هي النافعة، أو هيئة إدارة السير والآليات والمركبات، أو مغارة رئيسة الهيئة هدى سلوم والأكثر من 40 مرتشياً، في أكبر ملف فساد ممنهج بتاريخ النافعة، والذي أفضت الضغوط السياسية فيه إلى إخراج غالبية المتهمين من الحجز الاحتياطي “بكفالات مالية”. هذه الضغوط لا تهدد خواتيم الملف القضائي في فساد النافعة وحسب، بل تهدد مستقبل الإدارة فيها. فمع تسييرها “بالتكليف” بعناصر من قوى الأمن الداخلي منذ أشهر، وتحولها لاستثناء على قاعدة “حاميها حراميها” في الإدارة اللبنانية، يستفز نموذج الإصلاح الإداريّ الموظفين المرتشين الطامحين بالعودة لـ”كنز” النافعة الذي يبيض لهم ذهباً.
إذ علمت “المدن” من مصادر رفيعة في هيئة إدارة السير بالتكليف، بأن 15 موظفاً ممن خرجوا بكفالات، تقدموا من رئيس الهيئة بالتكليف، محافظ بيروت مروان عبود، بطلبات العودة إلى مراكزهم في النافعة، ضاربين عرض الحائط الملف القضائي بتهم الرشى والإثراء غير المشروع، والتي تتراوح بين الجنح والجناية.
وعلى رأس مقدمي الطلبات، رئيس مصلحة تسجيل السيارات، أيمن عبد الغفور، أو “الرقم 2” في النافعة، بعد هدى سلوم، والمسؤول المباشر عن أزمة صكوك البيع التي عطلت النافعة لأشهر، والذي حصلت “المدن” على صورة من طلبه (المستند أدناه).
من جهتها، ترفض ادارة النافعة بالتكليف “رفضاً قاطعاً” عودة الطاقم السابق وعلى رأسهم عبد الغفور. وتعلق على طلبه في حديثها لـ”المدن” بالقول “إن لم تستح فافعل ما شئت”، فما زلنا حتى اليوم “نسدد فواتير كلفة طباعة صكوك البيع المجانية التي باعها في السوق السوداء، وجمع منها ثروة، مكلفاً المواطنين والمال العام ثمن تجارته بها”.
فساد ممنهج
ملف النافعة الذي فتحته القاضية غادة عون عام 2019، متهمة المديرة العامة لهيئة إدارة السير هدى سلوم بالإثراء غير المشروع، عاد ليختتم بعد ضغوط شديدة على القضاء من المرجعيات السياسية التي تغطي هدى سلوم. إلا أن الملف عاد ليفتح على مصراعيه عام 2022، مع توسع المحامي العام الاستئنافي، القاضية نازك الخطيب، وشعبة المعلومات، فيه، حيث أسدلت التحقيقات الستار عن “نظام فساد ممنهج في النافعة”. فسلوم كانت تجبر الموظفين على قبض الرشى من المواطنين، وتحجز لها خوة بملايين الليرات أسبوعياً من تلك الرشى ومن معقبين، عدا عن سبائك ذهب، ما جعل الخطيب تدعي عليها بتهم تصل عقوبتها للجناية.
نظام الفساد الممنهج هذا، تتجلى خطورته مع تخطي الموقوفين في الملف المئة شخص، بين موظف وسمسار ومعقب وطبيب، ممن أعطوا شهادات صحية لأصحاب رخص السوق المزورة في النافعة.
وككرة الثلج، تدحرجت اعترافات الفساد في ملف النافعة، بدءاً من تورط رئيس مصلحة الأوزاعي باسم عياد برخص سوق مزورة، لتطال جميع موظفي الأوزاعي وغالبية موظفي الدكوانة. أما رئيس نافعة الدكوانة، أيمن عبد الغفور، فأبى إلا أن يحجز له المرتبة الثانية في نظام الفساد الممنهج في النافعة.
الرقم 2 في النافعة: “ملك” صكوك البيع
وحسب تحقيقات القاضية نازك الخطيب، فإن أيمن عبد الغفور وسكريترته سندرا الراعي كانا “يتقاضيان الرشى المالية والتي تفوق قيمتها 300 مليون ليرة لبنانية أسبوعياً لقاء تسليم صكوك البيع (لزوم معاملات تسجيل السيارات) إلى 10 سماسرة محظيين ادعي عليهم، على الرغم من أن الصكوك مجانية ولا يترتب عليها أي أعباء للمواطن”.
ويصل المبلغ إلى مليار و200 مليون ليرة شهرياً، كان لعبد الغفور منه الحصة الوازنة، فاختلق أزمة صكوك البيع المجانية، حيث بيعت في السوق السوداء عبر سماسرة بمبالغ وصلت إلى 100 دولار للصك الواحد، علماً أن أزمة اختفاء صكوك البيع من النافعة، عطلت العمل فيها لأشهر، وعرقلت عمليات بيع وشراء السيارات لدى المواطنين، الذين وعوض الحصول على صكوك البيع مجاناً في النافعة، دفعوا ثمنها لجيب عبد الغفور والسماسرة.
