لم يسجّل العام 2023 أي تطورات ملحوظة في القطاع المصرفي لناحية بدء عملية اصلاحه او هيكلته أو تحديد مصير 90 مليار دولار من الودائع المحتجزة ومصير الفجوة المالية الاجمالية في القطاع المالي عموماً، ومصرف لبنان ضمناً، البالغة أكثر من 72 مليار دولار!
بقيت المصارف «زومبي»، باستثناء بعض التعديلات الشكلية التي لا تعدّ اصلاحاً بل نوعاً من ترقيع جديد ومجتزأ تعتمده السلطة الحاكمة منذ اندلاع الازمة، على غرار تعديل سعر الصرف الرسمي في القطاع المصرفي من 8000 ليرة الى 15000 ليرة، ووقف الاقتطاعات التي كانت تفرضها مفاعيل التعميم 158 على المستفيدين منه من مودعين، من خلال إلغاء تسديد الـ400 دولار شهرياً بالليرة على سعر صرف الـ15 الف ليرة واقتصار التعميم على تسديد 400 دولار نقداً فقط مع بعض التعديلات الاخرى التي أُضيفت اليه.
اما أبرز ما شهده العام 2023 على الصعيد المصرفي فهو انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في 31 تموز وخروجه «بالطبل والزمر» من البنك المركزي وتولي نائبه الاول وسيم منصوري سدّة الحاكمية بالانابة، لتقتصر انجازات الاخير في النصف الثاني من 2023، على وقف طبع العملة المحلية لتمويل عجز الدولة ورفض المسّ بما تبقى من احتياطي العملات الاجنبية لمصرف لبنان (حوالى 9 مليارات دولار) لتسديد نفقات الدولة، ووقف العمل بمنصة صيرفة، آخر الادوات المصرفية التي كانت تنتهزها المصارف والمضاربون لتحقيق الارباح، لتتوقف معها كامل المضاربات على سعر الصرف في السوق، ويأخذ مصرف لبنان على عاتقه هدفاً وحيداً وهو تثبيت سعر الصرف من جديد، الامر الذي نجح فيه منصوري لغاية الآن رغم بعض التحديات الامنية والسياسية والمالية.
انطلق العام 2023 بسعر صرف عند 58300 ليرة مقابل الدولار في السوق الموازية واختتمه بـ89500 ليرة مسجّلا رقماً قياسياً عند حدود 143 الف ليرة في آذار. اما منصة صيرفة فقد انطلقت في بداية العام بسعر صرف عند 38 الف ليرة واختتمته بسعر مواز للسوق عند 89500 ليرة.
وتميزت سنة 2023 باستمرار هروب الحكومة ومجلس النواب ومصرف لبنان والمصارف من حقيقة الخسائر وكيفية توزيعها، تاركين المودعين حلقة ضعيفة يتلاعبون بها بالوعود وتأجيل الحلول وتمييع المواقف. اما تقرير التدقيق الجنائي فكأنه لم يكن… اذ سكت الجميع بعد ضجة مفتعلة حوله. وحتى تاريخه، لا محاسبة ولا مساءلة… مع تضييع المسؤولية عن جرائم مالية لا تعد ولا تحصى.
صيرفة: فروقات أسعار في مصلحة المتربحين
استقر سعر صرف الدولار على منصة صيرفة على 38000 ليرة طوال كانون الثاني فيما بلغ في السوق الموازية 58300 ليرة، وأقفل في نهاية شباط عند 45400 ليرة على صيرفة مقابل 88 الف ليرة في السوق الموازية. في آذار ارتفع سعر صرف صيرفة تدريجياً ليقفل الشهر عند 90 الف ليرة بينما بلغ في السوق الموازية 107500 ليرة. في نهاية نيسان تراجع سعر صيرفة الى 86500 ليرة وسعر الصرف في السوق الموازية الى 97 الف ليرة. واستقر في ايار عند 86300 على صيرفة وعند 94500 ليرة مقابل الدولار في السوق الموازية. وبقي عند 86200 ليرة على صيرفة في حزيران فيما تراجع في السوق الموازية الى 92600 ليرة. كما استقر في تموز عند 85500 ليرة على صيرفة لينخفض الى 89300 ليرة في السوق السوداء.
