تذهب تأثيرات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، أبعدَ بكثير من حدود القطاع لتطال المنطقة المحيطة والعالَم. إذ امتدَّت التأثيرات إلى البحر الأحمر الذي يُعتَبَر ممرّاً اقتصادياً مهماً بالتوازي مع قناة السويس التي بدورها تربط البحرين الأحمر والأبيض المتوسّط. ومع ارتفاع وتيرة الحرب على غزّة واحتجاز الحوثيين عدداً من السفن المارّة بالبحر الأحمر أو ضربها بالصواريخ، دعماً لغزّة، أعلنت جملة من كبريات شركات الشحن الدولية وقف مرورها بالبحر الأحمر. ولهذا القرار تبعات اقتصادية دولية، للبنان حصّة منها، ومن غير المستبعد البدء بالتماس ارتفاع أسعار البضائع قريباً، سيّما وأن عقود التأمين ارتفعت، وكذلك أسعار النفط عالمياً.
تقييد حركة البضائع والنفط
تباعاً، تعلن شركات الشحن العالمية تعليق عبورها البحر الأحمر. فشركة CMA CGM الفرنسية وكذلك شركة “أيه بي مولر- ميرسك” الدنماركية وشركة “هاباج لويد” الألمانية، أعلنت كلّ منها الامتناع عن عبور البحر ونقل الحاويات “حتى إشعار آخر”. وعلى الخط نفسه، دخلت شركات نقل النفط التي تنقل النفط الخليجي إلى البحر المتوسّط عبر قناة السويس. فذكرت وكالة رويترز أن شركة “بريتش بتروليوم” وشركة “بي بي” علّقتا عمليات عبور ناقلات النفط في البحر الأحمر لأن “الوضع الأمني متوتِّر”.
وفي السياق، أكّدت شركة الشحن البحري التايوانية “يانغ مينغ” إنها “ستحوِّل مسار سفنها المبحرة عبر البحر الأحمر إلى رأس الرجاء الصالح خلال الأسبوعين المقبلين، في ظل تصاعد الهجمات على السفن”. وكذلك أعلنت مجموعة “فرونت لاين” لناقلات النفط ومقرها النرويج، إن “سفنها ستتجنَّب المرور عبر البحر الأحمر وخليج عدن في الفترة المقبلة”.
ومن غير المجدي اقتصادياً أن تتوقّف تلك الشركات عن عبور البحر الأحمر وقناة السويس، خصوصاً وأن نحو 40 في المئة من التجارة الدولية تمرّ عبر تلك الطريق. وامتناع شركات الشحن عن المرور هناك يعني تحويل مسارها عبر رأس الرجاء الصالح، وهو الطريق القديم الذي كانت تسلكه السفن قبل حفر قناة السويس. لكن الدورة حول القارة الإفريقية للوصول من أوروبا نحو الهند ودول شرق آسيا، وبالعكس، يعني زيادة أكلاف الشحن والتأمين وخسارة المزيد من الوقت الذي تستغرقه الرحلات. فالإبحار عبر قناة السويس يوفّر بين 10 و14 يوماً في الرحلة.
ولتجنُّب الأسوأ، تعمل واشنطن على التواصل مع الحوثيين، عبر سلطنة عُمان وبعض الوسطاء الآخرين، لدفع الحوثيين على وقف الهجمات على السفن في البحر الأحمر. لكن وفق ما أعلنته وكالة بلومبرغ نقلاً عن مصادر، أكّدت أن الحوثيين أعلنوا استمرار هجماتهم إلى حين وقف إسرائيل حربها على قطاع غزة.
لبنان لا يحتمل أكثر
ربما يشكِّل الإلتفاف حول رأس الرجاء الصالح خياراً آمناً بالنسبة للشركات الكبرى، حتى لو أدّى ذلك إلى ارتفاع الأسعار وتأخير وصول البضائع. لكنه خيار غير مرحَّب به بالنسبة للمستوردين والمصدِّرين اللبنانيين، فالأحوال الاقتصادية والاجتماعية لا تحتمل المزيد من ارتفاع الأكلاف والأسعار، فضلاً عن تقليص حجم الاستيراد والتصدير.
وأولى نتائج قرارات شركات الشحن الابتعاد عن البحر الأحمر، هي تكدُّس البضائع اللبنانية المعدّة للتصدير عبر مرفأ بيروت. فبعض شركات الشحن الكبرى لم تأتِ إلى مرفأ بيروت رغم انتظارها بحسب المواعيد، الأمر الذي جعل المستوردين والمصدِّرين في حالة انتظار للمستقبل القريب. ويتخوَّف رئيس تجمّع المزارعين في البقاع إبراهيم ترشيشي، من إطالة أمد الحرب واستمرار دفع المزيد من التكاليف. فوفق ما يقوله لـ”المدن”، فإن الإلتفاف حول رأس الرجاء الصالح “سيرفع كلفة الإيجار. وبالتالي لا نعرف ما إذا كان سيبقى للتصدير جدوى أم لا”.
البضائع اللبنانية العالقة في مرفأ بيروت بانتظار البديل السريع، لا تملك حلاًّ سوى السفر برّاً عبر الأردن وسوريا وصولاً إلى السعودية ومنها إلى دول الخليج، لكن السفر البرّي ممنوع على هذه البضائع. والحل الأسرع بالنسبة إلى ترشيشي هو أن “يفتح السعوديون حدودهم البرية لاستقبال الإنتاج اللبنانية”. وإلى حين البتّ السعودي بالقرار “يمرّ لبنان حالياً بأخطر وضع. فصادرات العنب والتفاح والبطاطا والحمضيات لن تذهب سوى إلى أوروبا، في حين كل ما يمرّ عبر قناة السويس والبحر الأحمر، سيتوقَّف”.
من ناحية ثانية، يقلِّص رئيس لجنة التجارة بغرفة بيروت وجبل لبنان، جاك حكيم، هوامش تفاؤله. لأن قراءته لما يحصل في البحر الأحمر وما نتج عنه من قرارات لشركات الشحن، هو امتداد “للحرب الإقليمية الكبيرة التي ستفرز مصاعب تزداد يوماً بعد يوم. فالحرب ستمتد لأسابيع أخرى”. وكلّما طال أمد الحرب على غزة، رفعت شركات التأمين أسعارها نتيجة مخاطر وأكلاف الإبحار.
التداعيات الاقتصادية التي سيشهدها لبنان بفعل تغيير مسار نقل البضائع عبر البحر الأحمر، ستتراكم سوءاً “فنحن دولة غير جاهزة لتغطية العجز الاقتصادي والتجاري. كما أن صعوبة إجراء التحويلات المصرفية للخارج، تفاقِم الأوضاع”. وكخلاصة أوّلية ممّا يحصل، يتوقّع حكيم “ارتفاع أسعار السلع في لبنان. على أن ذلك سيبدأ مطلع السنة المقبلة، أي 2024. فما يحافظ على استقرار الأسعار اليوم، هو الدولارات التي يأتي بها اللبنانيون المغتربون”.
حتى الآن، لا يزال الوضع الإقليمي والدولي مستقراً. فالسفن التي أوقفت التنقّل عبر البحر الأحمر وتحوَّلَت نحو رأس الرجاء الصالح “عددها 55 سفينة، عن الفترة بين 19 تشرين الثاني الماضي واليوم. في حين أن 2128 سفينة عبرت قناة السويس”، أي ان الفارق بسيط جداً.