إستقلالية القضاء… معركة الإقتصاد النظيف أيضاً

كشفت أزمة الودائع أن القضاء ليس مستقلاً في لبنان ولا يمكن له أن يطبّق القوانين القائمة لإنصاف المودعين. كما تبيّن أن هناك قضاة وفي مواقع مفصلية يخضعون للسلطات السياسية والطائفية والمصرفية. أما قضية الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة فهي المثال الفاقع على أن لا استقلالية للقضاء في لبنان، علماً بأن سلامة ملاحق في كل دول العالم بموجب مذكرات من الأنتربول. ماذا يعني هذا الواقع الشاذ بالنسبة إلى الاقتصاد اللبناني وبالنسبة إلى المستثمرين المحليين والأجانب؟ وهل مشروع قانون استقلالية القضاء المطروح على المجلس النيابي يطمئن المودعين والمستثمرين وكل اللبنانيين والأجانب؟

معاد: المستثمر الأجنبي يخاف المماطلة في التنفيذ ومخاطر التدخّلات السياسية… والفساد

يشرح المحامي نبيل معاد (مختص في القانون التجاري) لـ»نداء الوطن» تبعات الفساد القضائي على أعمال الشركات والمؤسسات التجارية الخاصة بالقول:»أكثر ما يواجهنا مع الشركات الأجنبية التي تبيع وتصدّر الى لبنان، أنها باتت تطلب تسديد ثمن البضائع كاملاً ومسبقاً وبالكاش (قبل التسليم). وهذا الأمر بات حتميّاً حتى ولو أنهم يتعاملون مع التاجر اللبناني منذ سنوات، وذلك بهدف تجنّب عواقب اللجوء الى القضاء اللبناني»، لافتاً الى أن «هذا الأمر ينطبق أيضاً على علاقة المصارف اللبنانية مع المصارف المراسلة، التي ترفض تغطية أي مصرف من دون تأمين الأموال المطلوبة بالكاش، ما يلحق الضرر بالعجلة الاقتصادية ككل، لأنه يحرم التجار والمؤسسات التجارية من تسهيلات في الدفع ما يزيد الضغوط المالية عليهم».

يضيف «الضرر غير المباشر يكمن في تفضيل المستثمرين الأجانب (ومن بينهم المغتربون اللبنانيون)، الاستثمار وفتح مشاريع في بلدان أخرى مجاورة كاليونان ومصر بدلاً من لبنان، علماً أن ربحهم في هذه البلدان أقل لكنهم يفضلون ربحية أقل تجنّباً للمخاطر العالية في لبنان في حال اضطروا للجوء الى أي دعوى قضائية لتحصيل حقوقهم». مشدّداً على أن «المشكلة هي أنه حتى لو تمّ رفع دعوى قضائية في أي بلد في العالم ضد أي جهة لبنانية وصدر الحكم فيها، فالتنفيذ سيكون في لبنان وعبر القضاء اللبناني، وهذا يعني مماطلة في التنفيذ ومخاطر التدخّلات والفساد».

يستدرك معاد أن «البطء في البتّ بالدعاوى القضائية أمر موجود في العديد من الدول وليس فقط في لبنان، لكن المشكلة في لبنان هي أن هذا البطء يفوق أيّ حدّ معقول، فضلاً عن فساد مستشرٍ بحيث يتمّ في معظم الأحيان قلب الحقائق كلياً، بمجرّد أن يكون أحد أطراف الدعوى مدعوماً من جهة سياسية»، معتبراً أن «المشكلة ليست في النصوص فقط، بل في مبالغة بعض القضاة اللبنانيين في محاباة مرجعياتهم السياسية. في فرنسا مثلاً هناك قضاة تابعون لأحزاب سياسية ويخدمون سياسات أحزابهم، ولكنهم في النهاية يلتزمون بالنصوص القانونية بينما في لبنان بعض القضاة مستعدّ لقلب كل الحقائق والنصوص».

يجزم معاد بأن «تجاوز القانون في لبنان بات سهلاً وبلا رادع، وحين نرى قاضياً يحاسب بشكل جديّ عندها تصبح هناك ثقة بالقضاء وينتعش الوضع الاقتصادي. وهذا لم يحصل في تاريخ الجمهورية اللبنانية، فالعقوبة الأقصى للقاضي الفاسد هي الاستقالة أو الإقالة وفي بعض الأحيان ينتقل القاضي الفاسد الى ممارسة مهنة المحاماة!».

ويختم «الثغرة الأولى والأساسية هي في المحسوبيات السياسية التي تؤثر في الجسم القضائي في لبنان، فتعيينات مجلس القضاء تتم وفقاً للمحاصصة الحزبية والطائفية وهذا الأمر ليس سرّاً، والدخول الى معهد القضاة يتمّ وفقاً للمعايير الطائفية والحزبية. البدء بالإصلاح يبدأ من رفع يد السياسيين عن تعيينات معهد القضاة، وأن يكون انتخاب مجلس القضاء من قبل القضاة من دون تدخل السياسيين».

