أكد محللون أن ملامح ميزانية لبنان لعام 2024 تكشف بوضوح عن جحم التحديات التي تواجه السلطات في طريق تحقيق مطالب الأوساط الشعبية المتعلقة أساسا بتحسين ظروفها المعيشية.
وتترقب الأوساط الاقتصادية والشعبية ولادة الميزانية، التي تمر بمخاض متعثر في البرلمان نتيجة الصعوبات الكثيرة بشأن التوفيق بين الالتزامات والضغوط المالية والاقتصادية المسلطة على البلد منذ أربعة أعوام.
وتعرض مشروع الميزانية الذي صادقت عليه الحكومة في سبتمبر الماضي إلى العديد من العراقيل في ظل استمرار الفوضى السياسية المهيمنة على المشهد العام للبلاد.
ويركز البعض على نقاط جوهرية كثيرة مرتبطة بكيفية تنفيذ بنود الميزانية واقعيا لاسيما مع توقف القروض والمنح من المؤسسات الدولية، وفي مقدمتها البنك وصندوق النقد الدوليين.
وما يعزز هذا الموقف خاصة وأن العام الجديد لم يتبق عليه سوى أيام معدودة هو مواصلة انعقاد جلسات مناقشة الميزانية، مما يعني أنها قد تتواصل لفترة غير معلومة كما حصل في الميزانية السابقة.
وذكرت وكالة الأنباء اللبنانية أن جلسة عقدتها لجنة المال والموازنة الثلاثاء برئاسة النائب إبراهيم كنعان وحضور وزراء العدل والبيئة والشباب والرياضة والمال لدرس وإقرار ميزانيات وزاراتهم.
وفي منتصف أغسطس الماضي، أقر مجلس الوزراء ميزانية 2023 بعد تأخر استمر قرابة عام كامل، بفعل الأزمة المالية التي تعصف بالدولة، دون أن يقدم المجلس الأرقام الرئيسة للإيرادات والنفقات والعجز والاقتراض.
وتتوقع وزارة المالية تحقيق إيرادات بقيمة 300.5 تريليون ليرة (12.9 مليار دولار)، أي بمجموع 3.5 مليار دولار على سعر صرف 85.5 ألف ليرة للدولار.أما النفقات المتوقعة فقد تضاعفت سبع مرات، بينما تعتبر وزارة المال أن العجز يبلغ ما نسبته 13.89 في المئة.
ويشهد لبنان منذ 2019 انهيارا اقتصاديا متواصلا باتت خلاله غالبية السكان تحت خط الفقر مع عجز الدولة عن توفير أبسط الخدمات، ما انعكس بشدة أيضا على اللاجئين السوريين والفلسطينيين، فاقمه اندلاع حرب بين إسرائيل وحماس.
كما يشهد البلد أزمة سياسية حادة تتمثّل بشغور منصب رئيس الجمهورية منذ أكثر من 13 شهرا، ووجود حكومة تصريف أعمال تحول الانقسامات السياسية والقوانين دون أداء مهامها بشكل فاعل، ما يؤدي الى شلل شبه كامل على صعيد اتخاذ القرار.
ويتزامن البطء في إقرار الميزانية مع تزايد الترجيحات أن تتسبب الحرب في غزة بعودة الاقتصاد اللبناني إلى حالة الركود، رغم التوقعات المتفائلة التي تحركها السياحة وتحويلات المغتربين في البلاد التي تشهد أزمة.
وأكد البنك الدولي في تقرير نشره الأسبوع الماضي أن تداعيات الصراع الحالي أثرت على الانتعاش الطفيف الذي حققه لبنان الغارق في أزمة اقتصادية عميقة منذ سنوات.
وجاء في التقرير “قبل أكتوبر 2023، كان من المتوقع أن يسجل الاقتصاد لأول مرة منذ 2018 نموا طفيفا في 2023 بنسبة 0.2 في المئة ويعود السبب في معدل النمو الإيجابي المتوقع إلى الموسم السياحي الذي حقق عائدات كبيرة في الصيف، وتحويلات المغتربين”.
