يثير الكلام عن الهوية الاقتصادية للبنان مختلف مكوناته، سواء أكانت من المنظومة السياسية أو المناوئين لها، لسبب أساسي هو أن هذه الهوية تشكل المظلة التي تتغطى بها المنظومة للسيطرة على مقدرات البلد، وتحوّلت في الوقت نفسه باباً للمواجهة بينها وبين معارضيها في صراع المصالح، لتبيان مدى الجشع الذي التهم الاخضر واليابس حتى في عزّ الانهيار المستمر منذ نحو 4 سنوات.
وتأكيداً على أهمية الهوية الاقتصادية (المزعومة) في بسط السيطرة على وعي اللبنانيين تجاه كل الارتكابات، رفعت المنظومة بعد حصول الانهيار شعاراً كاذباً لتغطية نفسها وهو «التحول من اقتصاد ريعي الى اقتصاد منتج»، على اعتبار ان طبيعة النظام الاقتصادي تسببت بالكارثة وليس الفساد المتمادي والممارسات السيئة في الادارة وتجاوز القوانين واعتماد نموذج تمويلي اتضح انه عبارة عن مخطط احتيالي (بونزي سكيم). لكن على أرض الواقع لم يحصل أي تغيير ايجابي، بل مزيد من التخبط والفوضوية وتطبيق المثل القائل «الفاجر بياكل مال التاجر» بفجاجة على كل الاصعدة: المصرفية والمالية وسياسات الدعم، وتهريب الاموال الى الخارج وتوسع نظام الكاش والتهريب عبر المعابر الشرعية وغير الشرعية، في موازاة جمود غير مسبوق في كل القطاعات النظامية الواعدة، الا السياحة لأسباب تعود لتعلق المغتربين بأرضهم وليس لمهارة المنظومة في ادارة القطاع.
إذاً في لبنان «حفلة زجل» حول هوية لبنان الاقتصادية ازداد صخبها بعد الانهيار. المنظومة تطلق شعاراً والمعارضون يردون عليها، علماً أن هناك شكاً في أن تؤخذ بعين الاعتبار كما يجب (حين يطلق الكلام عن الوظيفة الاقتصادية للدولة) ثروات لبنان الطبيعية، موقعه الجغرافي وثقافته وتاريخه وحضارته وكادراته البشرية ونظامه السياسي. لأن هذه المعايير هي في أساس نجاح تجارب بناء اقتصاديات ناجحة او تنافسية حول العالم، وكل من خالف هذه المعايير فشل، أو حقق نجاحات محدودة كانت ستكون أكبر وأشمل في ما لو احترمت المعايير الموضوعية. هذا الشك أشارت اليه بعثة «ارفد» منذ ستة عقود، حين تحدثت عن «ذهنية الطبقة السياسية المشبّعة بالفردية والانانية المدمرة».
«نداء الوطن» تستكمل فتح النقاش عن «هوية لبنان الاقتصادية»، مع اقتصاديين أكاديميين وآخرين كانت لهم تجارب في تولي مناصب سياسية – اقتصادية، وجميعهم تحدثوا عن هوية الاقتصاد اللبناني كما يرونه، هل هو ليبرالي/ نيوليبرالي/ اشتراكي/ احتكاري/ مافيوي؟ في محاولة لتشكيل مشهد مكتمل ومنظّم عن ماهية هذه الهوية، علّه يساهم في تشخيص داء نظام اقتصادي تمّ ربطه بمصلحة أقلية سياسية – اقتصادية لتستفيد منه، ثم اجتراح حلول مستدامة تغطي في تطورها وانتاجيتها وتوليدها للثروة مختلف شرائح المجتمع.
