ليس من المبالغة القول إن المصارف «تستفرد» بالعملاء والمودعين من دون حسيب ورقيب، ليس فقط من خلال أدائها خلال الازمة الذي وضع مصير ودائعهم «في علم الغيب»، بل أيضاً في سلوكها الحالي المتعلق بإجراء المعاملات والتحويلات وفرض رسوم عليها بحسب ما تراه مناسباً مهما كان مبالغاً به، من دون أن تحرك الجهات الرقابية وعلى رأسها لجنة الرقابة على المصارف، ساكناً. بل تكاد تكون هذه الأخيرة في «كوكب» آخر عن كل حالات التعسف التي يعيشها العملاء يومياً، أو «شاهد ما شفش حاجة» علماً أنها من الناحية القانونية هي المسؤولة عن وقف هذا الظلم المتمادي بحق المودعين.
أمثلة… وشكاوى
حكايات كثيرة، تنقل يومياً عن تعسف المصارف ومنها ما يرويه المودع ر. م. لـ»نداء الوطن» بأن «بنك بيروت طلب منه عمولة اضافية قدرها 500 ألف ليرة، في حال اراد ان يدفع قسط قرض الاسكان من حسابه في المصرف بالاضافة الى العمولة الاصلية، وفي حال اراد دفع القسط «كاش» تكون العمولة 200 ألف ليرة فقط، كما أنهم ابلغوه ان عليه أن يدفع 9 دولارات كعمولة على بقاء حسابه في المصرف المخصص لقرض مصرف الاسكان في حين أن القرض بالليرة اللبنانية».
يضيف: «أبلغوني في بنك عوده أنه اذا أردت ايداع أموال، فيجب أن أدفع عمولة وفي حال أردت سحبها أدفع عمولة أيضاً». كلام المودع يدل على أن «المصارف باتت مثل المنشار تأكل من أموال المودعين على الطالع والنازل» وعلى كل أنواع الحسابات، سواء «اللولار» أو «الفريش»، وفي مقارنة مع بدايات الأزمة وحتى منتصف عام 2020، كان بنك عوده مثلاً يسحب على مبلغ 500 دولار وما دون نحو 10 دولارات، عدا عن عمولة سحب المبلغ التي كانت تقدر بنحو دولارين إلى ثلاثة دولارات. آنذاك، كان الدولار الواحد يساوي ما يقارب الـ 7 آلاف ليرة لبنانية تقريباً. مع مفارقة أن العمولات الخيالية يقابلها احتجاز أموال المودعين، بمعنى أن المصارف تفرض العمولات على ودائع محتجزة من قبلها وتمنع أصحابها من التصرف بها.
وفي مثل آخر على التعسف الحاصل تروي مودعة لـ»نداء الوطن» أنها «حين طلبت من مصرفها كشف حساب الـ»فريش» دولار لتقديمه إلى السفارة الاماراتية لإنهاء معاملة التأشيرة، قالت لها الموظفة إن العمولة 15 دولاراً أميركياً عدا عن رسوم الطوابع. وتفاجأت أيضاً أنّ معاملة كشف الحساب التي كانت تتسلمها خلال عشر دقائق، أصبحت تستغرق يومي عمل ريثما توافق عليها الإدارة».
تعويض خسائر
الحجة التي تقف وراءها المصارف لتبرير الظلم الذي تمارسه بحق عملائها هو انها تريد تعويض خسائرها، لذلك رفعت قيمة العمولات من دون تحديد سقف لها خصوصاً أن لا قانون يحدد هذا السقف، ولذلك قامت بزيادة رسوم صيانة الحساب وخفض أسعار الفائدة على الودائع وزيادة رسوم المعاملات، وإدخال رسوم جديدة بحيث أضيفت إلى الخدمات التي كانت مجانية، مثل الخدمات المصرفية عبر الإنترنت وبطاقات الخصم ودفاتر الشيكات.
كل ما سبق يجري تحت أعين لجنة الرقابة على المصارف، التي من مهامها الأساسية التدقيق في صحة وسلامة القطاع المصرفي والحفاظ على سمعته ومصداقيته دولياً، أي أن عليها تقييم مدى تقيّد المصارف بالقواعد المصرفية، وهي جميعها عوامل لم تعد اليوم متوفرة لدى القطاع المصرفي. وبناء على كل ما سبق يجدر طرح السؤال التالي: هل تتحمل لجنة الرقابة على المصارف مسؤولية ما آلت اليه أوضاع القطاع حالياً ولا سيما اداء المصارف مع المودعين بعد الازمة؟ وهل يمكن مقاضاة أعضائها الذين يتقاضى كل واحد منهم آلافاً كثيرة جداً من الدولارات شهرياً؟
إهمال؟ تواطؤ؟
يعتبر المراقبون أن هناك مسؤولية تتحملها اللجنة عن وقوع الازمة، بسبب إهمالها لمهامها او تواطئها من ناحية عدم تسليط الضوء على مخالفات المصارف، خصوصاً أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي حذّرا مراراً وتكراراً ومنذ سنوات السلطات المالية لكن السلطات تجاهلت تلك التحذيرات. في المقابل يعزو بعض المراقبين سبب تقاعس لجنة الرقابة عن وضع يدها على المخاطر قبل الازمة، وعدم القيام بواجبها حالياً الى تركيبة اللجنة ذاتها، للمثال: منحت جمعية المصارف حق اقتراح وتسمية أحد أعضاء اللجنة. فبات المُراقَب صاحب صلاحية في تعيين من سيراقبه. كما أن استعراض أسماء لجان الرقابة يشير الى أن انتقاءهم كان تقريباً من عاملين لدى المصارف، تمت تسميتهم وتعيينهم ضمن آلية محاصصة تتحكم فيها المنظومة السياسية، التي تغذت لعقود من موارد المصارف لتمويل فساد الدولة التي تقبض عليها.