لكنه أضاف أن “مع اندلاع الصراع الحالي، من المتوقع أن يعود الاقتصاد اللبناني إلى حالة الركود في 2023، وبافتراض استمرار الوضع الحالي المتمثل باحتواء المواجهة العسكرية على الحدود الجنوبية”.
وتشير التقديرات إلى أن الاقتصاد اللبناني سينكمش في 2023 ويرجع ذلك في المقام الأول إلى الصدمة التي أصابت الإنفاق السياحي. ومن المتوقع أن يتراوح الانكماش بين 0.6 و0.9 في المئة وفقا لحجم الصدمة التي سيشهدها القطاع السياحي.
وأشار البنك الدولي إلى أن أكثر من نصف حجوزات السفر إلى لبنان لتمضية العطلة الشتوية ألغيت، محذرا من أن “اعتماد لبنان على السياحة وتدفقات التحويلات المالية لا يمثل إستراتيجية اقتصادية سليمة أو خطة لحل الأزمة الاقتصادية”.
وذكر “نظرا للتقلبات في قطاع السياحة وتعرضه لمخاطر الصدمات الخارجية والداخلية، لا يمكن لهذا القطاع أن يكون بديلا عن محركات النمو الأكثر استدامة وتنوعا”.
وقال جان كريستوف كاريه، المدير الإقليمي لدائرة الشرق الأوسط في البنك الدولي، إن “في ظل التقدم المحدود نحو خطة شاملة لحل الأزمة، لا يزال لبنان غارقا في أزمة اجتماعية واقتصادية ومالية كبرى، تفاقمت بسبب الجمود المؤسسي والسياسي”.
وأوضح أن السياحة رغم أنها ساهمت إيجابيا في النمو خلال الفترة الماضية، لكن لا يمكنها أن تكون لوحدها بديلا عن محركات النمو “الأكثر شمولا واستدامة وتنوعا”، والتي يمكنها أن تساعد على تحمل الصدمات بشكل أفضل وتسهم في إعادة الاقتصاد إلى التعافي.
ووفقا للتقرير، لا تزال اختلالات الاقتصاد الكلي قائمة، حيث لا يزال الحساب الجاري يعاني عجزا كبيرا يصل إلى 12.8 في المئة من إجمالي الناتج المحلي.
ومن المتوقع أن يتسارع معدل التضخم الذي فاق المئة في المئة منذ عام 2021 إلى 231.3 في المئة هذا العام، مدفوعا بانخفاض سعر الصرف (خلال النصف الأول من عام 2023) والدولرة السريعة للمعاملات الاقتصادية.
وتصدر لبنان قائمة البلدان الأكثر تأثرا بالتضخم الاسمي لأسعار المواد الغذائية في الربع الأول من العام الحالي بنسبة 350 في المئة على أساس سنوي في أبريل الماضي. وأدى هذا الوضع إلى تفاقم هشاشة الظروف المعيشية للفئات الأشد فقرا والأكثر احتياجا من السكان.
وفي خضم ذلك لا يزال الدين السيادي الذي بلغ 179.2 في المئة من إجمالي الناتج المحلي العام الماضي غير مستدام وسط انخفاض حاد في قيمة العملة وانكماش اقتصادي، وفي ظل غياب إعادة هيكلة شاملة للديون.
وشرع البنك المركزي اللبناني في إصلاحات محدودة ولكنها مشجعة، وسط استقرار نسبي في سعر الصرف. ومع ذلك، لا يزال يتعين إدخال تغييرات جوهرية على الرقابة المصرفية وإدارة السياسات النقدية وسياسات سعر الصرف من جانب المصرف المركزي. وقال البنك الدولي “لا يزال استمرار غياب تسوية منصفة للقطاع المصرفي تشتمل على توزيع مسبق للخسائر وعمليات الإنقاذ وإعادة الهيكلة يقوض آفاق التعافي في لبنان”.