حاصباني: إقتصاد الامر الواقع… مؤمّم وموجّه بفوضويّة مغطاة بادعاء الإقتصاد الحر
قال عضو كتلة الجمهورية القوية النائب غسان حاصباني لـ»نداء الوطن»: «يفترض ان يكون الاقتصاد اللبناني بحسب الدستور اقتصاداً حراً يحترم ويحافظ على الملكية الفردية، وبناء على هذا الوصف والطريقة التي على أساسها تكونت الدولة اللبنانية، فان روحية الاقتصاد هي اقتصاد حر من حيث المبدأ. ولكن ايضاً هناك مسؤولية اجتماعية ضمن هذا الاقتصاد يجب ان تتبلور للحفاظ على الحد الادنى من الاستقرار الاجتماعي (صحة/ تعليم/ ضمان الشيخوخة…)»، مشيراً الى أن «اعتبار الاقتصاد الحر هو الاساس وفي الوقت نفسه وجود مسؤولية اجتماعية على عاتق الدولة، حتّم أن يتم التمويل من هذا الاقتصاد بالضرائب والرسوم والنمو الاقتصادي، ولكن لم يحدث ذلك بالكامل. اليوم تغير كثير من المعايير، ومع الوقت بات القطاع الخاص يتولى جزءاً من هذه المسؤولية الاجتماعية سواء على صعيد التأمين الخاص أو التعليم الخاص أو غيرها من الخدمات الاجتماعية».
يضيف: «حصل مزج بين القطاعين العام والخاص بنموذج كاد أن يكون ناجحاً لولا الاداء السيئ المفرط الذي حصل في القطاع العام، وأدى الى تفكك شبكة الامان والمسؤولية الاجتماعية مع الوقت، مع ضغط أكثر من ناحية الفساد الذي كان موجوداً في ادارة القطاع العام والذي أوصل الى سياسات مالية واقتصادية ضربت الاقتصاد الحر بشكل كبير»، مشدداً على أننا «وصلنا الى تفلت كامل أضرّ بصورة القطاع الخاص والاقتصاد الحر، ولم يعد لدينا اقتصاد حر بكل معنى الكلمة. ولم يكن هناك اقتصاد اشتراكي وفقاً للمفاهيم التقليدية، فبات لدينا ما يسمى اقتصاد الامر الواقع».
يعتبر حاصباني أنه «بعد الازمة نعيش اقتصاداً مبنياً على الكاش ومن دون ضوابط ومتفلتاً كلياً، وسيشوه فكرة الاقتصاد الحر اذا استمر على هذا المنوال، لأن الاقتصاد الحر تحكمه ضوابط على أن تكون هناك هيئات متخصصة بكل قطاع لتنظيمه. واليوم في هذه الفوضى هناك ضرب لكل المعايير والمفاهيم الاقتصادية التي تؤدي الى بناء اقتصاد صلب ومستقر يحقق نمواً»، مشيراً الى أنه «يمكن تصنيف الاقتصاد اللبناني حالياً، بأنه مثلما تم ضرب مفاهيم دستورية أخرى، ضربت مفاهيم هوية الاقتصاد اللبناني واصبح اقتصاد الفوضى، وحتى المافيات قد تنظم نفسها بطريقة أفضل. وهذا الاداء مسؤولة عنه السلطة السياسية منذ الاستقلال».
يشدد حاصباني على أن «الفساد بدأ بنخر الدولة اللبنانية عبر المحاصصات والتأميم اي الممارسات التي كانت تضرب الدستور بشكل كبير وتنخر في جسم الدولة اللبنانية منذ ستينات القرن الماضي. وتجاهل الدستور كان موجوداً قبل الحرب ولكنه تعاظم حجمه. والفلتان في المرحلة الاخيرة حصل فيه نوع من مركزية ادارة الاقتصاد من قبل السلطة السياسية، وصار هناك نوع من اقتصاد موجه مؤمم بغطاء اقتصاد حر»، معتبراً أن «هذا حصل على مدى السنوات العشر الماضية بشكل واضح، علماً ان ذلك كان موجوداً نسبياً منذ اتفاق الطائف. وبرأيي القطاع العام المترهل والمنخور بالفساد بات هو من يدير الحركة الاقتصادية في البلد ومؤثر عليها وفيها، وتمّ ترك الجزء الاصغر من الاقتصاد للقطاع الخاص خصوصاً المتعلق بقطاعات التجزئة. أما القطاعات الاخرى فباتت معتمدة على السياسات العامة في الدولة غير القادرة على القيام بها». ويختم: «هذا الامر حصل بطريقة متواطئة منذ تأسيس لبنان الى اليوم، وأصبح متسارعاً في السنوات العشر الماضية».
