كلما طالبنا ان يكون لرئيس الجمهورية المقبل خطة عمل واضحة المعالم، يأتيك احد الفلاسفة ليقول ما نفع خطة العمل للرئيس وهو ليس لديه صلاحيات، هذه عبقرية فردية! فكيف يعقل ان لا يكون لرئيس البلاد توجه حول ما ينوي القيام به، اليس لديه رأي بالوضع الاقتصادي؟ ما رأيه بأزمة الضمان الاجتماعي؟ بالانتاج؟ الا يملك تصوراً مثلاً لاعادة هيكلة القطاع المصرفي؟ التعليم الرسمي الذي ينهار يوماً بعد يوم؟ الاجراءات الادارية المهندسة للسمسرة وابتزاز المستثمر؟ كيف يُعقل لرئيس بلاد ان لا يكون له لون اقتصادي ومواقف واضحة وخطة عمل؟
عبقرية الخبراء
والعبقرية لا تقتصر فقط على المسؤولين، فلا بد من التذكير بعبقرية الخبراء ومنهم خبراء البيئة ووزارتهم والذين منعوا محارق النفايات، والى يومنا هذا لم تصدر شروط واضحة وصريحة لانشاء محارق ويحاضرون بالتدوير. وبالفعل لا اجراءات جدية ابداً لتشجيع انشاء مصانع تدوير حديثة في لبنان. فمثلاً نصدّر قناني بلاستيك PET ليتم تدويرها في تركيا، والمصانع المحلية لا تستطيع شراء هذه القناني لان كلفة الكهرباء في تركيا مثلاً ربع ما هي عليه في لبنان، ناهيك عن خبراء اقتصاد يبحثون بكل شيء ما عدا كيفية زيادة انتاج وتنافسية البلد. ولن نعلق على خبراء القانون والدستور وكل رأي يخالف الآخر. والخبراء الدستوريون الذين يعتبرون ان اتفاق الطائف نص على اللامركزية الادارية وليس المركزية المالية، علماً انه يستحيل ان تكون هناك لامركزية ادارية من دون لامركزية مالية. فاذا لم تعطَ اللامركزية موارد مالية كافية لممارسة الصلاحيات، تصبح من دون جدوى وتتعطل. تحوّل لبنان الى بلد فيه أكبر نسبة خبراء في العالم، كلهم خبراء والبلد مفلس.
ضريبة الـ tva
وتستمر العبقريات اللبنانية التي لا مثيل لها في العالم، فيصرّح احد الوزراء ان 65% من الشركات غير مسجلة في الـ TVA. ويمر التصريح مرور الكرام، في الوقت الذي تحتار فيه الدولة اين ستزيد الضرائب والرسوم، ضرائب بعيدة عن اعادة الحيوية للاقتصاد فيما الضرائب الموجودة لا نقوم بجبايتها. كل المصالح اليوم يجب ان تكون مسجلة في الـ TVA، وهو مدخول يغنينا عن زيادة ضرائب أخرى، لا احد يسأل لماذا تتغاضى الدولة عن هذا الموضوع، وكم كنت اتمنى ان يقوم بعض نواب الامة بمساءلة وزير المال عن هذه الفجوة الضخمة في الاقتصاد اللبناني.
ولم تع العبقرية اللبنانية ايضاً انّ الايرادات الضرائبية يجب أن تُهندَس لزيادة الانتاجية وليس فقط للجباية، فالحكومة ليست السلطنة العثمانية لتجبي عشوائياً، ويجب أن تترافق الخطة الضرائبية برؤية لإصلاح المجتمع وتعزيز الإنتاج.
وهناك العبقرية بعدم ايجاد حلول مستدامة للكهرباء حتى الآن وتأثير ذلك على التنافسية اللبنانية على الصعد الصناعية والاستثمارية.
ضريبة السداد على 1500آخر فنون العبقرية هي فرض ضريبة على من سدد دينه بالدولار للمصارف على اساس 1500ل ل. واذا اعتبرنا ان هذا الاجراء ضروري، ولكن اين العدل بهذه الضريبة؟ فالعديد من الشركات التجارية والصناعية استدانت من المصارف لتقدم تسهيلات لزبائنها، مثلا السوبرماركت التي كان لديها 120 يوماً او اكثر للتسديد، والمطاعم وبيع التفرقة والجملة وغيرها. هؤلاء سددوا على الـ 1500 علماً ان الفواتير كانت باغلبيتها الساحقة بالدولار الاميركي 1500، وبالتالي اذا تم فرض ضريبة على هذه الشركات فيجب ان تكون عادلة وتعمم على الجميع، لا يجوز تحميل شريحة محددة هذه الضريبة والتغاضي عن الباقين.
10 مليارات هرّبت
لكن والاهم، من الوقاحة ان نفرض هكذا ضريبة قبل ان نفهم مثلاً مصير العشرة مليارات دولار (على ذمة البعض) التي تم تهريبها من لبنان، هذا موضوع لا نريد البحث به بحجة السرية المصرفية، ولكن فجأة تسقط السرية المصرفية حين نريد تحميل ضريبة على الشركات اللبنانية التي سددت قروضها بالدولار على اساس 1500ل.ل. العشرة مليارات التي تم تهريبها يمكن ان تكون نواة اساسية لتمويل صندوق المودعين بدل جمع القروش من هنا وهناك، وكم كنت اتمنى ان نصل الى نتيجة واضحة بهذا الملف.
وماذا عن الهندسات؟
وماذا عن الهندسات المالية، هل سنقوم بفرض ضريبة على المصارف والارباح التي حققتها نتيجة هذه الهندسات، هل سنفرض مثلاً ما يعرف بالـ windfall tax. وماذا عن الشركات التي جنت ارباحاً خيالية والامثلة كثيرة ابتداء من السوليدير، والسوق الحرة وسوكلين، وشركات الخليوي التي قبضت سلفاً 500 دولار من المشتركين وباعت شركاتها للدولة اللبنانية بارباح خيالية، ومؤخراً من جبى رسوماً بالدولار الاميركي وسددها للدولة بالليرة اللبنانية. وهذه تقدر قبل 11 آب 2022 عندما صدر قانون ليتم التسديد بالدولار بحوالى مئات الملايين من الدولارات.
مصلحة المصارف أولاً
نشعر اليوم ان المشرّع والحاكم يضعان سياساتهما دائما لمصلحة المصارف، فحتى اليوم بعد الانهيار لا يوجد مساءلة لكل مصرف عن وضعه المالي وتحويل الاموال وغيرها، ويستمر تحميل الآخرين اعباء تمويل الدولة. فهل يجوز في سبيل انعاش المصارف، تدمير ما تبقى من شركات تعمل في لبنان بالرغم من كل الظروف المأسوية؟ يفرضون الرسوم على التحويلات وبطاقات الائتمان وحتى عند وضع «فريش دولار» في المصرف وغيرها من الرسوم والتي تعتبر اليوم الاغلى في العالم، وحتى المصارف لم تعد تتنافس بل وحدت أسعارها وتوحيد الاسعار يعتبر مخالفاً لكل حقوق المستهلك في كل العالم.
وبالرغم من الأزمة وما مررنا به من انهيارات متتالية، تستمر العبقرية اللبنانية بالتغاضي عن الاقتصاد المنتج وعن السياسة الضريبية العادلة، ويستمر التخبط في قرارات عشوائية يسنّها من لم ينتج او يدفع رواتب في حياته.