حتّى أواخر الأسبوع الماضي، كانت سندات اليوروبوند اللبنانيّة تستمر بتسجيل أسعار سوقيّة تتجاوز الـ8 سنت للدولار، أي 8% من قيمتها الإسميّة عند الإصدار، وهو ما يعكس زيادة بنسبة 45% مقارنة بسعر هذه السندات في بداية العام. مع الإشارة إلى أنّ هذه السندات سجّلت أسعاراً متدنيّة لم تتخطّ حدود الـ5.5 سنت للدولار في أواخر العام الماضي، وهو ما يطرح السؤال مجددًا عن سرّ الإقبال على هذه السندات خلال الأشهر الماضية، خصوصًا أن لبنان لم يشهد تقدمًا يُذكر في الملفّات الماليّة الأساسيّة هذه السنة، ومنها ملف الاتفاق مع صندوق النقد الدولي (راجع المدن).
من الناحية العمليّة، بات من الواضح أنّ حملة السندات الأجانب يراهنون على مجموعة من الأخطاء القانونيّة التي ارتكبتها الدولة اللبنانيّة مؤخرًا، والتي ستعزّز موقعهم التفاوضي لاحقًا أمام محاكم نيويورك، التي تملك صلاحيّة البت بنزاعاتهم مع الدولة اللبنانيّة بحسب العقود الموقّعة بين الطرفين. مع الإشارة إلى أنّ جزءاً أساسياً من هذه السندات مملوكة من قبل صناديق التحوّل الأجنبيّة، التي تختص بشراء سندات الدول المتعثّرة بأثمان زهيدة، قبل محاولة تحصيل قيمة السندات بالضغط القانوني والمفاوضات المباشرة (راجع المدن).
لكن في الوقت نفسه، ثمّة ما يشير إلى أنّ زيادة الإقبال على سندات اليوروبوند اللبنانيّة مؤخرًا، رغم تعثّر الدولة في سدادها منذ آذار 2020، قد يرتبط بالتفاؤل بإمكانيّة تحصيل جزء من قيمة هذه السندات من عائدات استخراج الغاز في المستقبل، خصوصًا إذا وقعت هذه العائدات تحت رحمة المحاكم الأجنبيّة لاحقًا. وهذا بالظبط ما يفسّر تسارع حركة التداول بهذه السندات، بالتوازي مع بدء أعمال الحفر في البلوك رقم 9. أمّا الأهم، فهو أن هذه المطامع تستمد زخمها من أخطاء الدولة القانونيّة في التعامل مع الملف أولًا، ومن التسرّع في صياغة مشروع قانون الصندوق السيادي قبل معالجة هذه الإشكاليّة ثانيًا.
التسرّع في ملف الصندوق السيادي
منذ البداية، كان من الواضح أنّ اللجان النيابيّة تسرّعت في إقرار الصيغة الأخيرة من مشروع قانون الصندوق السيادي، المخصّص لاستيعاب عائدات بيع النفط والغاز وادخارها على المدى البعيد. مع العلم أنّ مشروع القانون يقبع اليوم على جدول أعمال الهيئة العامّة للمجلس، بانتظار التصويت عليه في الجلسة التشريعيّة المقبلة.
المشكلة الأولى كما أشارت الكثير من التحليلات، هو أنّ مشروع القانون وضع إطارًا لكيفيّة استثمار عائدات قطاع النفط والغاز، قبل التيقّن من حجم العائدات المتوقّعة، ومن كيفيّة التصرّف بالغاز الذي سيتم استخراجه، ومن وضعيّة الأسواق الدوليّة في مرحلة الاستخراج والبيع. ومن المهم الإشارة إلى العديد من العوامل ستحدد مستقبلًا جدوى تصدير أو استخدامه في السوق المحلّي، وفقًا لوضعيّة الأسواق الدوليّة وخطوط إمداد الغاز في منطقة شرق المتوسّط عند الوصول إلى مرحلة الاستخراج، أو بحسب حجم الكميّات التجاريّة التي سيتم العثور عليها.
