ليس جديداً القول إنه خلال العقود الثلاثة الماضية أدارت المنظومة السياسية – الاقتصادية الحاكمة البلاد على نحوٍ تسبّب باستنزاف المقدرات العامة والخاصة وصولاً الى الانهيار في 2019. لكن من المنصف الاعتراف بأن المشكل قائم منذ ما قبل الحرب الاهلية. والدليل ما ورد في تقرير بعثة أرفد سنة 1961 الذي اعتبر أن «أَكثر ما ينقُص لبنان، ليس مؤسسات ماء وكهرباء فقط، بل مسؤولين ينصرفون مخْلصين للشأْن العام. فما لم تَقُم ذهنية جديدة من نخبة لبنانية شابة تُطلق ثورة فكرية وأَخلاقية تَعُمُّ البلاد، سيبقى الإِنماء هشًّا، ويعجز لبنان عن أداء دوره الداخلي المتين والدولي الرسالي، ولا نجاح لفرادته إِذا اصطدم هذا الدور بتنامي السياسات الفردية الأَنانية المدمّرة».
هذه النبوءة، اذا جاز التعبير، تحققت بعد اتفاق الطائف الى أن وصلنا الى 17 تشرين 2019، حيث تحول الاقتصاد اللبناني الى اقتصاد يلتهم نفسه بعد أن كان يلتهم مقدرات الدولة. والسبب هو احكام قبضة يد منظومة سياسية – اقتصادية – مصرفية بمصالح ضيقة على مفاصله منذ العام 1990، فضلاً عن تضخم قطاعات الخدمات على حساب القطاعات الإنتاجية، ما أدى الى الخلل الدائم في الميزان التجاري وانعكس هشاشة على الاقتصاد الوطني، وقد ازداد هذا الاختلال مع السياسات المالية التي سمحت بنفقات وديَن عامّ بمستويات هائلة (قبل الانهيار)، وسياسات نقدية استندت إلى فوائد عالية وسعر صرف ثابت. كل هذه الأسباب قد تسهّل فهم الوضع الحالي المأزوم الذي يتلخص في أزمات متعددة غير مسبوقة وهي أزمة مديونية عامة، وعجز في الميزان التجاري، وخلل في ميزان المدفوعات، ونقص حاد في السيولة، وتضخم ينهش ما بقي للبنانيين بسبب تدهور كبير في قيمة الليرة.
إذاً هناك ترابط شديد بين المكونات الاقتصادية الأساسية، التي تتبلور كنظام متكامل (نظرياً) وبين مصلحة أقلية سياسية – اقتصادية تستفيد منه. لذلك من الجدير البحث عن هوية هذا الاقتصاد، الذي تدل الممارسات اليومية لهذه الاقلية (خصوصا بعد الازمة) أنه متفلت من أي معايير علمية أو أكاديمية وأخلاقية، بل هو أقرب الى نظام شريعة الغاب.
نداء الوطن حملت هذا السؤال الى نخبة من الاقتصاديين – الاكاديميين، طالبة منهم تحديد هوية الاقتصاد اللبناني كما يرونه، هل هو ليبرالي/ نيوليبرالي/اشتراكي/ احتكاري/ مافيوي؟ فأتت الاجوبة من زوايا متعددة ومفصلة تقود الى فهم حجم الخراب الذي تسببت به المنظومة في بنية الاقتصاد اللبناني.
الخوري: كليبتوقراطية وعصابات مصالح لخدمة حفنة من المسيطرين على السلطة
يرى الدكتور بيار الخوري عميد كلية ادارة الاعمال في الجامعة الاميركية للتكنولوجيا لـ»نداء الوطن» أنه «للاجابة على هذا السؤال علينا أن نميز بين مراحل متعددة في تاريخ لبنان الاقتصادي. فلبنان كما بني منذ لبنان الكبير هو دولة الاقتصاد الحر التي كانت قائمة على مجموعة من العناصر، التي تسمح لهذا الاقتصاد بأن يظهر مميزات معينة للبنان. وكانت قائمة بشكل اساسي على أن موقعه الجغرافي ومستوى التعليم الغربي فيه، اي الثقافة الغربية التي انتشرت مع الانتداب الفرنسي والارساليات، التي سمحت له بلعب دور متقدم مع صعود اقتصادات النفط بأن يلعب دور الوسيط بين الفوائض المتأتية من النفط والاسواق المالية الغربية»، لافتاً الى أن «لبنان لعب في ظل بنية تحتية ممتازة، دور المدرسة والمستشفى لهذه الدول. كما سمحت له بنية الاقتصاد الحر في ذلك الوقت بأن يلعب دور مستقطب الرساميل من الدول التي تحولت عبر الانقلابات العسكرية الى دول شبه اشتراكية».
