ترتفع الأصوات في هذه الحقبة لمطالبة المصارف بالمساهمة في خفض العجز في المالية العامة للدولة. ولا يختلف اثنان على انّ كل اللبنانيين سيضطرون، بطريقة أو بأخرى، الى المشاركة في الانقاذ. لكن ينبغي التنبّه الى اسلوب التعاطي مع هذا الملف، لئلا يتحوّل الى إعاقة تزيد في عمق وصعوبة الأزمة، وتسرّع في تحويلها الى كارثة.
تعاني المصارف إجمالاً، وفي أي مكانٍ في العالم، مثلها مثل وزارات المالية من «عدائية» الناس حيالها. إذ من سابع المستحيلات ان يكون النبض الشعبي متعاطفاً معها.
وزارة المالية بالنسبة الى الناس، هي الوزارة التي تفرض وتُجبي الضرائب، والبعض «يكرهها»، وكأنّها هي المسؤولة عن أخذ الاموال من الجيوب. ولا يستطيع المواطن عموماً، أن يتصرّف بعقلانية حيال أي قرار تتخذه وزارة المالية لتحصين الوضع المالي، ولا يستطيع ان يتفهّم انّ ما تفعله الوزارة هو في مصلحته، وفي مصلحة البلد.
الأمر نفسه ينطبق على المصارف، التي ينظر اليها الناس على أساس انّها تُقرضهم المال وتأخذ الفوائد وتحقّق الأرباح. وهي، وان كانت صمّام الأمان في اي اقتصاد، الا انّها تجذب اليها، خصوصاً في فترة الأزمات والشح، غضب الشارع الذي يتعاطى معها وكأنها المسؤولة عن تراجع قدراته الشرائية.
هذا الوضع الذي يتكوّن من انطباع عام لا علاقة له بالواقع، هو الذي يشجّع السياسيين في بعض الأحيان، على السماح لأنفسهم بمحاولة نقل مسؤولية الأزمات الى المصارف، لأنّ الناس يميلون الى التصديق، ما دامت المصارف هي الصناديق التي تحوي الاموال في مواسم الشح.
هذا المفهوم الخاطئ هو الذي يدفع بعض الطبقة السياسية في لبنان الى استسهال تحميل المصارف مسؤولية أمور لا علاقة للمصارف بها اولاً، وتؤدّي الى مزيد من التعقيدات في الأزمة، وتنعكس شحاً اضافياً في السيولة ثانياً.
وبصرف النظر عن الاستعداد الذي تبديه المصارف للمساهمة في اي عملية انقاذية للوضع المالي والاقتصادي للدولة، ينبغي دائماً الأخذ في الاعتبار الامور والشروط والحقائق التالية:
اولاً- لا يجوز تعريض سمعة المصارف وحصانتها، التي تؤمّنها لها القوانين المرعية الاجراء، لأي مساس أو علامة استفهام.
ثانياً- ينبغي التصرّف دائماً على أساس أنّ المصارف كيان ينتمي الى صميم المجتمع، وهو ليس كياناً غريباً، لكي يصبح المجتمع في حال صراعٍ معه.
ثالثاً – لا بدّ من التركيز دائماً على أنّ الاموال في المصارف هي اموال الناس، الفقراء والاغنياء على السواء، بصرف النظر عن فارق النسب.
رابعاً – انّ الثقة التي يتمتّع بها القطاع المصرفي اللبناني هي التي سمحت له باستقطاب كميات كبيرة من الاموال حتى وصل مجموع الودائع في المصارف الى ثلاثة أضعاف حجم الاقتصاد الوطني، وهي نسبة من أكبر النسب في العالم.
خامساً – انّ المصارف، في أي نظام اقتصادي حرّ هي الشريان الحيوي للاقتصاد الوطني الذي يحرّك معظم القطاعات، ويساعد على نمو الثروة الوطنية من خلال نمو الاقتصاد.
سادساً – انّ المصارف اللبنانية تحديداً هي من القطاعات القليلة وربما النادرة التي تدفع ضرائبها كاملة للخزينة، وهو ما يفسّر ان تكون حصّة المصارف وحدها من حجم مجموع الضرائب على الأرباح التي تجبيها الخزينة وصلت الى 68%، في حين انّ حجم القطاع قد لا يشكّل اكثر من 25% من مجموع المؤسسات والشركات التي تحقق الارباح. وهذا يعطي في الوقت نفسه فكرة عن حجم التهرّب الضريبي في لبنان.
