منذ العام 2003، تواظب الحكومات المتعاقبة ومجلس النواب على اقرار موازنات من دون قطع حساب وخارج المهل الدستورية والمالية، بعد ان تكون قد أنفقت ما أنفقت وفق القاعدة الاثني عشرية وجبت ما جبت من ايرادات لا يدخل جزء كبير منها في حسابات الموازنة، وهو ما جعلها تدير شؤون الدولة المالية على طريقة «دكاّن أبو علي».
هذا ما يحصل اليوم أيضا بالنسبة لموازنة 2023، التي شارف العام على نهايته ولم تقرّ بعد، في حين انطلقت حفلة «الزجل» و»التنظير» في ما يتعلّق بموازنة 2024، لناحية ضرورة اقرارها ضمن المهل وان تكون مبنية على رؤية اقتصادية ومالية واضحة علما ان أرقام الموازنة أُعدّت قبل اعداد فذلكة الموازنة التي من المفترض ان تأتي أوّلا لتعكس الارقام الواردة فيها.
إنخفاض العجز
ولكنّ بغض النظر عن المهل وقطع الحساب والرؤية الاقتصادية التي هي جميعها أساس وضرورة لاعداد موازنة واضحة ودقيقة، لماذا تعجز وزارة المالية عن اعداد موازنة غير عاجزة رغم علمها المسبق ان لا قدرة لها بعد اليوم على تمويل العجز عبر الاقتراض المحلي او الدولي كما جرت العادة؟ مع الاشارة الى ان مجلس الوزراء اقرّ موازنة 2023 بعجز نسبة 23,5 في المئة وموازنة 2024 بعجز نسبته 13,8 في المئة. وما المانع امام إعداد موازنة متوازنة وما هي الاجراءات المطلوبة لذلك؟
راشد: تحرير سعر الصرف بالكامل
في هذا الاطار، اعتبر رئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية والخبير الاقتصادي السابق في صندوق النقد الدولي منير راشد ان التحرير الكامل لسعر الصرف من دون منصة وغيرها، واعتماده في حسابات الموازنة، هو امر كفيل وحده بخفض عجز موازنة 2024 الى النصف (20 تريليوناً بدل 40 تيرليون ليرة) حيث انه يحسّن ايرادات الدولة من الرسوم الجمركية والضريبة على القيمة المضافة وضريبة الاجور والرواتب التي لم تعد الشركات تصرحّ عنها بشكل صحيح بعد دولرة الاجور في القطاع الخاص.
موازنة فصلية
وأكد راشد لـ»نداء الوطن» ان اعداد موازنات فصلية تعتمد على ارقام جباية الايرادات بشكل فصلي، يساهم في الوصول الى موازنة متوازنة بعد 4 الى 6 فصول، مما يمنح السوق الثقة كون العجز المالي يؤدي الى تدهور سعر الصرف. موضحاً ان الموازنات الفصلية ضرورية بموازة الموازنة السنوية.
إصلاحات ضرورية
واشار الى ان الاصلاحات المطلوبة والتي حددها صندوق النقد الدولي، بالاضافة الى اصلاحات بسيطة اخرى، كفيلة في تحقيق توازن في الموازنة عند تطبيقها، منها تحسين الجباية والتدقيق فيها ومكافحة التهرب الضريبي، وقف الدعم لجهات عدّة مثل المؤسسات الاجتماعية ومؤسسة كهرباء لبنان ودعم الفوائد على القروض الاستثمارية وغيرها من البنود التي يمكن حصر نفقاتها او تحصيل ايرادات اضافية منها، ترفض وزارة المالية تعديلها.
عون: صعوبة ضبط العجز بسرعة
من جهته، اعتبر عضو لجنة المال والموازنة النائب آلان عون ان ارقام موازنتي 2022 و2023 تأثرتا بشكل أساسي بسعر الصرف حيث ان موازنة 2022 أُعدّت وفق سعر صرف يبلغ 15 الف ليرة واقرّت بسعر صرف عند الـ45 الف ليرة ليعود سعر الصرف ويتخطى الـ90 الف ليرة بعد شهرين. كذلك الامر بالنسبة لموازنة 2023 التي لم تعدّ وفق سعر الصرف الحقيقي.
وقال لـ»نداء الوطن» انه من المتوقع ان تكون موازنة 2024 قد اعدّت على اساس سعر الصرف الحقيقي، مما ساهم في تقليص عجز الموازنة الذي لا يمكن، وفقا له، التخلّص منه «ضربة واحدة» اي بعام واحد «بدليل ان صندوق النقد الدولي عندما بدأنا التفاوض معه في 2020 أعدّ خطة خمسية للوصول الى عجز صفر».
