لم يكن العام 2023 عاماً عادياً كباقي أعوام الانهيار التي مرّت على لبنان، بل كان استثنائياً لما فيه من إخفاقات. ففي العام المنتهي أقدم لبنان وبكل إصرار على إفشال المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. وشهد قرارات عشوائية بالغة الخطورة، انعكست سلباً على المجتمع والاقتصاد ككل. كما دوّن هذا العام رقماً تاريخياً لانهيار العملة الوطنية.
انهيار غير مسبوق لليرة
حلّق سعر صرف الدولار خلال الربع الأول من العام المنتهي 2023، فتجاوز 140 ألف ليرة لبنانية مسجّلاً رقماً قياسياً تاريخياً. لكن الازمة الحقيقية آنذاك تمثلت في غياب أي تطورات على مستوى المؤشرات الاقتصادية والمالية السلبية، والعوامل السياسية الضاغطة على العملة. فكان المحرّك الأساس لجنون الدولار. حينها “سيطرة المضاربون على السوق”، في ظل غياب كلّي لمؤسسات الدولة والمصارف والمصرف المركزي.
خلال شهر آذار الفائت فقدت الليرة اللبنانية غالبية قيمتها خلال أيام قليلة جداً، أما بالمقارنة مع بداية العام، فقد ارتفع سعر صرف الدولار مقابل الليرة بنحو 3 أضعاف، أي قرابة 300 في المئة. وهو معدل متسارع جداً لانهيار العملة.
تعطيل الاتفاق مع صندوق النقد
خلال العام 2023 أي بعد عام على إبرام لبنان اتفاقاً مبدئياً مع صندوق النقد الدولي، كخطوة أولى للخروج من أزمته الاقتصادية والمالية والنقدية، اتخذت السلطة السياسية اللبنانية خيار نسف الاتفاق والإطاحة بكل أمل بالحصول على برنامج إصلاحي من صندوق النقد.
وقد عملت السلطة جاهدة خلال العام 2023 على عرقلة البنود الإصلاحية المُتّفق عليها مع الصندوق، فلا تزال مسألة توزيع الخسائر موضع خلاف في البلد بين القطاع المصرفي وما يمثّل في السلطتين التشريعية والتنفيذية والقضائية، وبين جمهور المودعين. وباتت المواجهة علنية في المؤسسات الدستورية كما أمام المحاكم وفي الشوارع.
وتنسحب العراقيل على كافة البنود الإصلاحية. فالتدقيق بميزانية مصرف لبنان وتقييم وضع 14 مصرفاً لم ير النور حتى اللحظة. حتى البند اليتيم الذي تم إقراره في مجلس النواب وهو تعديل قانون السرية المصرفية، تبيّن أنه “مفخخ” بما يضمن عرقلة إعادة هيكلة المصارف ومنع التدقيق في ميزانياتها.
الدولار الجمركي ودولرة الأسعار
تم خلال العام 2023 تمرير قرار رفع الدولار الجمركي من دون أي تخطيط أو دراسة مسبقة، فارتفع إلى 45000 ليرة في نهاية شهر شباط الفائت، ليستمر بمساره الصعودي ويرتفع إلى 60000 ليرة، ثم تم ربطه بدولار منصة صيرفة، ما انعكس زيادة في مستوى التهرب الضريبي ومزيداً من الضغوط المعيشية على المواطنين، وزيادة في مستويات تضخم الأسعار بشكل مفرط.
وما زاد من حدة الضغوط المعيشية في العام نفسه قرار وزير الإقتصاد القاضي بدولرة أسعار الإستهلاك، ما دفع بالتجار الى مزيد من الجشع وتحقيق أرباح على حساب المستهلكين، كما أثار قرار دولرة الأسعار انتقادات واسعة من مواطنين وخبراء. إلا أنه بقي سارياً بقناعة من وزير الإقتصاد بأن القرار ذو جدوى اقتصادية.