صاغية: يحاولون بقوّة الإبقاء على المحاصصة الطائفية في التعيينات القضائية

في النقاش القانوني حول الفائدة التي يمكن أن يجنيها الاقتصاد من قانون استقلالية القضاء، يوضح المدير التنفيذي لـ»المفكرة القانونية» نزار صاغية لـ»نداء الوطن» أن «لا شيء اسمه استقلالية القضاء بالمطلق، وهي تتحقّق حين تتأمن ضمانات معيّنة للاستقلالية. ومن دونها لا يمكن أن تتحوّل الى واقع حتى لو تولى المراكز القضائية أفضل الأشخاص. فطالما أن هناك من يتحكم في التعيينات والانتقال من منصب لآخر ويتحكّم بالمحاسبة والمراقبة، ستذهب كل الجهود هباء».

يضيف: «لذلك كنا حريصين في الاقتراح الأساسي الذي قدّمناه على تأمين كل الضمانات للقضاة من خلال تعيينهم ضمن معايير شفافة، وأن تتمّ التشكيلات القضائية من دون أن يكون للسياسيين دور فيها وفي تعيين مجلس القضاء الأعلى، وكل هذه المعايير تجتمع ضمن نظام يحترم القضاء». مشدّداً على أن «ما حصل في لجنة الإدارة والعدل أنهم أخذوا بكل المبادئ الأساسية، التي وضعتها «المفكرة القانونية» حول قانون استقلالية القضاء، ولكن تمّ إلحاقها بتفاصيل جرّدت هذه المبادئ من المعنى والأهمية». ويعطي مثالاً على ذلك بالقول: «هناك نقطة في الاقتراح تنصّ على انتخاب 7 من أعضاء مجلس القضاء الأعلى بدلاً من تعيينهم من قبل الحكومة. لكن اللجنة قسّمت طريقة الانتخاب وحوّلتها الى فئات متعددة وكل منها تنتخب قاضيها، والفئات الكبيرة منها أمّنت لها اللجنة الآلية لكي يكون القضاة المنتخبون من المقرّبين من السلطة (مثل رؤساء غرف التمييز وقضاة التحقيق ورؤساء محاكم الاستئناف)، وهؤلاء جميعاً في القانون الحالي يتم تعيينهم على أساس سياسي ضمن محاصصة شديدة وطائفية، وكل منهم يتمثل بقاضٍ في حين أن القضاة الشباب والمنفردين والذين يبلغ عددهم نحو 120 قاضياً يتم تمثيلهم بقاضٍ واحد».

يعتبر صاغية أنه «حين نمعن النظر في كيفية تعيين الفئات في اقتراح القانون، نعرف أنه من المرجح أن أغلبية القضاة الذين سيتمّ انتخابهم سيكونون من المقربين من السلطة. هذه هي النقطة اللافتة في القانون، بالإضافة الى أن تقرير لجنة الإدارة والعدل، تضمن ملاحظة أن هذه الآلية للانتخاب غير متفق عليها بالكامل من قبل أعضاء اللجنة، وتُترك للهيئة العامة أن تقدر الأنسب ضمن خيارات مختلفة ومتعددة»، لافتاً الى أن «من النقاط اللافتة أيضاً في اقتراح القانون أن اللجنة أدخلت تعديلات وشروطاً تعجيزية على المادة المتعلقة بحرية ترشح القضاة للمناصب الشاغرة، أو تأسيس جمعيات تناقش الوضع القضائي، وكأن المطلوب من أي جمعية يتم تأسيسها مناقشة قوانين لعبة «الفوتبول» مثلاً».

يجزم صاغية بأنهم «لا يحلمون بتغيير النظام بين ليلة وضحاها، وما يريدون القيام به هو إصلاح المؤسسات وانتزاعها من السلطة. هذا هو الهدف الذي على أساسه وضعت المفكرة القانونية مشروع استقلالية القضاء، ويعتبرون أنه الحل الذي يدفع الطبقة السياسية الى التنازل لكي يتمكن المجتمع اللبناني من التنفس والعيش ويشعر بالعدالة ويبني اقتصاداً سليماً»، مشدداً على أنه «لا يمكن بناء اقتصاد بمعايير سليمة وجدية من دون عدالة، والمثال الابرز هو السطو الذي مارسته المصارف على أموال المودعين، وليس المطلوب أن ننتظر تغيير المنظومة حتى نتمكن من بناء المؤسسات».