في آب، تم وقف العمل بمنصة صيرفة وتوقف مصرف لبنان عن بيع الدولارات عبرها، معلناً انه يعدّ الارضية اللازمة لانطلاق العمل بمنصة جديدة، «بلومبرغ»، اواخر العام 2023 إلا ان هذا الوعد لم يتحقق وتم تأجيله بذريعة التطورات الامنية والحرب الدائرة في المنطقة، الى العام 2024. بقي سعر صيرفة عند 85500 ليرة معتمداً فقط لتسديد بعض الرسوم كالاتصالات والكهرباء وغيرها ولتسديد رواتب واجور القطاع العام لغاية اواخر 2023، حيث أعاد مصرف لبنان منصة صيرفة إلى الواجهة في كانون الاول، عبر إعلانه رفع سعرها إلى 89500 ليرة، في خطوة قد تهدف الى توحيد أسعار الصرف.
تعاميم مصرف لبنان… حلول ترقيعية
في شباط 2023، بدأ اعتماد سعر صرف رسمي جديد في القطاع المصرفي عند 15 الف ليرة لتتم على اساسه كافة التعاملات المصرفية منها مفاعيل التعميم 151 اي السحوبات النقدية الشهرية بالليرة من حسابات اللولار التي اصبحت تسدد على سعر صرف الـ 15 الف ليرة بدلا من 8000 ليرة، وفقاً للسقوف المحددة، علماً ان التعويل هو على تحوّل تلك السحوبات الى سعر الصرف المحرر اي سعر السوق الموازية بعد اعتماده واقراره في الموازنة.
في تموز، ألغى مصرف لبنان من خلال التعميم 674، جزءاً من الـhaircut الذي كان مفروضاً على المستفيدين من مفاعيل التعميم 158، حيث الغى عملية تسديد مبلغ موازٍ للـ400 دولار التي يتقاضاها المودعون نقداً، بالليرة على سعر صرف الـ 15 الفاً، وأبقى على الـ400 دولار نقداً فقط شهرياً، فيما قلّص المبلغ الشهري الى 300 دولار للمستفيدين من التعميم 158 بعد 1 تموز 2023.
وفي تشرين الثاني، اصدر مصرف لبنان تعميماً وسيطاً رقم 682 ينصّ على توسيع شريحة المستفيدين من التعميم 158 لتشمل اصحاب الحسابات التي تم نقلها من مصرف الى آخر بعد تشرين الاول 2019، حيث تتم اعادة فتح حسابات لهم مجدداً في المصرف المحوّلة منه الاموال بقيمة 50 الف دولار بالحد الاقصى وذلك للاستفادة من مفاعيل التعميم 158 وسحب 300 دولار شهرياً. إلا ان التعميم 682 بقي لغاية اليوم حبراً على ورق بعدما رفضت مصارف تطبيقه وطعنت به بذريعة فقدانها للسيولة النقدية بالدولار اللازمة لتمويل كلفته.
ومن إنجازات حاكم مصرف لبنان بالانابة وسيم منصوري بالاضافة الى تثبيت سعر الصرف، نشر البيانات المالية لمصرف لبنان التي كشف أحدثها ان حجم موجوداته الخارجية السائلة بلغت 8542 مليون دولار في 15 آب 2023، مقابل مطلوبات بقيمة 1301 مليون دولار مع الاشارة الى ان القيمة السوقية لمحفظة سندات اليوروبوندز تبلغ 421 مليون دولار.
القطاع المصرفي: مزيد من الأرقام الدفترية
اما على صعيد المؤشرات المالية للقطاع المصرفي، فقد تقلّص صافي الموجودات الخارجية للقطاع المالي (مصرف لبنان والمصارف) من 3197.1 مليون دولار في اواخر 2022 الى 1460.1 مليون دولار في تشرين الثاني 2023 وفق احدث بيانات صادرة عن جمعية المصارف.