يضيف: «هذا الدور مع بداية الحرب كان قد بدأ يفقد ميزاته بسبب تسرب المؤسسات الغربية الى الاقتصادات الخليجية أي اقتصادات النفط مباشرة. ولعبت الحرب على مدى 15 عاماً دوراً في غياب لبنان عن هذا الدور. وبعد الحرب كانت البنية الحديثة في المنطقة قد أخذت دورها بالكامل، بالاضافة الى أن ما كان يعرف بالانظمة العسكرية الاشتراكية في المنطقة قد بدأت في مسار متعدد الاوجه للتحول الاقتصادي والاندماج بالاقتصاد العالمي».
يشرح الخوري أن «الحريرية حاولت اعادة انتاج النموذج الاقتصادي اللبناني بصيغة أخرى، في ظل مشروع سلام اقليمي بني على فرضية ان هناك فرصة لسلام عربي- اسرائيلي، وأن على لبنان ان يكون جاهزاً لهذا السلام ليستطيع حجز مقعد له. لم يحصل السلام ولم يستطع لبنان أن يستعيد موقعه منذ تلك اللحظة، وفقد احتمالات هويته الاقتصادية الجديدة. فلا هوية قديمة قادرة على السير الى الامام ولم تعد ظروفها ممكنة وليس هناك رؤية لهوية جديدة في لبنان»، مذكراً أنه «بانتظار الحلول الكبرى في المنطقة، والتي كان يمكن ان تصنع دوراً جديدا للبنان، غرقت البلاد في ازمة الاستمرار والانتظار عبر اطالة أمد الاستقرار الاقتصادي بالاستدانة، واستمر هذا النموذج حتى الانهيار في العام 2019، ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم نحن في شبه عمى اقتصادي في تفسير النموذج الاقتصادي القائم».
والسؤال الذي يطرح هنا ما هو فعلياً الاقتصاد الذي ساد بعد الحرب، وكيف يمكن تصنيفه؟ يجيب الخوري: «في الواقع هو مزيج من عدة بنى ونماذج اقتصادية، بعضها كان يشبه الاشتراكيات العربية التي كانت تقوم على تضخيم حجم الدولة واستيعاب البطالة من خلال الوظيفة الحكومية، وهذا كان دائما كما في كل الدول العربية، بوابة كبيرة للفساد والمحسوبية وتعطل آليات الكفاءة في ادارة القطاع العام»، لافتا الى أنه «من جانب آخر كانت هناك حرية اقتصادية كاملة الى درجة التوحش، وحرية في أن يفعل الرأسمال ما يشاء أيضا عبر نظام الوساطة الذي افسدته علاقات ما بعد الحرب. كانت هناك نماذج متعددة تعيش في ظل هذا النظام. نماذج تميل نحو الالتحاق بالحرية الاقتصادية والغرب ولكن بطريقة مشوهة وقائمة على بنية مصالح معينة، وهذه البنية كانت محمية بقطاع عام متضخم لاستمرار التوازن الاجتماعي الذي يحكمها».
يضيف: «تفسير وحيد لهذه البنية التي قامت بعد الحرب، لا يمكن أن يكون من خلال اي مدرسة اقتصادية نظامية، لا تلك الاشتراكية ولا الكينزية ولا مدرسة التحرير الاقتصادي التي سادت في الغرب بعد الكينزية… وكل هذه النماذج لا تصلح في تفسير هوية لبنان الاقتصادية. وباعتقادي ومن مداخلاتي المتعددة في فترة ما بعد الازمة طرحت فرضية الكليبتوقراطية، أي ان الهوية الاقتصادية للبنان هي الكليبتوقراطية: أي عندما تسود عصابات المصالح الخاصة، وتعيد توجيه الموارد من اجل خدمة حفنة ضيقة من المسيطرين على السلطة»، مشدداً على أنه «التفسير الوحيد الممكن لهوية النظام الاقتصادي القائم في لبنان في مرحلة ما بعد الحرب وبشكل خاص في مرحلة ما بعد الانهيار، حيث ساهمت مجموعات المصالح الخاصة في تعميق الازمة والمزيد من نهب موارد البلاد، لأن طبيعة هذه الفئة الكليبتوقراطية هي أنها فئة متمسكة بقوة بمصالحها وغير قادرة على التنازل عن اي جزء منها لأن هذا التنازل قد يؤدي الى انهيارات كلعبة الدومينو».