يوسف: من ليبرالي إلى مافيوي متوحش ومحميات متفلتة من قيود القانون
يرى النائب السابق والأمين العام السابق للمجلس الأعلى للخصخصة والشراكة غازي يوسف لـ»نداء الوطن»، أن «هوية لبنان الاقتصادية هي هوية ليبرالية كانت تعتمد دائماً على قدرة الاسواق، والقطاع الخاص الذي هو القطار للاقتصاد اللبناني كان يعمل ضمن قيود السوق ووفقاً لمبدأ العرض والطلب والتجارة الحرة ضمن ضوابط وقوانين مختلفة»، معتبراً أن «ما نراه اليوم هو أن هذا النظام اللبناني لم يعد ليبرالياً بالمعنى المنضبط، بل تحوّل الى نوع من التوحش. وهذا يعود الى عدم وجود قدرة على تطبيق القوانين. فعندما تضمحل المؤسسات كما يحصل اليوم، وكلّ يفسر القوانين بالطريقة التي تناسبه، فهذا ما يعني وصلنا الى العمل المافيوي».
يضيف: «المافيا تزدهر عندما يكون لديها القدرة على فرض خوات مقابل تأمين الحماية، وبات اليوم في لبنان محميات طغت على السوق الحرّ، هذه المحميات منها ما هو مذهبي ومنها سياسي ومنها ما هو قائم بقوة السلاح»، مشدداً على أنه «لم يعد هناك في لبنان مفهوم الاقتصاد الحر المقيّد بأنظمة التي يمكن أن توجهه نحو الاستثمارات والفرص الجيدة، بل انتشرت الفوضى المحمية على عدة صعد، منها على صعيد محميات وسلاح وصعيد سياسي ومذهبي».
يعتبر يوسف أن «لبنان كي يعود الى اقتصاد ليبرالي يستطيع استثمار نقاط قوته وتوجيه قدراته الى حيث هناك حاجة، لا يمكن أن يكمل على هذا المنوال. يجب ان يقوم النظام على عمل المؤسسات وتطبيق القانون وان يكون هناك جهة قادرة على فرض القانون»، لافتاً الى أن «هذا الامر مفقود في لبنان، ولسوء الحظ ما نعيشه اليوم هو اقتصاد مبني على طبقات محمية وسبّاقة في تسيير السوق. فقد لبنان قدرته المميزة التي كانت في السابق، اي القيمة المضافة على صعيد التعليم والطبابة والخدمات، هذا كله لم يعد موجوداً. هناك طبقة جديدة في لبنان لا تتعدى 5 بالمئة من اللبنانيين الذين يعيشون بشكل مريح وتقوم بالمشاريع لم تكن موجودة في السابق».
ويشير الى أن «كل المؤسسات المزدهرة في لبنان باتت منطوية على نفسها، ولم يعد لديها الجرأة على القيام بأي مخاطر كانت تقوم بها سابقاً وتفضل عدم الدخول في متاهات جديدة. وهذا ما نراه في كل الاماكن في لبنان، لا مشاريع ولا بنى تحتية ولا تطوير. ولا اعتقد ان لبنان يمكنه ان يكمل بهذه الطريقة».