ويختم: «إنها حرب نخوضها مع النظام الحاكم لنفرض عليه التنازل والموافقة على أن هناك مؤسسات لن تكون تحت قبضته، حتى ولو كان يتمتع بالسلطة والنفوذ، وأن المطلوب قيام مؤسسات يطمئن لها المواطن، ولذلك إصرارنا على أنه، أياً كان النظام الحاكم، علينا المحاولة والضغط والمثابرة لإصلاح المؤسسات».

دياب: حديث فساد القضاء في غير محله… والمشكلة في التأخير في بت الأحكام

يقول المحامي البروفسور نصري انطوان دياب إن «المناخ الاقتصادي والتجاري لأي بلد مرتبط بكل تأكيد بوضع القضاء. بمعنى أن الاستثمار الوطني والأجنبي يأخذ في الاعتبار سلامة القضاء في أي بلد يراد الاستثمار فيه»، ويجزم بأنه «كمحامٍ منذ 40 عاماً ويعمل في قطاع الشركات والقانون التجاري والمالي، لم يشتك يوماً (ولا زملاؤه العاملون في المضمار نفسه)، من الفساد في القضاء بشقيه المدني والإداري (أي مجلس شورى الدولة)». ويؤكد أنهم «ربحوا دعاوى وخسروا أخرى من دون أن تكون هناك شبهات، بل اقتنعوا بالأحكام التي صدرت والتي كانت واضحة ومعللة»، مشيراً الى أن «الحديث عن فساد في القضاء في لبنان هو عبارة في غير محلها، والمشكلة الأكيدة في القضاء المدني والإداري، هي التأخير في بتّ الأحكام نظراً لحجم الملفات المرفوعة نسبة الى عدد القضاة، والتي تمنعهم من إصدار أحكام فيها ضمن فترة زمنية معقولة في كل الملفات الموجودة أمامهم».

يرى نصري دياب أن «عبارة استقلالية القضاء هي عبارة مطّاطة ويمكن أن تشمل أفكاراً ومبادئ متنوعة»، مذكّراً بأن «القضاء هو سلطة من السلطات الدستورية الثلاث، والمادة 20 من الدستور تنص على أن السلطة القضائية تماثل السلطتين التشريعية والتنفيذية، وهذا يعني أن هناك استقلالية في النصوص وفي النص الأساسي أي الدستور، ولذلك لا يمكن لأي طرف القول إن القضاء اللبناني خاضع لإحدى السلطتين التشريعية والتنفيذية».

وهل هناك تدخل قانوني من هاتين السلطتين في القضاء؟ يجيب دياب: «بكل تأكيد نعم، فالسلطات الثلاث متداخلة بعضها ببعض بشكل يؤمن التوازن في ما بينها ومراقبة متبادلة (check and balance) ضرورية لحسن سيرها. الأكيد انه من الضروري تصويب هذا التداخل كي لا يكون مزعجاً للسلطة القضائية. أرى أن الأدوار موزعة بين السلطات الثلاث في الدستور اللبناني، وبوجود الاستقلالية المنصوص عنها في المادة 20 وفي الفقرة (ه) من المقدمة، التي تنصّ على أن السلطات منفصلة عن بعضها ولكن يجب أن تتعاون وتتوازن في ما بينها، ومن المستحسن أن يبقى هذا الامر كما هو اليوم، وليس ضرورياً التكلم على استقلالية تامة للقضاء، لأن ذلك يمكن أن يؤدي الى نوع من «العصبية المهنية» (corporatisme). ولذلك يفضل أن تبقى الأمور على حالها بالنسبة للمبادئ الأساسية، مع تحسين بعض التفاصيل ليس أكثر».

ويرى دياب أنه «ربما هناك مشكلة في القضاء الجزائي، كونه معرضاً أكثر وبشكل هيكلي للضغوط السياسية، لأن لوزير العدل سلطة معينة على عمل المدعي العام، والتدخل هنا يحصل مباشرة بحكم القانون. بينما وزير العدل ليس له أي سلطة على أي قاضٍ مدني أو تجاري، وحتى الرئيس الأول لمحكمة التمييز لا يمكنه أن يعطي أوامر للقضاة في المحاكم المدنية، فتكون الاستقلالية تامة»، مشدداً على أن «هذا التدخل المباشر في العمل وليس في هيكلية القضاء لا شك أنه قد يخلق مشكلة. وهذا صحيح أيضاً بالنسبة للقضاء العسكري الذي هو قضاء استثنائي لم تعد له صلاحية في بلدان العالم المتحضر في القضايا الخارجة عمّا يحصل داخل المؤسسات العسكرية».

ويختم: «الاستقلالية الحقيقية هي في النفوس وليس في النصوص، وهذا ما يثبته يومياً العدد الأكبر من قضاتنا».

مصدرنداء الوطن - باسمة عطوي
المادة السابقةتجار سوريون يتوسّعون بقوّة في لبنان
المقالة القادمةسرقة موصوفة لودائع اللبنانيين تتطلّب محكمة دولية لا صندوق نقد دولي