ديبة: بعد الطائف تحالفت الرأسمالية المالية مع نظام المحاصصة الطائفي
يشرح الدكتور غسان ديبة استاذ ورئيس قسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانية – الاميركية لـ»نداء الوطن» أن «الاقتصاد اللبناني ليس اقتصاداً اشتراكياً كما ليس مافيوياً. الاقتصاد اللبناني اقتصاد رأسمالي لأن ملكية وسائل الإنتاج هي ملكية خاصة. كما أن الأسواق هي الميكانيزم الاساسي لتوزيع الموارد وتسعير السلع». لافتاً الى أن «الاقتصاد الرأسمالي اللبناني كان تاريخيا ليبراليا منذ الاستقلال وحتى بدء تطبيق نظام الطائف، وهو من الانظمة الاقتصادية القليلة التي حافظت على ليبراليتها في ظل التوجه العالمي آنذاك نحو الاقتصاد المختلط والديمقراطي الاجتماعي من جهة ونحو الاقتصاد الاشتراكي من جهة أخرى».
يضيف: «أما بعد اتفاق الطائف فصعد تحالف بين الرأسمالية المالية ونظام المحاصصة الطائفي، حيث زاد تدخل الدولة في الاقتصاد وذلك ليس عن توجه اشتراكي بل عبر الانفاق على اعادة الأعمار، وعلى بناء دولة الطائف مع أقنية التوزيع الطائفية المختلفة. وبرز دور الرأسمال المالي عبر استدانة الدولة من أجل تمويل الانفاق، لأن الحكومات المتعاقبة لم تفرض ضرائب على رأس المال والأرباح والثروة كما يجب»، موضحاً أنه «تم اعتماد سياسة اكتتاب الرأسمال المالي والمصارف بسندات الخزينة ولاحقا سندات اليوروبوندز كطريقة لبناء الرأسمال المالي نفسه وسيطرته. كما اهملت الدولة الملكية العامة، والكهرباء مثالاً على ذلك. بالتالي يمكن القول ان الاقتصاد اللبناني بعد الطائف أصبح ليبراليا مع دور كبير للرأسمال المالي ودولة المحاصصة الطائفية».
ويختم: «بعد ازمة 2019 انهار هذا التحالف مع نهاية الرأسمال المالي الناتج عن انهيار الثروات في المصارف وفي السندات الحكومية، وأصبح الاقتصاد اللبناني اليوم اقتصاداً ليبراليا مع تراجع دور الدولة، ونرى ذلك في تراجع الانفاق في الموازنات بشكل كبير وانهيار التعليم العام والصحة العامة والحماية الاجتماعية. اذاً، عدنا الى ليبرالية ما قبل الحرب مع تخبط في أية طبقة رأسمالية ستصعد خلال الازمة، كما يتحكم شبح أزمة نظام الطائف بالاقتصاد. هذا هو الاقتصاد اللبناني اليوم».
حمدان: إحتكارات وقطاع عام متضخم وتشرذم إستثنائي في المؤسسات الصغيرة
يشرح الدكتور كمال حمدان مدير مؤسسة البحوث والاستشارات) لـ»نداء الوطن» أن «نسق الحرية الاقتصادية في لبنان هو خليط من سيطرة اقتصاد احتكاري وتكتلات احتكارية، وهذا يدل على الاقتصاد العميق في البلد الموجود منذ نصف قرن أو أكثر. فمن جهة هناك سيطرة الاحتكارات العميقة، ومن جهة أخرى هناك تشرذم استثنائي في ما يسمى «Micro and small enterprise». فبين 200 الف مؤسسة في لبنان هناك 93 بالمئة منها فيها أقل من 5 عمال وغالبية تلك المؤسسات يسيطر عليها العمل غير النظامي»، مشدداً على أن «هذا نسق الحرية الاقتصادية والظواهر التي ننتجها في لبنان: احتكارات من جهة وتشرذم في عمل المؤسسات الخاصة من جهة ثانية وطغيان العمل غير النظامي، فضلاً عن تشابك آليات الفساد ما بين أجزاء من القطاع الخاص والقطاع العام وتهرب ضريبي. وهذا ما يوصل الى استنتاج ان توصيف الدولة الطائفية اوالنظام الطائفي يعرقلان بل يحولان دون قيام دولة، ودون قيام اقتصاد رأسمالي بالمعنى العصري للكلمة».
