عندما اصطدم البلد بحقيقة فقدان ودائع المصارف، وضياع رؤوس أموالها وأموال مصرف لبنان، وبات المصير مفتوحا على جحيم الإنهيار، ظنّ كثيرون ممن عانوا من قسوة الصدمة، أن الدولة لا بد حازمة لأمرها، وستسارع الى حماية ما تبقّى، ووضع الأسس والتشريعات اللازمة لتصحيح المسار المالي والنقدي والمصرفي، وإنقاذ البلد من الغرق أكثر.
ما يقرب من 5 سنوات و”تضييع” الوقت سمة هذه الدولة، وهدر الفرص “شيمة” لا تفسير لها في قواعد الحكم. فمن قانون “الكابيتال كونترول”، الى قوانين هيكلة المصارف، والتعافي المالي، وغيرها من القوانين الإصلاحية المطلوبة محليا ودوليا، التي لو سارعت الدولة إلى إقرارها ووضعها قيد التنفيذ، لكانت بدأت تباشير انتظام الإقتصاد والنمو بالظهور، ولكان لبنان حاليا على سكة التعافي والصعود من القعر.
فالحكومة لم ترسل أيّ قانون اصلاحي الى مجلس النواب منذ 4 سنوات باستثناء قانون رفع السرية المصرفية الذي اقر، فيما فشلت في ارسال “الكابيتال كونترول” الذي اقر مرتين في لجنة المال والموازنة. كما فشلت في ارسال قانون اعادة الهيكلة، وتم تقديمهما لاحقا من نائبين بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون وتحوّل الحكومة الى تصريف الأعمال.
أما اقتراح قانون “الإنتظام المالي” الذي تم تشريحه في لجنة المال والموازنة والذي يعوّل عليه ليساعد على تنظيم الخروج من القعر، فلن يبصر النور ما لم تتوافر له العناية الحكومية والنيابية المشتركة، لتحميه من الشرود في متاهة الشعبوية، وبيع الأوهام للناس الذين فقدوا الى جانب جنى أعمارهم، القدرة على الصبر وانتظار الترياق اللازم لمعالجة إنهيارهم الإقتصادي والإجتماعي.
اللامبالاة هي السمة التي تحكم عمل الحكومات المتعاقبة وتحديدا حكومتي حسان دياب ونجيب ميقاتي اللتين أعدتا خططا للانقاذ المالي والاقتصادي، من دون أن يصاحب هذه الخطط اي تدقيق في حسابات المصارف وموجوداتها وعائدات وحسابات وأصول القطاع العام. وتاليا ثمة تخوّف من ان يكون الهدف هو التعويل على عامل الوقت بغية تذويب ودائع الناس والالتزامات المترتبة على مصرف لبنان والمصارف والدولة.
وهنا لا بد من التذكير باجتماع لجنة المال في 30/6/2022 بحضور الرئيس نجيب ميقاتي ووزير المال ونائب رئيس الحكومة وممثلين عن مصرف لبنان وسائر المعنيين للاطلاع على أول خطة أعدتها الحكومة، وتبين من خلالها أنه تم شطب نحو 60 مليار دولار من الودائع، بناء على اتفاق مع صندوق النقد الدولي، علما أن ميقاتي وعد خلال هذا الاجتماع بإجراء تعديلات على ما ورد فيها من شطب للودائع واستبداله بتصور لم يناقشه في حينه مع صندوق النقد، وتضمّن من وجهة نظره حلا لمسألة الودائع والفجوة المالية ووعد بارسال التصور خلال ايام.
كان ذلك في 30 حزيران 2022. بعد هذا التاريخ استمرت المراوحة حتى انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون واستقالة الحكومة وتحوّلها الى تصريف الأعمال، وبعد 7 أشهر اي في نهاية العام 2022، قدم النائبان جورج بوشكيان وأحمد رستم اقتراح قانون إطار لإعادة التوازن للانتظام المالي. ولكن عند درسه تبين أن الثغرات عينها لا تزال واضحة، على رغم اجراء بعض التعديلات عليها، علما أن قانون الانتظام المالي أتى بعد اشهر وبعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية من دون أن يحظى بموافقة الحكومة ومن دون توقيع رئيس الجمهورية.
