في الأشهر الأخيرة من ولايته، صبَّ حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة جهوده نحو جعل سعر صرف الدولار في السوق مستقرّاً، بعد موجة ارتفاعات وصل خلالها الدولار إلى نحو 140 ألف ليرة. لكن تلك المحاولات لم تستطع محوَ تورّط سلامة في إيصال البلاد إلى أزمتها.
وَضَعَ الرجل سعيه ضمن عملية “طبيعية” يقوم بها عبر منصة صيرفة، فالمصرف المركزي تدخّل لضبط الوضع، من وجهة نظر سلامة الذي “نَجَحَ” في تهدئة حركة صعود الدولار. وأنهى سلامة مسيرته كحاكم بأمر المركزي، مسلِّماً نائبه الأوَّل وسيم منصوري دفّة قيادة مركب غارق. ومع ذلك، حظيَ منصوري بترحيب عربيّ ودولي خالٍ من أي مفاعيل قادرة على حمل لبنان نحو تخطّي أزمته.
محاولة السيطرة على سعر الدولار
سادَ الوئام لعقود بين المصارف التجارية وحاكم مصرف لبنان. أشاد هو بدورها وأشادت هي بقيادته. لكن الأزمة فرضت على كلّ من الطرفين الدفاع عن مصالحه متناسياً ما كان سائداً. فالمرحلة الممتدّة من نهاية العام 2019 حتى اليوم، أفرزَت واقعاً مختلفاً لا رجعة فيه إلى الوراء. ولذلك، غالباً ما تعارضت قرارات سلامة مع مصالح المصارف التي امتنعت مراراً عن تنفيذ القرارات، أو نفّذتها بما يضمن مصالحها أولاً. فلم تستجب المصارف دائماً مع قرارات سلامة في تنشيط ضخ الدولارات عبر منصة صيرفة، وانعكس ذلك سلباً على الكثير من المواطنين، سيّما موظّفي القطاع العام والتجّار. (راجع المدن).
نَجَحَ سلامة في خفض سعر الصرف في السوق إلى نحو 105 آلاف ليرة وجعل دولار صيرفة بين 85000 و90000 ليرة. ومع ذلك، كان يدرك بأن هذا اللجم لسعر الصرف لا يؤدّي إلى توحيده وسط الأسعار المتنوّعة المعمول بها في السوق والمصارف وصيرفة والسعر الرسمي وغير ذلك، بل هو محاولة لجعل المنصّة “هي من يحدد سعر الصرف”. غير أن ضبط السوق يحتاج إلى عرض الدولارات بكميات تلبّي حجم الطلب، وهو ما عجز سلامة عن تأمينه عبر المنصة، فبقي السوق هو المصدر الأبرز للدولار. (راجع المدن).
مرحلة ما بعد سلامة
محاولة تهدئة سعر صرف الدولار في السوق كانت الخطوة الأخيرة التي قام بها سلامة قبل انتهاء ولايته كحاكم للمركزي. ووسط هذا الهدوء، تحضَّرَ نوابه الأربعة لمرحلة جديدة تحت قيادة نائب الحاكم الأوّل وسيم منصوري. لكن الانتقال شابه بعض القلق، إذ لوَّحَ النواب الأربعة بالاستقالة وعدم تولّي المهام، داعين إلى تعيين حاكم أصيل، وذلك خوفاً من الانعكاسات التي قد تظهر في السوق بعد مغادرة سلامة، بالإضافة إلى جملة من الأمور، من ضمنها علاقة المركزي بالدولة واضطرار القيادة الجديدة في المصرف للرضوخ للطلب السياسي في تمويل الدولة. (راجع المدن).
هدأت الأمور وتسلَّمَ النواب مهامهم تحت قيادة منصوري، لكن اسم سلامة لم يختفِ مع انتهاء ولايته في نهاية شهر تموز 2023. بل عادَ إلى الواجهة بصخب بعد الكشف عن مضمون تقرير التدقيق الجنائي الذي أعدّته شركة ألفاريز أند مارسال والذي امتنع وزير المالية عن كشف مضمونه فور تلقّيه، متذرّعاً أنه تقرير أوّلي وينتظر التدقيق النهائي. وتم الإفراج عن التقرير بعد أقل من أسبوعين على مغادرة سلامة مكتبه في المصرف المركزي بشكل نهائي. لتشكِّل مرحلة ما بعد سلامة، مرحلة انكشاف المزيد من الارتكابات. فأظهَرَ التقرير أن حساب رأس مال مصرف لبنان يحقق عجزاً، على عكس ما كان يروّج له سلامة طيلة سنوات. فأصول المصرف المركزي في العام 2015 حققت عجزاً بمعدّل 20.9 تريليون ليرة. وكذلك، بيَّن التقرير تبديد سلامة أموالاً استفاد منها هو وشقيقه رجا ومساعدته ماريان حوِّيك وعدد كبير من الأفراد والمؤسسات والمصارف. بالإضافة إلى كشف تحويلات مالية إلى الخارج مشكوك بها، ومبالغ وأرقام مضخّمة، ومستندات أخفيَت لعرقلة عملية التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان. (راجع المدن).
منصوري يدير أزمة مستعصية
في الربع الأخير من العام الجاري، وجد منصوري ترحيباً عربياً ودولياً لم يرقَ إلى مستوى تقديم المال للبنان كما كان يجري عادة، خصوصاً من المملكة العربية السعودية. ذلك أن مساعدة لبنان على الخروج من أزمته تكون بالإصلاحات لا بالمزيد من المال، وهو أمر حسمته الدول المانحة منذ العام 2018. لذلك، شدَّدَت الدول العربية، سيّما الخليجية منها، على إجراء الإصلاحات، وبرز ذلك في مؤتمر “الآفاق الاقتصادية العربية في ظل المتغيرات الدولية”، الذي عقد في الرياض، (راجع المدن)، وفي اجتماعات الدورة السابعة والأربعين لمجلس محافظي المصارف المركزية العربية والمؤسسات النقدية العربية، التي أقيمت في الجزائر العاصمة. (راجع المدن).
تتحضَّر رزنامة العام الجاري لقلب صفحاتها واستقبال العام 2024 على وقع استقرار سعر صرف الدولار عند عتبة الـ90 ألف ليرة. لكن في المضمون، لا شيء يوحي بأن العام 2024 سيكون أفضل مما سبق. فالإصلاحات التي طلبها صندوق النقد الدولي لم تنفَّذ كما هو مطلوب، وبين موازنة العامين 2023 و2024 المزيد من الضرائب والرسوم، ومشكلة تأمين الدولارات لسد حاجة إدارات ومؤسسات الدولة لا تزال قائمة. وهذا واقع رسمه صندوق النقد والبنك الدولي بخلاصةٍ برزت قبيل منتصف العام 2023، عمادها الأساسي أن الجهات الدولية غير غافلة عن أن الإصلاحات المطلوبة لا تتم بلا حزمة ترتيبات سياسية أساسية تبدأ بانتخاب رئيس للجمهورية وتعيين حاكم جديد لمصرف لبنان وإصلاح قضائي، والترتيبات لا تُنجَز إلاّ بتوافق سياسي بين لبنان والدول العربية والولايات المتحدة الأميركية. (راجع المدن).