بين المودعين والمصارف
استمرت المصارف في العام 2023 في ابتداع الحيل والأساليب التشبيحية لتحقيق أرباح من المودعين، عبر فرض عمولات ورسوم خيالية على معاملاتهم ومختلف تعاملاتهم المالية. غير أن المواجهة مع المصارف لم تكن بأحسن أحوالها في العام المنتهي فقد وقعت خلافات بين تجمعات وجمعيات المودعين. وباتوا عبارة عن فرق مختلفة فيما بينها، معظمها يقوم بالتنسيق الحثيث مع المصارف والتحدث باسمها.
أما على صعيد الودائع فقد عدّل مصرف لبنان التعميم 158 المتعلّق بالإجراءات الاستثنائية للتسديد التدريجي للودائع بالعملات الأجنبية. فالتعميم 158 كان يتيح للعملاء سحب 800 دولار فقط من حساباتهم شهرياً، منها 400 دولار فريش و400 دولار نصفها بالليرة اللبنانية نقداً على سعر صرف 15 ألف ليرة ونصفها الآخر بالليرة أيضاً، يتم استخدامها عبر البطاقة المصرفية في نطاق البيع حصراً. وبموجب التعديل تم تعليق السحب بالليرة اللبنانية على أساس سعر صرف 15 ألف ليرة. بمعنى آخر تم وضع حد للإجحاف اللاحق بالودائع وباتت السحوبات بالدولار حصراً وإن بقيمة 300 دولار فقط شهرياً.
منصوري والمنصة
مطلع شهر آب من العام 2023 تسلّم النائب الأول لحاكم مصرف لبنان وسيم منصوري مهام الحاكم بالإنابة، وقام فور استلامة بوقف إقراض الدولة بالدولار لوضع حد لاستنزاف احتياطات مصرف لبنان الأجنبية. كما قام بوقف العمل بمنصة صيرفة، على أن يقوم بإطلاق منصة بلومبرغ لتداول العملات والأسهم. وهو ما لم يحصل حتى اليوم أي بعد مرور 5 أشهر على تسلمه مهامه.
مجرّد أمل بالغاز
عام 2023 وبعد استكمال أنشطة حفر بئر الاستكشاف قانا في موقع الحفر في الرقعة رقم 9 في المياه البحرية اللبنانية من قبل المشغل شركة توتال، وبعد استكمال جمع البيانات والعينات الناجمة عن أنشطة الحفر تبيّن أنه لم يتم العثور على مكامن غاز، إنما على بقايا غاز. وهو ما يُبقي على الآمال باحتمال وجود مكامن في آبار أخرى. بمعنى آخر، لم يتم العثور على الغاز أنما على آثار تبعث الأمل بوجوده في مكان ما.
بين صيرفة وهيئة الأسواق المالية
وقد أبى العام 2023 أن ينتهي قبل أن يسجّل حدثاً تاريخياً سلبياً يُضاف إلى سلة الاحداث التي تبعث على احتقار السلطة السياسية والنقدية بالبلد. فقد قرر مصرف لبنان والحكومة وإن بشكل غير مُعلن تعطيل هيئة الأسواق المالية تماماً، من خلال وقف تمويلها بالكامل، من دون التدقيق بكيفية تمويلها في خلال عهد الحاكم السابق رياض سلامة، ولا التدقيق بصحة هيكلتها المالية التي تدور حولها العديد من علامات الإستفهام.
على مستوى منصة صيرفة التي تم وقف العمل بها منذ أشهر إلا أنها كانت تطبق فقط على رواتب موظفي القطاع العام، فقد قرر مصرف لبنان في الأيام الأخيرة من العام رفع سعر دولار صيرفة من 85500 ليرة الى 89500 ليرة في سبيل توحيد أسعار الصرف، في وقت لاحق، ما انعكس مزيداً من التآكل في رواتب موظفي القطاع العام.