وفيما شدد عون على ضرورة بلوغ عجز صفر في الموازنة وتحقيق التوازن مع الوقت، اشار الى صعوبة تحقيق ذلك خلال عام واحد، أكد ان هذا الامر لا يلغي مسؤولية الدولة والحكومة في تنفيذ الاصلاحات المطلوبة ليس فقط من اجل زيادة الايرادات عبر رفع الرسوم والضرائب والاصلاح الضريبي، بل من اجل تقليص النفقات عبر اعادة هيكلة القطاع العام وتفعيل عمل مؤسسات الدولة.
لا جرأة على اتخاذ القرار
وإذا كانت الحكومة او وزارة المال عاجزة او غير راغبة باعداد موازنة متوازنة، ذكّر عون ان موازنة 2019 اشترطت عدم التوظيف من دون اجراء مسح وظيفي لحاجات الدولة، «إذا افترضنا انه تم وقف التوظيف فعلاً، هل تم اجراء المسح الوظيفي الذي استعانت الحكومة بشركة خارجية للقيام به؟ وهل ان هذا المسح خلص الى ان حجم القطاع العام يجب ان يبقى على حاله؟».
وبالتالي خلص عون الى انه لا توجد جرأة لاتخاذ القرارات الصائبة على هذا الصعيد، او على صعيد مكافحة التهرب الضريبي والجمركي الذي يمكن ان يحسّن ايرادات الدولة اضعافاً، «وإن اتخذت تلك القرارات، فلا جرأة أيضا على تطبيقها، وبالتالي فان عجز الموازنة، سيبقى حكماً قائماً».
منيمنة: لا سياسة نقدية واضحة
بدوره، رأى عضو لجنة المال والموازنة النائب ابراهيم منيمنة ان هناك مشكلة اساسية لدى مقاربة الموازنة تتمثل بموضوع توحيد اسعار الصرف وعدم وجود سياسة نقدية واضحة يمكن على اساسها تقدير معدلات سعر الصرف في المرحلة اللاحقة، وبالتالي تقدير حجم الواردات المتأتية عن عملية الاستيراد خصوصاً ان لبنان يستورد 80 في المئة من حجم استهلاكه.
وفيما اكد منيمنة ان مشروع الموازنة ليس عبارة عن ارقام وعملية حسابية للواردات والنفقات، شدد على ضرورة ان يعتمد اعداد الموازنة على رؤية اقتصادية مستقبلية واضحة من اجل ان تكون ارقامها متوازنة، لافتاً على سبيل المثال الى ان الخطط الاستثمارية وتحفيز القطاعات الانتاجية وتعديل النظام الضريبي وتحقيق العدالة الاجتماعية ومعالجة أزمة تدهور قيمة رواتب واجور القطاع العام نتيجة انهيار سعر الصرف، بالاضافة الى اعادة هيكلة القطاع المصرفي هي عوامل اساسية تؤثر على توقعات النمو الاقتصادي وعلى المؤشرات المالية والاقتصادية المستقبلية وبالتالي على تقديرات ارقام النفقات والايرادات.
معالجة شوائب الإقتصاد
وقال ان التوازن في ارقام الموازنة يمكن تحقيقه، «إذا اردنا اعداد موازنة حسابية فقط، إلا ان الهدف من اي مشروع موازنة ليس تحقيق التوازن بين الايرادات والنفقات، بل معالجة الشوائب في الاقتصاد وتصحيح الخلل الاقتصادي والاجتماعي الناتج عن تدهور سعر الصرف، وعن تعدد اسعار الصرف وعن الاقتصاد غير الشرعي او النقدي وعن تراجع القدرة الشرائية للمواطنين وعن توسع التهرب الضريبي… على ان تقدّر لاحقاً الايرادات والنفقات على اساس الاصلاحات المطلوب تطبيقها والملحوظة في مشروع الموازنة».
ولكنّ منيمنة أبدى عدم تفاؤله في وضع رؤية اقتصادية واضحة تشمل الاصلاحات المطلوبة، لافتاً الى وجود تخبط واضح في تقديرات ارقام الايرادات والنفقات المبهمة خصوصا في ظلّ عدم تحرير سعر الصرف ومواصلة جباية الايرادات بالليرة وفقاً لاسعار صرف متعددة، وفي ظلّ عدم وجود سياسة ضريبية واضحة وتوسع الاقتصاد النقدي، مما يصعّب عملية تحديد حجم الايرادات وتوقع نسبة النمو الاقتصادي.