ثمّة عقدة اسمها «النافعة». لا الدولة قادرة على تشغيلها وفق موازنة 2023، ولا شركة «إنكريبت» الملتزمة موافقة على التشغيل بلا اتفاق على «عملة» الدفع. عملياً، توحي التطوّرات في هذا الملف بأن المستهلك سيدفع ثمن «خدمة» جديدة بقيمة مليونَي ليرة من دون أي ضمانة بأن مصلحة تسجيل السيارات ستفتح أبوابها قريباً، ومن دون أي ضمانة بأن الملف سيأخذ طريقه نحو المحاسبة.
على مدى أكثر من أربع سنوات، تراكمت عشرات آلاف المعاملات في مصلحة تسجيل السيارات. المصلحة لم تصدر أيّ رخصة سوق، ولا دفاتر سيارات، ولا لواصق إلكترونية، ولا لوحات أيضاً. هذه المنتجات الأربعة التي يُفترض أن تقدّمها المصلحة، لُزّمت في نهاية عام 2014 لشركة «إنكريبت» في صفقة تجمع بين الخصخصة والتوريد لمدّة سبع سنوات. يومها قالت عنها «الأخبار»: «صفقة السنة: هيئة السير تفرش 174.8 مليون دولار تحت أقدام إنكريبت». وعندما وقع الانهيار النقدي والمصرفي، أصيبت كل العقود السارية بين الدولة والمقاولين (ولا سيما العقود بالدولار) بداء تعدّد أسعار الصرف، ومن ضمنها الأسعار المسجّلة في العقد الموقّع بين الهيئة و«إنكريبت»، وهي على النحو الآتي: بدل إصدار رخصة سوق إلكترونية (17.61 دولاراً)، بدل إصدار رخصة سير إلكترونية للمركبات الآلية (13.5 دولاراً)، بدل إصدار كل لاصقة إلكترونية للمركبات الآلية (7.87 دولارات)، بدل إصدار وتركيب لوحتَي تسجيل آمنتين (18.12 دولاراً).
الخلاف الذي نشب بين الطرفين، يتعلق بأي سعر صرف ستُدفع قيمة الفواتير التي تصدرها الشركة مقابل تنفيذ المنتجات الأربعة؟ هنا تدخّل ديوان المحاسبة، فألزم الشركة بالاستمرار في العقد حتى نهاية أيلول 2023 ثم احتساب المهل المعلقة وأوامر العمل التي صدرت من الإدارة (أي إن العقد يمتد لنحو ثلاث سنوات إضافية). كذلك، قال الديوان إن العقد يخضع لقرار مجلس الوزراء الرقم 13 الصادر في 14/4/2022 المتعلق بمعالجة تداعيات الأزمة المالية والنقدية على عقد الأشغال العامة والخدمات العامة، وبالتالي فرض على الهيئة التمييز بين كلفة التوريد التي تُدفع بالدولار «الفريش» وكلفة الخدمات (التشغيل) التي تُدفع بالليرة، وحمّل «إنكريبت» مسؤولية «الإمعان في تعطيل مصالح الدولة المالية ومصالح الموظفين»، مذكّراً بوجوب إطلاق مناقصة جديدة شفّافة لتلزيم هذا المرفق الحيوي.
في رأيه الاستشاري الذي يحمل الرقم 17/2023، نجح ديوان المحاسبة في الإضاءة على أصل المشكلة التي تكمن في الخصخصة. هو يدرك أن قدرة الشركة على التعطيل أنه أنيط بها توريد رخص سير وسوق ولاصقات إلكترونية ولوحات تسجيل وبرامج مكننة لمصلحة تسجيل السيارات والآليات. صحيح أن العقد بين الطرفين يتعلق بالمنتج النهائي إنما التشغيل والإشراف على البرامج هما بيد الشركة المشغّلة. يومذاك وافق الديوان على التلزيم، من دون أن يشير إلى أن نقل الأعمال التي يجب أن تقوم بها الدولة إلى يد القطاع الخاص يجعل يد الدولة ممسوكة بالكامل من طرف جشع. لم تظهر بشاعة الأمر إلا أخيراً بعد الانهيار. لذا، كل ما قام به المتعهّد، هو أنه أوقف موظفيه عن العمل فتعطّلت مصلحة تسجيل السيارات بشكل كامل منذ 10 تموز الماضي. واللافت أن هيئة إدارة السير تقول إن هناك نزاعاً مالياً بين المتعهّد والهيئة، إذ إنه نفّذ أوامر عمل بقيمة 60 مليار ليرة عن عامَي 2021 و2022. في المقابل، تقول الشركة إن قيمة فواتيرها تبلغ 8 ملايين دولار، وإن العقد الموقّع معها هو بالدولار. هنا، أيضاً لبّ المشكلة، فهل قرارُ الديوان بإخضاع العقد لقرار مجلس الوزراء الرقم 13، يعالج هذه المشكلة؟
في الواقع، إن عقد هيئة السير و«إنكريبت» لا يميز بين كلفة الخدمات وكلفة اللوازم بل يدمجهما معاً باعتبارهما من مكوّنات المنتج النهائي الذي تدفع الإدارة كلفته، وبالتالي فإن الفصل بينهما يزيد المشكلة تعقيداً. فهل سيبادر رئيس هيئة إدارة السير بالوكالة المحافظ مروان عبود، إلى مخالفة العقد وإصدار فواتير الخدمات التي ليست مذكورة ضمن العقد، أم أن الشركة ستبادر إلى ذلك؟ من يحدّد نسبة الخدمات ونسبة اللوازم المورّدة من كل فاتورة؟
الواضح، أن الشركة قرّرت أن تستغلّ الانهيار للهروب من تنفيذ التزاماتها بعدما حقّقت أرباحاً طائلة من هذا العقد على مدى سنوات ما قبل الأزمة، لكنّ الديوان أجبرها على البقاء فترة إضافية، من دون أن يحدّد آلية العمل للفترة المقبلة.