في ذلك الوقت، اقترحت لجنة المال اجراء تدقيق في حسابات وموجودات المصارف والدولة، وبناء على النتائج ترسم خطة لقانون استرداد الودائع أو تقسيطها، لكن الحكومة اقترحت اعداد القانون واقراره ومن بعدها تقوم بإجراء التدقيق، علما أنه يتم التفاوض مع شركة تدقيق عالمية منذ نحو 6 أشهر، ولكن حتى اليوم لم يحصل الاتفاق بسبب عدم توافر 6 ملايين دولار لتوقيع العقد!
في الاجتماع الاخير للجنة المال والموازنة وضع اقتراح قانون إعادة التوازن للنظام المالي على المشرحة فتبين من خلال المناقشات أن ثمة “شياطين” تكمن في التفاصيل. إذ في ما خص خسائر مصرف لبنان، ثمة فجوة مالية (أي خسائر) مقدرة بـ 73 مليار دولار ستتم تغطيتها، وفقا لاقتراح القانون، من خلال خفض قيمة توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان بالعملات الأجنبية. أي عمليا شطب مبلغ 73 مليار دولار من إيداعات المصارف لدى مصرف لبنان. ولما كانت إيداعات المصارف لدى مصرف لبنان بالعملات الأجنبية تتألف بمعظمها من ودائع المودعين بهذه العملات، فإن معالجة الفجوة في حسابات مصرف لبنان ستتم عمليا من ودائع المودعين، باستثناء مليارين ونصف مليار دولار تقدمها الدولة عن طريق إصدار سندات مالية و/أو أي وسيلة أخرى. والسؤال: من يكتتب بسندات حكومية صادرة عن دولة متوقفة عن الدفع منذ العام 2020 وموازنتها في حالة عجز مما يضطرها إلى الاقتراض من مصرف لبنان؟
في ما خص الودائع المصرفية تم تقسيم الودائع بالعملات الأجنبية إلى ودائع مؤهلة وودائع غير مؤهلة، يضاف إلى ذلك ما اصطُلح على تسميته الأموال الجديدة، وهو أمر يخالف مبدأ مكرسا دستوريا يقضي بالمساواة بين المواطنين، ويعرّض القانون للطعن بدستوريته في حال إقراره. وقسّمت الودائع بين ما لا يزيد على 100 ألف دولار، وأخرى تزيد على 100 ألف دولار.
في الحالة الاولى يمكن تسديدها ضمن شروط منها: ملاءة كل مصرف على حدة وقابلية المصرف المعني للاستمرار وفقا لأحكام قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي الذي لم يقر بعد، وربط استرجاع الودائع أو أي قسم منها بوضعية كل مصرف قابل للاستمرار وخصوصا ملاءته وسيولته، وامكانية تحويل الوديعة كليا أو جزئيا إلى العملة اللبنانية على أساس سعر “صيرفة” وفقا لآلية تضعها الهيئة المصرفية العليا، ومراعاة السياسة النقدية التي يحددها مصرف لبنان، وحسم فائض الفوائد المدفوعة منذ عام 2015 لقاء الودائع المؤهلة من الرصيد الذي يفوق 100 ألف دولار على أن يحدد مصرف لبنان مقدار هذا الفائض.
أما الودائع التي تزيد على 100 ألف دولار فيمكن تحويلها إلى الليرة على سعر يقل عن سعر منصة “صيرفة” وفقا لآلية تضعها الهيئة المصرفية العليا، اضافة الى إخضاع الودائع المؤهلة وغير المؤهلة بجميع العملات في المصارف غير القابلة للاستمرار، وفقا لأحكام قانون إعادة هيكلة المصارف (الذي لم يقر بعد)، ولأحكام قانون إنشاء المؤسسة الوطنية لضمان الودائع.