وكأي متهم بالفساد في لبنان، حاوط عبد الغفور نفسه بأزلامه على وقع الزفة يوم خروجه من الحجز الاحتياطي، بكفالة مالية لم تتجاوز مبلغاً كان يحصده أسبوعياً من بيعه صكوك النافعة للسماسرة المحظيين.
خرج عبد الغفور على وقع المفرقعات، واعداً “جماعته” من معقبين وسماسرة بأنه “راجع” إلى النافعة، وإبن البترون المدعوم من تيار المستقبل والتيار الوطني الحر في الحقبة السابقة، غيّر اسمه على منصة الفايسبوك ليصبح “أيمن بتروني”، لكنه لم يغير عادته، فطلب من هيئة إدارة السير عبر محاميه العودة لاستلام مهمته كرئيس لمصلحة تسجيل السيارات في الدكوانة، فرفضت الهيئة استقبال الطلب، طالبة منه التوجه لرئيس الهيئة بالتكليف محافظ بيروت مروان عبود. لم يكذب أيمن عبد الغفور أو “أيمن بتروني” خبراً، وقدم طلبه لتنهال طلبات الموظفين على عبود، ويصل عددهم حتى أمس الأول إلى 15 موظفاً.
كتاب إلى المحافظ
ويطالب عبد الغفور عبر طلب أرسله للمحافظ بالبريد المضمون “إعطائي إجازة إدارية لمدة اسبوعين”، مهدداً “بحال عدم موافقتكم على إعطاء الإجازة فإنني سألتحق بعملي ووظيفتي لمتابعة مهامي كرئيس مصلحة تسجيل السيارات والآليات بالأصالة خلال 15 يوماً من تاريخ إخلاء سبيلي في 1/8/2023”.
ويستقوي عبد الغفور بأن إخلاء السبيل جاء من دون منعه من العودة إلى العمل ومزاولة صلاحياته الوظيفية. لكنه يتناسى أن ملف النافعة لم يختم في القضاء، وأن هناك هيئة حالية لإدارة السير بالتكليف، عيّنها وزير الداخلية لتسيير المرفق العام، وباتت هي المسؤولة اليوم، ولا يمكن لعبد الغفور تجاوزها.
هيئة السير بالتكليف: لا عودة للفاسدين
أكثر من ذلك، فإن أيمن عبد الغفور موظف فئة ثانية، وإعادته للإدارة تحتاج قراراً من الوزير الداخلية بسام المولوي.
من جهتها، ترفض هيئة إدارة السير “رفضاً قاطعاً” إعادة عبد الغفور إلى مصلحة إدارة السير. في السياق تقول مصادر رفيعة في الهيئة لـ”المدن”: الفاسد فاسد، حتى لو وضعنا 30 ضابطاً وعسكرياً من قوى الأمن الذين يسيرون اليوم العمل في النافعة فوق رأسه لمراقبة عمله”، مستشهدة بالآية القرآنية: “إن الله لا يصلح عمل المفسدين”.
وما يطمئن الإدارة اليوم، هو “أجواء الوزير الرافض إعادة الموظفين الفاسدين إلى إدارة النافعة”، متوقعة “إعادة أيمن عبد الغفور إلى الإدارة في مديرية أخرى، ونقل الموظفين إلى مصالح أخرى غير إدارة النافعة”.
وإدارة النافعة بالتكليف اليوم، ما زالت تسدد للجيش ثمن صكوك البيع المجانية التي بيعت في السوق السوداء بشيكات، والتي قدر عددها بـ130 ألف صك، في خسارة فاضحة للأموال العامة.
في السياق، تعلق المصادر “السارق يجب أن يطرد كلياً من الإدارة التي أفسد فيها، لا أن يطالب براتبه أو مركزه الذي استغله ليفسد في الإدارة”.
النافعة: أو الدجاجة التي تبيض ذهباً
بعيدا عن ارتكابات عبد الغفور في النافعة، وخطر إعادة الموظفين المتورطين بنظام الفساد الممنهج للإدارة، في محاولة نهائية للقضاء على تحقيقات النافعة، لا بدّ من الوقوف عند مهمة عبد الغفور في النافعة منذ تعيينه، هو الذي يطالب اليوم بعودته رئيساً للمصلحة بالأصالة، بينما ينقض قرار سابق لمجلس الشورى هذا التعيين الذي يراه “مشوباً بعيب مبطل”.
إذ بتاريخ 6/6/2018 صدر عن مجلس الشورى، قرار اعتبر تعيين عبد الغفور من قبل وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق، أي سلطة الوصاية على النافعة، وليس من قبل المدير العام، قراراً “صادراً عن سلطة غير مختصة ومشوباً بعيب مبطل”.
فبأي جرأة يطالب عبد الغفور بالعودة إلى مركز شغله “بعيب مبطل”؟ ثم أضاف على العيب حرمان المواطنين الحصول على صكوك البيع المجانية متاجراً بها؟
بقية الموظفين ليسوا أقلّ “شطارة” من عبد الغفور. وتكشف مصادر هيئة إدارة السير بالتكليف، لـ”المدن” عن “شراء أحد الموظفين المتهمين قطعة أرض بـ3 مليون دولار منذ عدة أيام”، محذرة من أنها لن تسمح برجوع النافعة إلى الوراء، فهي مرفق عام لخدمة اللبنانيين، وليست دجاجة تبيض للفاسدين أراضي، ولا ذهباً!