– زادت ودائع القطاع الخاص بالليرة لدى المصارف من 45789 مليار ليرة في كانون الثاني 2023 الى 50051 مليار ليرة في تشرين الثاني.
– تراجعت ودائع القطاع الخاص بالعملات الاجنبية لدى المصارف من 95,4 مليار دولار في كانون الثاني 2023 الى 91,3 مليار دولار في تشرين الثاني نتيجة مفاعيل التعميمين 151 و158 بالاضافة الى بعض عمليات حسم الشيكات وتسديد القروض.
– تراجعت التسليفات الممنوحة من المصارف للقطاع الخاص بالعملات الاجنبية من 9,8 مليارات في بداية 2023 الى 7,8 مليار دولار في نهاية تشرين الثاني منها مليار دولار لغير المقيمين، مع الاشارة الى ان مصرف لبنان فرض بموجب التعميم 656 الصادر بتاريخ 20 كانون الثاني ان يسدد المقترض غير المقيم دينه بالدولار النقدي ابتداء من الاول من شباط 2023.
– تراجعت قيمة النقد في التداول بالليرة من 69124 مليار ليرة في كانون الثاني 2023 الى 48131 مليار ليرة في تشرين الثاني 2023 في حين بلغ اجمالي حجم الكتلة النقدية بالليرة 55 تريليون دولار في كانون الاول.
– استقرت ودائع المصارف لدى المصارف المراسلة عند 4,2 مليارات في كانون الثاني 2023 وسجلت القيمة نفسها في تشرين الثاني.
– بلغت ودائع المصارف التجارية (بالليرة وبالعملات الاجنبية) لدى مصرف لبنان مقيّمة على اساس سعر الصرف الرسمي (1507 ليرات) 106,2 مليار دولار في كانون الثاني 2023 واصبحت قيمتها 83,7 مليار دولار (على اساس سعر صرف الـ15 الف ليرة) في تشرين الثاني.
– تراجعت حسابات رأس المال المقيّمة على سعر الصرف الرسمي (1507 ليرات) من 11,6 ملياراً في كانون الثاني 2023 الى 5 مليارات دولار في تشرين الثاني مقيّمة على اساس سعر الصرف الرسمي الجديد عند 15 الف ليرة.
– في نهاية 2022، تقلّص عدد فروع المصارف التجارية داخل لبنان الى 782 والى 737 فرعاً في تشرين الثاني، كما تراجع عدد العاملين في القطاع المصرفي من 16481 شخصاً في اوائل 2023 الى 15537 عاملاً في تشرين الثاني.
القوانين الإصلاحية: صفر مكعب
لم يشهد العام 2023 اقرار أيّ من القوانين الاصلاحية المتعلّقة بالقطاع المصرفي. وفي حين كان مشروع قانون الكابيتال كونترول الذي اقرّته لجنة المال على جدول أعمال جلسة مجلس النواب التشريعية في 14 كانون الاول، إلا انه لم يتم اقراره وتمت اعادته الى اللجان النيابية وقد أمهل رئيس المجلس نبيه بري شهرين لرئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي للعودة بمشروع قانون الكابيتال كونترول ضمن سلة متكاملة. وقد ظهر اواخر العام 2023 اقتراح قانون ثان لهيكلة المصارف بعنوان «إصلاح وضع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها» ولا يزال محطّ تجاذب بين الحكومة وجميعة المصارف التي تشنّ معركة لاسقاطه معتبرة ان المصارف مغيّبة عن عملية اعداد القوانين المتعلّقة بها والتي وفقا لها ستقضي نهائيا على المصارف. كما ان قانون اعادة التوازن المالي الذي يجب على اساسه توزيع خسائر القطاع المصرفي وتحديد المسؤوليات ومصير الودائع، لا يزال يدور في حلقة مفرغة في لجنة المال والموازنة ولم يبصر النور ولم يتم التوافق على صيغته بعد، علما ان هذا القانون يعتبر حجر الاساس للقوانين الاصلاحية الاخرى ولانطلاق أي خطة للتعافي.