سابعاً – انّ حجم الودائع المصرفية، وان كان كبيراً جداً قياساً بحجم الاقتصاد الوطني، إلا انّه ينبغي الأخذ في الاعتبار انّ هذه الاموال موظفة بنسبة كبيرة في الدين العام للدولة، وفي الايداعات في مصرف لبنان، والذي بدوره يستخدم قسماً من الاموال في الاكتتاب بسندات الخزينة، وفي إقراض القطاع الخاص.
صحيح انّ توظيف الاموال يتم بحِرَفية من حيث الحفاظ على نسب السيولة المتعارف عليها عالمياً لضمان عدم التعرّض لأي هزّة، لكن الصحيح أيضاً، انّ الظروف الاستثنائية الصعبة التي يمرّ بها البلد، خصوصاً في السنوات الثلاث الأخيرة، باتت تقلّص حجم الفوائض في السيولة، وبالتالي، باتت قدرة المصارف محدودة جداً بالنسبة الى الهامش المُتاح أمامها للتصرّف بأي فائض.
ثامناً – نسبة نمو الودائع في المصارف تتراجع باضطراد منذ 6 أو 7 سنوات، وقد وصلت الى مستويات غير مُريحة في العامين 2017 و2018. وهناك من يعتبر انّ نمو الودائع أصبح سلبياً في 2018 اذا ما تمّ احتساب النمو الالزامي العائد الى الفوائد على الودائع. هذا الوضع يعني انّ تدفّق الاموال تراجع بنسبة لا يستهان بها، وسحب الودائع ارتفع بنسبة لافتة ايضاً.
تاسعاً- انّ مخاطبة المصارف علناً من قِبَل الجهات السياسية، أياً كانت هذه الجهات، أمرٌ غير مفيد، بل مضرّ جداً. ويعطي الانطباع للداخل والخارج بأنّ الطبقة السياسية قادرة على الضغط على المصارف، وهي بالتالي قادرة على التحكّم بمصير اموال الناس المودعة في المصارف، وهو انطباع خطير أقل ما يُقال فيه انّه يؤدي الى مزيد من انحباس تدفّق الاموال، والى تشجيع سحب المزيد من الودائع، ويُضعف بالتالي قدرة المصارف على الاستمرار في تمويل الدولة والقطاع الخاص، بما يعني تعقيد الأزمة الاقتصادية والمالية أكثر، وتكبير الثمن الذي سيدفعه اللبنانيون في النتيجة للخروج من الأزمة. من هنا، ينبغي حصر الحوار بين السلطة السياسية والمصارف في الغرف المغلقة، للتفاهم على دور القطاع في الانقاذ.
عاشراً- انّ الشروط الاصلاحية التي قد تضعها المصارف للمساهمة في عملية الانقاذ يُفترض ان تكون مصدر طمأنينة للبنانيين وليس العكس. واذا كانت الدول المانحة وضعت شروطاً اصلاحية الزامية لإقراض الدولة اللبنانية لتنفيذ المشاريع المُتفاهم عليها في «سيدر»، فمن باب الأولى ان تضع المصارف شروطاً مشابهة.
وللمفارقة، اذا حصل لبنان على قروض «سيدر» من دون تنفيذ الشروط الاصلاحية، فانّه يخسر مصداقيته، لكن اذا أخذ الاموال من ودائع المصارف ولم يلتزم شروط الاصلاح فانّه يخسر مصداقيته وثروة ناسه، وتكون خسارته مُضاعفة ويصعب تعويضها.
في النتيجة، الناس والبلد والمصارف في مركب واحد، وهذا امر يتفق عليه الجميع. لكن المطلوب الاعتراف بأنّ من يقود المركب يأخذه الى الغرق. وقد حان الوقت لقليل من التواضع والضمير والاستماع الى صوت العقل، لانقاذ الجميع بدلاً من اتهامهم بأنهم يرفضون الغرق مع الآخرين.