وهذا يعني عمليا ضياع جميع الودائع (المؤهلة وغير المؤهلة) ومهما كانت عملتها في المصارف غير القابلة للاستمرار، لقاء تعويض لا يزيد على 75 مليون ليرة مع وعد بإعادة النظر به.
في ما خص صندوق استرجاع الودائع الذي يهدف الى المساهمة في استرداد رصيد الودائع المؤهلة، على أن تتكون موارده من: جزء من أصول المصارف بما في ذلك قسم من عائداتها وإيداعاتها لدى مصرف لبنان، وشهادات الإيداع الصادرة من قِبله لصالحها، ومساهمة مالية من المصارف توازي نسبة من أرباحها، وتحويل حقوق مصرف لبنان المتعلقة بإمكان افادته من إيرادات الأموال المسروقة والمهربة وغير المشروعة. وفي هذا الشق طرحت أسئلة عدة أهمها: ماذا تبقّى من إيداعات مصرف لبنان، إذا كان مبلغ 73 مليار دولار سيخصص لتغطية الفجوة في حسابات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية؟ ومتى سيصبح بإمكان المصارف أن تحقق أرباحاً؟ وهل لمصرف لبنان حقوق تتعلق بإمكان افادته من إيرادات الأموال المسروقة والمهربة وغير المشروعة؟ وبالاستناد إلى أي نص قانوني؟
كما يلحظ صندوق استرداد الودائع تخصيص الدولة بعض الإيرادات المستقبلية إذا توافرت شروط تتعلق بالايرادات ومستوى الدين، والمحافظة على النفقات الاجتماعية وإمكانية تمويل أي عجز في الموازنة من غير مصرف لبنان، وإتمام البرنامج الإصلاحي بنجاح، وهي شروط يصعب تحقيقها أقله خلال 10 أعوام. عدا عن ذلك، كيف يمكن تخصيص إيرادات في حال كان هناك عجز في الموازنة يمول من غير مصرف لبنان، بما يعني زيادة الدين العام؟
والأنكى من ذلك، هو تحديد هيكلية الصندوق وتعيين إدارته من الحكومة، فيما السؤال هل ثمة من يثق بعد بالحكومة، أي حكومة، ليعطيها شيكا على بياض؟ والاهم أن تنفيذ القانون في حال إقراره يتوقف على إقرار قانون “الكابيتال كونترول”، وإقرار قانون إعادة هيكلة المصارف.
خلاصة القول، يؤكد متابعون أن “اقتراح قانون إعادة التوازن إلى النظام المالي، معطوفا على اقتراح قانون إعادة هيكلة المصارف، ليس سوى تفويض لمصادرة الودائع المصرفية باسم الشعب اللبناني، إذ ما الذي يمنع من اعتبار جميع المصارف القائمة غير قابلة للاستمرار بالتواطؤ مع أصحابها، من أجل الترخيص لمصارف جديدة، ومصادرة الودائع الحالية لقاء تعويض لا يتجاوز 75 مليون ليرة لكل مودع يُدفع من مؤسسة ضمان الودائع”؟
أمام كل ما تقدم، يدعو رئيس لجنة المال والموازنة النائب ابراهيم كنعان عبر “النهار” الحكومة الى تغيير المقاربة والذهاب الى طرح اكثر جدية، “وبكل الاحوال نحتاج الى تدقيق جدي في موجودات واصول المصارف والدولة لتحديد الامكانات الفعلية لكليهما اذا كانت الحكومة جدية بتطبيق هكذا قانون، والشروع في اعادة هيكلة المصارف وفقاً لمعطيات حقيقية غير مشكوك فيها”. ومع مرور4 سنوات على الانهيار، استغرب كنعان تأخر السلطة التنفيذية من الحكومة السابقة الى الحالية في القيام بالتدقيق المحايد في حسابات المصارف وموجوداتها وعائدات القطاع العام وحساباته.