المشكلة الثانية والأهم، هي أنّ صياغة مشروع القانون جرت قبل البحث في الإشكاليّات القانونيّة المترتبة على تعثّر لبنان في سندات اليوروبوند، وعلى عدم وصول البلاد حتّى اللحظة إلى مرحلة التفاوض مع حملة السندات لتسديد هذه الديون. بصورة أوضح، لم يدرس المجلس النيابيّ المخاطر التي ستترتّب على توظيف 75% من قيمة محفظة الاستثمار “في الخارج” كما ينص مشروع القانون، في ظل امتلاك الدائنين الأجانب صلاحيّة اللجوء إلى محاكم نيويورك لتحصيل قيمة ديونهم، طالما أنّ الدولة اللبنانيّة لم تشرع حتّى اللحظة بالتفاوض معهم، أو حتّى في محادثات “حسن نيّة” جديّة.
وتأخذ الأمور منحى خطيرًا حين نعلم أن عمليّات تداول سندات اليوروبوند في الخارج، باتت في عهدة صناديق تختص في ابتزاز الدول المتعثّرة كحالة الدولة اللبنانيّة، وفي البحث عن أصول الدول الموجودة في الخارج، والتي يمكن استهدافها في دعاوى ومطالبات قانونيّة. ومن هذه الزاوية بالتحديد، تصبح الزيادة الأخيرة في أسعار السندات عامل قلق، طالما أنّها توازت مع تقدّم ملف النقط والغاز اللبناني.
الحجج القانونيّة التي يملكها الدائنون الأجانب
في واقع الأمر، قدّمت الدولة اللبنانيّة ما يكفي من ذرائع وحجج قانونيّة يمكن أن يستخدمها الدائنون الأجانب، لاستهداف إيرادات الغاز، في حال ادخارها أو استثمارها في أسواق المال الواقعة تحت سيطرة محاكم نيويورك.
فإذا كانت الدولة اللبنانيّة متجهة لتبنّي فكرة صندوق استراداد الودائع، كما وردت في خطّة الحكومة الماليّة، والتي تقوم على مبدأ تحميل الأموال العامّة عبء تسديد خسائر القطاع المصرفي، سيحاجج الدائنون الأجانب أنّهم أحق برهن العائدات المستقبليّة، بدل رهن هذه العائدات لإطفاء خسائر قطاع خاص كما تحاول الحكومة أن تفعل. أمّا إذا أصرّت الكتل النيابيّة الأساسيّة على فكرة إنشاء صندوق مخصص لاستثمار الأصول العامّة، لغرض تسديد الودائع، فسيمتلك الدائنون الأجانب ورقة قانونيّة إضافيّة، لوضع اليد على إيرادات الغاز تمامًا كما سيتم وضع اليد على الأصول العامّة لتسديد إلتزامات المصارف.
ببساطة، كل ما قامت به الدولة اللبنانيّة، وكل ما تقوم به حاليًّا، يذهب باتجاه التفريط بالحصانة التي يمكن أن تتمتّع بها إيرادات قطاع الغاز. أمّا فشل التفاوض مع صندوق النقد، وعدم المضي حتّى اللحظة بأي خطّة شاملة للتعافي المالي، فسيعزز من اندفاع الدائنين باتجاه هذا النوع من الأفكار، بدل الرهان على إعادة هيكلة الدين على وقع خطّة التعافي والتفاهم مع الصندوق. وهنا، سيكون غياب الخطّة حجّة قانونيّة جديدة بيد الدائنين، أمام المحاكم، للتأكيد على عدم جدوى الرهان على مسارات بديلة.
هكذا، سيراهن الدائنون الأجانب على استهداف أصول الصندوق السيادي المدخرة في الخارج، عبر محاكم نيويورك، إما لوضع اليد عليها، أو للضغط على الحكومة من أجل تخصيص جزء من هذه الأيرادات لتسديد الدين العام. وعلى النحو نفسه، سيحاولون استهداف أصول المصرف المركزي الموجودة في الولايات المتحدة، ومنها احتياطات الذهب المودعة هناك، والاحتياطات الماليّة المودعة في المصارف المراسلة. ولاستهداف موجودات المصرف المركزي بالتحديد، وإسقاط الحصانة القانونيّة عنها، سيصوّب الدائنون على ترابط ميزانيّة المصرف مع الدين الحكومي، بعدما أضاف الحاكم السابق رياض سلامة كتلة من الديون العامّة التي تستحق لمصلحة مصرف لبنان، من دون أي مسوّغ قانوني.