ويختم: «هذه الفوضى كانت مضبوطة قبل الانهيار، ولكنها لم تعد كذلك حالياً، لا قضاء ولا تطبيق للقوانين ولا ادارة عامة موجودة».
بطيش: لا هوية… بل مزيج من احتكارات واقتصاد مافيات وأوليغارشيات عابرة للطوائف
يعبّر وزير الاقتصاد السابق منصور بطيش لـ»نداء الوطن»، عن «أسفه الشديد لعدم وجود هوية اقتصادية واضحة للبنان في المرحلة الحالية، وعملياً خلال كل الأعوام الثلاثين الماضية»، مشيراً الى أنه «اذا أردنا أن نعطي هوية اقتصادية للبنان منذ التسعينات وخلال سنوات الحرب، فالنموذج الاقتصادي هو مزيج من الاحتكار والريع والمافيوية، وبعيد كل البعد عن النظام الاقتصادي الحر، والاكيد انه ليس نظاماً اشتراكياً وهو بعيد من المفهوم الاقتصادي الحديث والحر كما هو رائج في الدول الغربية».
يضيف: «نحن بعيدون عن النظام الاقتصادي الحر، وتأكيداً على ذلك ما حصل عند وضع قانون المنافسة (حين كنت وزيراً للاقتصاد) والعراقيل التي وضعت قبل اقراره، والى الآن لم يوضع موضع التنفيذ لأنه لم تصدر مراسيم تطبيقية لتنفيذه»، لافتاً الى أن «المطلوب اليوم هو نموذج اقتصاد حر يرتكز على انتاج السلع والخدمات، ولا سيما المنتجات ذات القيمة المضافة العالية والمتمتعة بقدرة تنافسية (منتجات زراعية/ صناعية/ حرفية وخدمات استشفائية وابداعية)».
يرى بطيش أنه «بعد 17 تشرين صار الوضع أسوأ، والاوليغارشيات باتت متحكمة بكل مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والنقدية الى حد كبير والى حدود معينة بالاعلام. الاحتكارات (والاوليغارشيات) عابرة للطوائف والاحزاب وتشكل حزباً في البرلمان وهي فوق الطوائف ومن كل الطوائف»، لافتاً الى أن «المطلوب نظام اقتصادي حرّ يرتكز على العدالة والانتاج وضريبة تصاعدية، وضريبة الدخل الموحدة، وعلى نظام اجتماعي اقتصادي يؤمن الرعاية لكل شرائح المجتمع».
ويشدد على أنه «خلال الـ30 سنة الماضية كنا بعيدين كل البعد عن الاقتصاد الحر وسبق ذلك 15 سنة حرباً. وقبلها أي فترة بعد الاستقلال كان هناك انتاج افضل بكثير مما هو اليوم، وبعد الازمة سيطر النموذج الفوضوي وتحللت كل مفاصل الدولة وسيطر المحتكرون ولا نزال ندور في النظام الريعي، ولا احد يتجرأ على القيام باصلاحات مالية لا بل يحاربون اي اصلاح يمكن ان يحصل (مثلما حاربوا طروحات اميل بيطار والياس سابا وموريس الجميل)». ويختم: «ما نحن عليه اليوم، يجب ان يقارن مع الاقتصاد الذي كان سائداً ما قبل الحرب، لكن الوكالات الحصرية لم تكن موجودة قبل العام 1967. قبل الحرب كان لبنان يصدّر ما لا يقل عن 60 بالمئة مما يستورده وكان بلد سياحة وخدمات بامتياز، بينما في العام 2018 فانه يصدر 15 بالمئة مما يستورده ولم يعد بلد السياحة والخدمات بل صرنا نتكل على مجيء المغتربين لتحريك الوضع السياحي».