ثمة مسألة أخرى لم تتضح أيضاً رغم أنها تكمن في جوهر مسألة تعطيل «النافعة»: من أين ستحصل هيئة إدارة السير على الأموال لتسديد التزاماتها، سواء الفواتير المتراكمة، أو الفواتير المُقدّرة للفترة المقبلة على كامل الفترة الباقية من تنفيذ العقد؟ إذ إن أي اتفاق على نسبة الخدمات واللوازم بين الهيئة والشركة، يعني أن الكلفة بالدولار ستكون كبيرة جداً، بينما موازنة 2023 لم تلحظ سوى 50 مليار ليرة تحويلات لهيئة إدارة السير لتسديد الرواتب والأجور وتسديد سلف سابقة حصلت عليها الهيئة من الخزينة، علماً أن الهيئة تعاني من عجز مالي كبير و لا تملك في صناديقها أكثر من 60 مليار ليرة، وعليها فواتير متراكمة لم تُحسم قيمتها بعد مع الشركة. هذه الأخيرة تقول إنها ورّدت منتجات بقيمة 8 ملايين دولار (712 ملياراً على سعر صرف السوق، و120 ملياراً على سعر صرف 15 ألف ليرة للدولار)، والهيئة تقول إنها أصدرت أوامر عمل بـ60 مليار ليرة لكنّ الشركة لم تنفذها. بينما تدّعي «إنكريبت» أن أوامر العمل لا تتضمن الكميات (كمية اللوحات، كمية رخص السير، كمية دفاتر السيارات وكمية اللواصق) لأن الإدارة لا تجرؤ على إظهار الأسعار الإفرادية لكل منتج بالدولار.
السجال بين الطرفين، يمدّد فترة الإغلاق، لكن ما اتُّفق عليه بعد صدور رأي ديوان المحاسبة، والضجّة القائمة بسبب استمرار إقفال النافعة وتعطيل الحياة العامة، هو أنه يتوجب فتح الأبواب. إلا أن هذا الأمر يتطلب أن يكون المتعهّد متعاوناً ليعيد الموظفين إلى مكاتبهم وممارسة الأعمال التنفيذية المطلوبة منهم، وفي المقابل على الإدارة أن تظهر أنها قادرة على تأمين الأموال وإصدار أوامر عمل تتضمن الكميات والأسعار الإفرادية لكل منتج تطلبه من المشغّل. لذا يناقش مجلس إدارة الهيئة تحديد بدل خدمات للمنتجات الأربعة بقيمة وسطية تبلغ مليوني ليرة (بعضها أعلى وبعضها أدنى). وهذا الأمر اتُّفق عليه في مكتب المحافظ في الفترة الأخيرة بحضور ممثلين عن أربع شركات لتحويل الأموال. إلا أن كل ذلك لا يعالج المشكلة: إذا لم تكن المشكلة في التمويل، فلماذا لم تطلق الهيئة بعد مناقصة جديدة للتلزيم، وخصوصاً أن هناك ثلاث شركات ظهرت أخيراً وأبدت استعدادها للحلول محلّ الشركة الملتزمة حالياً؟ وبحسب المعطيات المتداولة هناك شركة تتحضّر يدعمها النائب نبيل بدر، وشركة أخرى يمتلكها مقرّبون من النائبة بولا يعقوبيان، وشركة أخرى محسوبة على زوجة أحد النافذين في بيروت.