التدقيق الجنائي: فضائح وهندسات ومخالفات بالجملة
في آب 2023، أفرج عن تقرير التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان الذي أعدّته شركة «ألفاريز أند مارسال» والذي أظهر معلومات وتلاعباً بالأرقام ومخالفات وتجاوزات كبيرة في عمليات البنك المركزي خلال 5 سنوات تمتد بين بداية العام 2015 ونهاية العام 2020، أبرزها العجز المحقق في رأس مال مصرف لبنان على عكس ما كان يروّج له سلامة طيلة سنوات. حيث اكد التقرير أن أصول البنك المركزي في العام 2015 حققت عجزاً بمعدّل 20.9 تريليون ليرة، إذ بلغت الأصول 104 تريليون ليرة في حين بلغت المطلوبات 124.9 تريليون ليرة. وارتفع العجز في العام 2020 إلى معدّل 73 تريليون ليرة. علماً أن المركزي حقق في العام 2015 فائضاً في العملات الأجنبية بقيمة 7.2 مليارات دولار، سرعان ما انقلبت في العام 2020 إلى عجز بقيمة 50.7 مليار دولار. كما كشف التقرير عن أموال كثيرة بدّدها سلامة تحت عناوين متعددة، استفاد منها هو وشقيقه رجا ومساعدته ماريان حوِّيك وعدد كبير من الأفراد والمؤسسات، فضلاً عن المصارف التي استفادت من هندسات مالية دفع مصرف لبنان كلفتها 115 تريليون ليرة. أما شركة «فوري» فحصلت على 333 مليون دولار، من بينها 111 مليون دولار تشكّك شركة ألفاريز في كامل شرعيتها. وكذلك، تضمَّن التقرير تلقّي حسابات تابعة لسلامة في سويسرا، أرصدة مالية بالعملات الأجنبية بلغت قيمتها 98.8 مليون دولار خلال فترة 6 سنوات، بمتوسّط تحويل يبلغ 16.5 مليون دولار سنوياً. وكشف عن لائحة بأسماء 23 شخصاً ومؤسسة وجمعية، استفادوا من دون أي حقّ من دعم مالي يفوق المئة الف دولار بين العام 2015 و2020، وعن توزيع مبلغ 111 مليوناً من قبل رياض سلامة على أشخاص مختلفين لم يتم ذكر أسمائهمم. وعن تلاعب سلامة بالوثائق ليظهر أن مصرف لبنان مؤسسة رابحة، وعن ارساله 40 مليون دولار لوزارة المالية زاعماً انها أرباح محققة.
بدعة جمعية المصارف: ربط نزاع مع الدولة
اختتم العام 2023، بمعركة بدأت تشنّها جمعية المصارف على مصرف لبنان وحاكمه السابق رياض سلامة الذي «غَشَّها» وفقا لها لتوظيف 80 مليار دولار من اموال مودعيها لديه، في حين رفع 11 مصرفاً مذكرة ربط نزاع الى وزارة المالية تطالب خلالها الدولة اللبنانية بتسديد ديونها والتزاماتها إلى مصرف لبنان لكي يتمكّن الأخير من تسديد التزاماته إلى المصارف اللبنانية، ولتتمكّن بدورها من اعادة أموال المودعين، محذرة من اللجوء الى القضاء الاداري لالزام الدولة بتسديد دينها إلى مصرف لبنان والبالغ حوالى 16 ملياراً و617 مليون دولار، وتسديد حوالى 51 ملياراً و302 مليون دولار لتغطية خسائر مصرف لبنان الظاهرة في ميزانيته لسنة 2020، وتغطية زيادة العجز في مصرف لبنان عن السنتين 2021 و2022، من خلال اتّباع طريقة الاحتساب التي اتبعتها ألفاريز أند مارسال في تحديد الخسائر حتى العام 2020.