حداد: كان ولا يزال ليبرالياً مع قطاعات لا يجب أن تبقى بيد الدولة
يعتبر وزير االاقتصاد اللبناني السابق سامي حداد لـ»نداء الوطن» أن «اقتصاد لبنان كان ولا زال ليبرالياً، لكن هناك قطاعات لا تزال ملكاً للدولة كقطاع الاتصالات والكهرباء، في حين أن هذه القطاعات الاقتصادية حتى في البلدان الاشتراكية هي بيد القطاع الخاص»، مشدداً على أن «لبنان يحتاج الى اصلاح في كافة القطاعات، وكل الفوضى التي نعيشها يمكن أن تكون في نظام اقتصادي آخر، لكن لبنان يتبنى الاقتصاد الحر. وهذا ما يمكن استخلاصه من عدة معايير منها على سبيل المثال الناتج القومي، فالنسبة الاكبر منه هي من القطاع الخاص، وهناك قطاعات حيوية مسيطر عليها من القطاع الخاص مثل الصحة والتعليم مثلاً». ويختم: «كلمة ليبرالية تعني ان هناك مقارنة بين القطاعين العام والخاص، وهناك حرية تسعير ومنافسة، وما يحصل في لبنان هو نوع من حرية التسعير والمنافسة».
قطب: ظواهر لا يمكن تفسيرها… نحن في اقتصاد غير نظامي وغير منظور
يشير الخبير الاقتصادي الدكتور مروان قطب لـ»نداء الوطن» الى أنه «لا يمكن تحديد هوية الاقتصاد اللبناني ضمن التصنيفات المتعارف عليها عالمياً، اي اقتصاد السوق او اقتصاد موجه او اقتصاد مختلط، انه اقتصاد خارج التصنيفات المألوفة. هو نوع من اقتصاد غير نظامي، اقتصاد فوضوي، اقتصاد غير منظور، ويرجع ذلك الى صعوبة تحديد العوامل المؤثرة فيه، فهي متعددة ومتداخلة والكثير منها خفي لا يمكن الوقوف عليه»، مشدداً على أن «الكثير من الظواهر الاقتصادية في لبنان لا يمكن تفسيرها وفقاً للقواعد الاقتصادية المتعارف عليها، والمحللون لا يستطيعون اعطاء تحليلات قائمة على بيانات ثابتة، وتحليلاتهم تكون عبارة عن مقاربات، وفي كثير من الاحيان تنبؤات وغالباً لا تكون صائبة بفعل التعقيد والتداخل في مكونات الاقتصاد اللبناني».
يضيف: «على سبيل المثال سعر صرف الدولار الاميركي في لبنان منذ بداية الازمة الى تاريخه، فانها ظاهرة تحمل الكثير من الغموض والابهام في عدة جوانب منها، وفي اكثر من محطة لم يستطع التحليل فهم مسار هذه الظاهرة، مما يدل على انه اقتصاد فوضوي وغير نظامي، تتحكم به عوامل غير منظورة مرتبطة بالواقع السياسي المتفكك في الدولة اللبنانية المتحللة».
دو فريج: يخطئون بتحميل الحريرية المسؤولية… نحن اليوم في نموذج فنزويلي
النائب السابق نبيل دو فريج (رئيس سابق للجنة الاقتصاد الوطني والتجارة والصناعة والتخطيط النيابية)، وانطلاقاً من تجربته ضمن الفريق الاقتصادي للرئيس الراحل رفيق الحريري، يقول لـ»نداء الوطن»: «هوية لبنان الاقتصادية التي كان يعمل على تحقيقها مشروع الرئيس الشهيد الحريري، هو بناء اقتصاد حر وفقاً للمعايير القانونية والعلمية والدولية الدقيقة وبالاتفاق مع المجتمع الدولي. ولم نستطع تطبيق هذا النموذج الاقتصادي الحر لأسباب متعددة، لكن المعارضة تحمّلنا وحدنا مسؤولية هذا الاخفاق، وهذا غير صحيح».