تقصير رقابي فادح
يشرح المحامي باسكال فؤاد ضاهر لـ»نداء الوطن» أن «المهمة الاساسية للجنة الرقابة على المصارف هي الاشراف وتأمين انضباط المصارف والرقابة عليها، لجهة انتظامها ضمن الاسس القانونية المصرفية والسهر على انضباط العمل المصرفي بشكل عام، اي استثماراته ومخاطره. والنتيجة التي يعيشها الجميع هي التي تحدد ما اذا كان عملهم صحيحاً ام لا»، لافتاً الى أن «الازمة الحالية تظهر أنهم قصّروا في عملهم الرقابي، لا سيما وانه بات من الثابت اخفاقهم في عملهم لناحية غضهم الطرف عن استمرار المصارف في التوظيف في الدين العام، وعدم التأكد من جدية الأنظمة الإحترازية بالإقراض وايضاً بالمخاطر وعدم استعمال صلاحياتهم في انكشاف المصارف على الديون السيادية». ويوضح أن «اللجنة تقاعست في التحقق من جودة الاصول واجراءات التحوط كما العناصر الاساسية من ملاءة وسيولة ورأس مال واموال خاصة. وهنا لا بد من التوضيح ان لجنة الرقابة انفصلت عن المصرف المركزي واصبحت لجنة قائمة بذاتها بهدف تأمين فاعلية اعمالها وباستقلالية تامة».
الخطأ الجسيم
يضيف: «بحسب القانون، المسؤولية على هذه اللجنة تترتب على أساس الخطأ الجسيم او ما يعرف بالاهمال القصدي. ومن هذا المنطلق يمكن مقاضاة هذه اللجنة، لأنها لم تقم بعملها بالصورة السليمة والصحيحة، ولم تشرف على اعمال القطاع المصرفي علماً انه من المفترض أن تتحرك تلقائياً، وخصوصاً انها تضم خبراء ومن المفترض انهم يقومون بعملهم بشكل سليم ودقيق»، مشيراً الى أن «التجربة أثبتت عكس ذلك. وقد يكون هنالك تعارض مصالح، لأنهم حتى الساعة لم يستعملوا سلطاتهم وصلاحياتهم المنصوص عليها في القانون قبل حصول الازمة وبعدها».
تجارب أجنبية
يلفت ضاهر الى أنه «في التجارب الاجنبية للتعامل مع امثلة مشابهة، فبعد أزمة مصرف «كريدي سويس» تمّ البحث جدياً من قبل السلطات المصرفية في سويسرا لاسترجاع الرواتب، لأن الموظفين لم يقوموا بعملهم بالشكل السليم. وسنداً على قرار صادر عن محكمة العدل الاوروبية اعتبر انه يقع على عاتق المصرف المركزي ولجنة الرقابة على المصارف العمل ضمن مقتضيات الحيطة والدقة والتبصر، وفي قرار آخر لمجلس الدولة أن مسؤولية المصرف المركزي ولجنة الرقابة لا تعفي مسؤولية المصارف التجارية برد الودائع».
لماذا يتقاضى راتبه؟
ويرى أنه «في ما خص العمولات الحاصلة بشكل عشوائي في لبنان، هناك دور للمصرف المركزي ولجنة الرقابة على المصارف وكل أعضاء المصرف المركزي، لأن مهمتهم الاساسية هي تطبيق قانون النقد والتسليف لا سيما المادة 208 منه، خصوصاً وأن كتلة المشروعية تضمّ قوانين مالية ومصرفية ودمج واندماج وإعادة هيكلة وتصفية ووضع يد، وجميعها سارية المفعول»، معتبراً أنه «لسنا بحاجة إلى قوانين جديدة قد لا تأتي، بل إلى تطبيق تلك الموجودة، وهذا التزام يقتضي على رجل الإدارة التقيد به، والا لماذا يتقاضى راتبه؟ وأما انكفاء الجميع عن ممارسة دوره الرقابي والعقابي على المصارف، بحجة انتفاء النص او انتظار نص قانون وغضه الطرف واهماله النصوص الموجودة، وإبقاء وضع المرابحة قائمة على جيب المودع بفعل التعاميم غير المشروعة، وتصرفات المصارف التي فاقت كل تصور لا سيما لناحية المرابحة من حساباتهم، وترتيب مصاريف ضخمة على كاهلهم بمقابل امتناعهم عن القيام بواجباتهم المصرفية العادية، فهذا أمر غير قانوني على الاطلاق».