يضيف: «هناك ظواهر اقتصادية في لبنان نجد تفسيراً لها من خلال الدور المعرقل الذي تقوم به الدولة الطائفية والنظام السياسي الطائفي. في الغرب سبقونا نحو 100عام لجهة قيام ثورات، بينما نحن نفتقد الى ثورة مثل الثورة الفرنسية التي جمعت المقاربات والتنظيرات والهيئات الدينية والطائفية في مكانها الطبيعي، وانطلقت لبناء الاقتصاد العصري»، معتبراً أنه «حين نتحدث عن لبنان واي اقتصاد يسوده، نجد أننا لا نملك قواعد احصائية لمعرفة اعداد المقيمين والمهاجرين وغير اللبنانيين، وهل السرية المصرفية تسمح بالوصول الى نظام ضريبي عادل أو تصاعدي لدولة تتميز بتركز استثنائي للثروة والدخل (كما اثبت كثير من الدراسات) فالموارد والودائع المصرفية والقطاع المصرفي متركزة كثيراً في نحو 1 بالمئة من عدد الحسابات المصرفية في لبنان».
يوضح حمدان أن «المشكلة في لبنان ليست في قلة القوانين التي تبني دولة، بل في عدم حداثتها وتطويرها وعدم استكمالها بموجة جديدة من القوانين الاصلاحية التي كنا موعودين فيها ولم تأت الى الآن منذ العام 2019 عند انفجار الازمة»، مشدداً على أن «مشكلة القوانين والتشريعات هي انه لدينا الكثير منها وضعت في خمسينات القرن الماضي، ولكنها بحاجة الى تحديث. والاخطر ان قسماً كبيراً منها يحتاج الى مراسيم تنظيمية لم تنتج، وعندما أنتجت في حالات كثيرة كانت تشكو من خلل ومن فجوات وتقادم. وحتى المراسيم التنظيمية الجديدة التي صدرت في السنوات الاربع الاخيرة والتي تم اقرارها فمعظمها يعاني من مشكلات».
يضيف:»في ما يتعلق بالدولة، يجب أن نعرف الى أي حد هي محصنة بآليات عمل وموارد بشرية ومتابعة وآليات مراقبة واطر لتقييم الاداء. وللاسف ما حصل (خصوصا خلال الحرب الاهلية وبعدها) أن الدولة والقطاع العام والادارات والمؤسسات العامة هي المكان الذي يجري التوظيف فيه لأغراض سياسية، لشراء الولاء السياسي لجمهور الطوائف. وخلال 4 عقود ازداد عديد العاملين 4 او 5 مرات في كل اشكاله بما فيها السلك العسكري. بينما ما ينتجه هذا العديد الآن لا يرقى الى ما كان ينتجه القطاع العام في العام 1975 وهذه هي المأساة الكبيرة»، لافتاً الى «أن المسؤولين يتبجحون احيانا حين يجمعون ما يتم انفاقه على الصحة والتعليم ووزارة العمل والشؤون الاجتماعية والنقل، ويقولون ان الانفاق الاجتماعي للدولة عال، ولكن في تحليل الارقام والموازنات يظهر ان الجزء الكبير من هذا الانفاق هو تكاليف اجور وتوابعها وليس انتاج خدمة عامة بالمعنى الذي تحقق في الاقتصاد الرأسمالي العصري. هناك زيادة في عدد الموظفين في القطاع العام 4 أو5 مرات، والدولة تميل الى نقل انتاج الخدمة العامة الى القطاع الخاص مثل الكهربا عبر المولدات الخاصة والانترنت عبر الشركات الخاصة والامثلة الاخرى كثيرة، اي ان جزءاً كبيراً من الخدمة العامة تجري خصخصته بقوة الامر الواقع، وهذا امر لا يمكن الدفاع عنه».