يضيف: «ما حاولنا تحقيقه هو تحديد دور الدولة لجهة الانماء والخدمات الاجتماعية. ففي البلدان التي تعيش استقراراً معيناً، على الدولة ان تؤمن هذه الخدمات للمواطن، لكن ظروف بلد كلبنان حيث المعايير الطائفية والمذهبية هي السائدة في توظيفات الادارة العامة، فرضت أن تكون أغلب القطاعات الاقتصادية بيد القطاع الخاص ومنها الخدمات الاجتماعية والصحية والتربوية، وقطاع الاتصالات كان يتمتع بخدمات ووضع جيد جداً، ولكن حين استردته الدولة بقرار في العام 2003 حوّلوه الى مكان للتوظيف السياسي على حساب الدولة والمواطن»، لافتاً الى أن «قطاع الكهرباء الذي تولت الدولة ادارته، بلغت كلفته على الخزينة العامة ما يزيد عن 40 ملياراً (مع الفوائد)، فلو كانت ادارته في يد القطاع الخاص ووفقاً للاصول العلمية ما كان وصل الدين الى الرقم الذي وصل اليه».
يشدد دو فريج على أن «لبنان يجب أن يكون اقتصاده حراً وقائماً على المنافسة التي تؤمن الخدمة النوعية والشفافية المطلوبة، ولا يمكن أن نكون ضمن اقتصاد موجه. صحيح اننا لا زلنا تحت تصنيف الاقتصاد الحر، لكن هذا الاقتصاد لا ينجح الا اذا تمكن من جذب استثمارات القطاع الخاص»، مشيراً الى أنه «اليوم لا ثقة بلبنان على كافة الصعد الامنية والقضائية والمالية ولا يمكن لأي مستثمر أن يوظف أمواله في لبنان، والاسوأ هو عدم وجود قطاع مصرفي سليم يمكن أن يموّل الاقتصاد. من الناحية النظرية كل القوى السياسية تقول إنها مع الاقتصاد الحر، لكن الادوات المطلوبة لوجود هذا الاقتصاد غير موجودة».
يضيف: «العنوان جيد ولكن بالتفاصيل هناك تعقيدات كثيرة. وبعد الطائف كان بالامكان تسيير الامور لأن هناك قطاعاً مصرفياً يموّل القطاع الخاص، وهذا غير موجود حالياً وكل القطاعات مشلولة. هناك آراء غير سوية تقول إنهم يريدون تحويل لبنان من اقتصاد ريعي الى اقتصاد منتج، هذا الامر غير صحيح. صحيح ان القطاع المصرفي كان يستقطب حجماً كبيراً من أموال المودعين وكان يمكن توظيف الاموال في قطاعات اخرى، ولكن الوضع السياسي في البلد (حتى قبل اغتيال الرئيس الحريري) كان وضعاً صعباً ويمنع جذب الاستثمارات الى القطاعات المنتجة»، لافتاً الى أن «قرار التوقف عن سداد سندات اليوروبوند الذي كان خطيئة مميتة للبلد، وكانت الحجة انهم يريدون الاستثمار في القطاعات المنتجة، اين هي هذه الاستثمارات اليوم؟ اين هو الاقتصاد المنتج؟ ما نراه هو الانهيار المستمر في القطاعات وفي الدولة».
ويرى أننا «كنا بنموذج اقتصادي قسم منه ريعي وقسم آخر منتج، وكانت هناك قطاعات انتاجية في البلد في الزراعة والصناعة والخدمات والسياحة والمصارف، لكن ايضاً كنا في بلد يزيد فيه الدين العام بوتيرة عالية والفساد بأعلى درجاته وبشكل منظم، ولا محاسبة. وتفاقم الأمر مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري الى ان وصلنا الى الانهيار». ويختم: «حالياً نحن في النموذج الفنزويلي «الشاطر بشطارته» من دون وجود اي مرجعية قانونية، وبتنا نموذجاً فريداً في الاقتصاد عالمياً».