كيف يمكن تحصين عائدات قطاع الغاز؟
الكلمة المفتاح لتحصين عائدات قطاع الغاز، هي “التنويع”، تمامًا كما تفعل أساسًا جميع الصناديق السياديّة المعتبرة حول العالم، حتّى إذا لم تكن تواجه مخاطر قانونيّة كحالة لبنان. ولتنويع وجهة التوظيفات، في ظل المخاطر القانونيّة التي تواجهها الدولة، يمكن للبنان أن يزيد من نسبة الاستثمارات المربحة داخل السوق اللبناني نفسه، بعيدًا عن سطوة المحاكم الأجنبيّة التي يمكن أن تطال موجودات الصندوق.
مع الإشارة إلى مشروع القانون المطروح حاليًا، بالنسبة للصندوق السيادي، يحصر نسبة هذه الاستثمارات بنحو 25% كحد أقصى. وعلى أي حال، من المعروف أن كبرى الصناديق السياديّة حول العالم تلجأ لتوظيف نسب معتبرة من موجوداتها داخل أسواقها المحليّة، وفي مشاريع مضمونة ذات مردود مناسب، تحت عناوين ادخاريّة مثل “محفظة التنمية”.
هذا الحل يثير حتمًا الهواجس المرتبطة بإمكانيّة تبديد هذه الاستثمارات، إذا ما تم إقحامها في دوّامة سوء الإدارة المحليّة. ولهذا السبب، يمكن لاستثمارات الصندوق السيادي الداخليّة أن تقتصر على القطاعات العامّة التي تملك طابع احتكاري، أي تلك التي لا يوجد بديل لها، مثل استثمارات البنية التحتيّة المطلوبة لتوسعة وتطوير المرفأ والمطار، وهو ما يضمن للصندوق مردود ثابت ومضمون. كما يمكن أن تتم هذه الاستثمارات بالشراكة مع مؤسسات عالميّة، تكفل الإدارة والحوكمة الرشيدة مقابل هامش من الربح. وهذا ما قد يحل مكان نموذج تلزيم الاستثمار للقطاع الخاص بشكل كامل في هذه القطاعات.
النموذج الذي نشير إليه هنا لا يحتاج إلى اختراع البارود، بل هو تحديدًا النموذج المعتمد من قبل الصناديق السياديّة الكبرى، التي تحاول تنويع استثماراتها داخليًا لأسباب اقتصاديّة وماليّة وسياسيّة، ولتفادي الضغوط الخارجيّة على ثرواتها ومدخراتها. فعلى سبيل المثال، يحتفظ صندوق الاستمثارات العامّة السعودي ب68% من اصوله على شكل استثمارات داخليّة، فيما تقتصر الاستثمارات الدوليّة على 23% فقط من أصول الصندوق. كما تعمل الصناديق السياديّة في العادة وفق خطط لتنويع وجهة استثماراتها في الخارج، لتلافي المخاطر الاقتصاديّة والسياسيّة التي تحيط بهذه الاستثمارات.
أمّا بالنسبة للدائنين الأجانب، فالحل النهائي والأمثل يبقى الوصول إلى تفاهم شامل معهم لإعادة هيكلة الدين العام، للتخلّص من هذه المخاطر القانونيّة على المدى البعيد. وهذا الحل متعذّر من دون سلّة الإصلاحات الأشمل، التي تمر بإعادة هيكلة القطاع المصرفي وإعادة التوازن للماليّة العامّة، لكي تستند عمليّة إعادة هيكلة الديون على فرضيّات وأهداف واقعيّة، تضمن استدامة هذا الدين بعد إعادة هيكلته. ولعلّ تأخّر لبنان في التفاوض مع الدائنين حتّى اللحظة، رغم مرور ثلاث سنوات ونصف على توقّف الدولة عن تسديد السندات، يعود لعدم توفّر الإطار الأوسع من المعالجات.