الأسعار مستمرّة، ويستدلّ عليها بأن الأسعار في الأشهر السبعة الأولى من السنة الجارية، أي بين نهاية تموز 2023 وبين نهاية كانون الأول 2022، سجّلت ارتفاعاً بنحو 137% مقارنة مع 99% في الفترة نفسها من عام 2022 (تموز 2022 مقارنة مع كانون الأول 2021).
هذه المقارنة تؤدي إلى الاستنتاج الآتي: «فلتان الأسعار هو المحرّك الأساسي لكل قطاعات النشاط الاقتصادي، ولم يعد هناك أي أساس لتحديد الأسعار» وفق حمدان. ويعود ذلك إلى عوامل عدّة من أبرزها الدولرة النقدية للأسعار، والتي تأتي في سياق انهيار القطاع العام وغياب آليات الرقابة، إذ إن هذا الأمر أفسح المجال أمام «التلاعب بالأسعار المدولرة»، وحقّق للتجار أرباحاً إضافية بالقيم المدولرة نقداً، وهذا مصدره قدرة الاحتكارات على الاستفادة من الفوضى.
أيضاً يتزامن ذلك مع «موجة صيف» وقدوم عدد كبير من الزوار إلى لبنان، يحملون كميات كبيرة من الدولارات التي تفاقم الطلب على الاستهلاك المحلي في سوق قاعدته الأساسية محكومة بسقف الأزمة، بحسب حمدان. لذا، إن التسعير بالدولار النقدي لكلفة استيراد السلع والخدمات قابلها تسعير بالدولار للأرباح وزيادة في مستوياتها، على حساب انخفاض في كلفة التشغيل سببه الأساسي انخفاض كلفتَي الأجور والضرائب. فالأجور لم تتدولر بما يتلاءم مع الانهيار في القوّة الشرائية، والضرائب ما زالت منخفضة نسبياً في إطار بنية تصيب الأجور أكثر من الأرباح، بدليل أنه في مشروع موازنة 2023 لم يزد مجموع حاصلات ضريبة الأرباح إلا بمعدل 0.4 ضعف من 4265 مليار ليرة إلى 5985 مليار ليرة، بينما زاد مجموع حاصلات الضريبة على الأجور والرواتب بمعدل 4.4 أضعاف من 1.1 مليار ليرة إلى 6197 مليار ليرة. في المحصّلة، أتيح للتجار زيادة أرباحهم بعد دولرتها نقداً، وأُفسح المجال أمامهم من أجل خفض أكلافهم التشغيلية بما فيها الأجور، واستفادوا من الطلب الوافد على الاستهلاك، أي من طلب السياح والزوار.
هذه الظاهرة، يسمّيها رئيس المركزي الاستشاري للدراسات عبد الحليم فضل الله بـ: «الاقتصاد الثنائي»، أي أن يتدهور النشاط الاقتصادي المرتبط بالحاجات الأساسية، في مقابل نموّ نشاطات أخرى تستفيد من التدفقات الوافدة من الخارج بالعملة الأجنبية. آليات التوزيع المرتبطة بالأموال المتدفقة من الخارج إلى الداخل، لا تكون سليمة، إذ تدور الأموال ضمن حلقات محدّدة فتكون هناك شرائح قادرة على تحقيق استفادة كبيرة، بينما هناك شرائح تحقّق استفادة متدنية جداً. هذا الأمر يفسّر قدرات التجّار على التلاعب بالأسعار والاستفادة من العملات الأجنبية المتدفقة عبر الزوار والسياح بنسبة أكبر بكثير من أولئك الذين يحصلون على تحويلات من ذويهم في المغترب مثلاً.
استمرار موجة التضخّم سيكون له ثقل كبير على القوّة الشرائية. فالطلب على الاستهلاك المحلي المموّل بالدولارات الوافدة، سيزيد الضغط على الأسعار، بينما سيشعر المقيمون في لبنان، ولا سيما الفئات الأدنى دخلاً أو المصنّفون ضمن الفقراء والأكثر فقراً، بوطأة هذه الارتفاعات ويتحملون نتائجها. أكلاف الصحّة مثلاً، زادت في الأشهر السبعة الأولى من السنة الجارية بما يفوق تضخّم الأسعار الإجمالي (173%) وسجّلت زيادة بنسبة 172%، أما البنود التي يرتبط ارتفاع أسعارها بالسياحة فهي زادت أيضاً؛ أسعار المطاعم والفنادق مثلاً زادت بنسبة 167% بين كانون الأول 2022 ونهاية تموز 2023، أي إن أرقام آب ستظهر ارتفاعاً إضافياً في الأسعار. كذلك، زادت كلفة الغذاء بنحو 164%، ولم تسجّل بعد الزيادة في الأقساط المدرسية التي يتم تنزيلها ضمن الإحصاءات في السنة المقبلة عندما يتم تكريس الزيادات في الأقساط، علماً أنه في السنة الماضية لم تزد كلفة التعليم بأكثر من ضعفي ما كانت عليه في السنة التي سبقت رغم الزيادات الهائلة التي أُضيفت على الأقساط، وقد يعزى ذلك إلى خطأ في آليات احتساب الزيادات والتصريح عنها، وهو أمر قد يتكرّر هذه السنة مع أن الزيادات على أقساط العام الدراسي المقبل المبلغة للأهل ستكون مضاعفة بعد دولرتها بشكل كامل.
التضخّم لا يحصل بالصدفة، إنما هو نتاج سياسة اتبعت في السنوات الماضية. هو من أشدّ وأقسى الضرائب التي يمكن أن تفرض على مجتمع ما، ويسمّيها الوزير السابق شربل نحاس «تشليح»، لأنها تصيب القوّة الشرائية للمداخيل والمدّخرات، وتداعياتها طويلة المدى لأنها تُسبّب الفقر الاقتصادي والفقر الغذائي، وتدفع نحو هجرة الشباب.