كما بات معلومًا، لم يُجدد مصرف لبنان في نهاية العام الماضي التعميم 151، الذي يُعنى بالودائع التي دخلت الحسابات المصرفيّة بعد تشرين الأوّل 2019، والتي كان يتم سدادها بحسب سعر صرف 15 ألف ليرة للدولار. المعلومات المتوفّرة، تشير إلى أنّ المصرف المركزي يتجه قبل نهاية الشهر إلى إقرار آليّة جديدة وبديلة، تسمح للمودع بسحب 150 دولاراً أميركياً نقدًا من حسابه، بدل السحب بالليرة على أساس سعر الصرف الرسمي المنخفض. وفي الوقت نفسه، يتجه المصرف المركزي خلال الفترة المقبلة إلى اعتماد سعر الصرف الفعلي الراهن، بدل الـ15 ألف ليرة مقابل الدولار، للتصريح عن ميزانيّات المصارف التجاريّة ومصرف لبنان. وهذا يندرج طبعًا ضمن مسار توحيد أسعار الصرف، المتفق عليه مع صندوق النقد.
هكذا، تأتي الخطوتان ضمن إطار التخلّص من أسعار الصرف المتعدّدة، المجحفة بحق المودعين، والمؤاتية لمصالح النخبة المصرفيّة. غير أنّ حسابات حقل حاكم مصرف لبنان بالإنابة، وسيم منصوري، لم تطابق حسابات بيدر جمعيّة المصارف. فحتّى هذه اللحظة، تقاتل المصارف لمحاولة تأجيل كل ما يرتبط بهذا المسار، سواء بما يخص بديل التعميم 151، أو في ما يرتبط بسعر الصرف المعتمد للتصريح عن الميزانيّات. وخلال الأيّام الماضية، سرّبت أوساط القطاع المصرفي تحذيرات بالويل والثبور وعظائم الأمور، إذا أقدم مصرف لبنان بالفعل على إحدى الخطوتين. بل حتّى إنّ بعض “الخبراء” المحسوبين على القطاع (أو الموظّفين في مؤسساته) حذّروا من “إفلاس القطاع وضياع أموال المودعين”(؟)، إذا لم يأخذ المصرف المركزي رأي جمعيّة المصارف بالاعتبار.
المصارف وبديل التعميم 151
حتّى اللحظة الراهنة، ترفض المصارف بشكل قاطع استبدال التعميم 151 بآليّة الدفعات الشهريّة النقديّة بالدولار، ولو تحت سقف متدنّ لا يتجاوز الـ150 دولاراً أميركياً للحساب الواحد. حجّة المصارف هنا هي ببساطة فقدانها للسيولة، وعدم قدرتها على تمويل هذه السحوبات. ولتأكيد ذلك، سرّبت أوساط القطاع و”مصادره” نبوءات تترقّب تعثّر المصارف وتصفيتها، إذا ما أقدم مصرف لبنان على إقرار هذه الآليّة.
وعلى أي حال، لم تخرج هذه النبوءات الغريبة عن نطاق التهويل غير العلمي. إذ لا يوجد حتّى هذه اللحظة تدقيق مصرفي جدّي يبيّن وضعيّة الوضعيّة الماليّة لكل مصرف على حدة، فيما تختلف معدلات الملاءة والسيولة الراهنة بين المصارف التجاريّة. وهذا ما يطرح طبعًا السؤال عن الأرقام والمعطيات التي تستند إليها هذه النبوءات المجهولة السند.
العديد من المصادر المصرفيّة المتابعة لهذا الملف، تؤكّد أن هواجس المصارف اللبنانيّة لا ترتبط فعلًا بقدرتها على سداد هذه الدفعات. إذ أن مصرف لبنان عرض على المصارف التجاريّة تغطية نصف الدفعات من الاحتياطي الموجود لديه، في حين أن نطاق الآليّة الجديدة لن يشمل جميع الحسابات، بل فقط الحسابات غير المشمولة بالتعميم 158 (أي الحسابات المشمولة بالتعميم 151، والتي لا تحصل اليوم على دفعات نقديّة بالدولار النقدي). بهذا المعنى، ما هو مطلوب من المصارف ليس سوى تسديد 75$ دولار شهريًّا (نصف دفعة الـ150$)، ولنسبة محددة من إجمالي الحسابات المصرفيّة.
مما تخشى المصارف إذًا؟ ببساطة، تخشى المصارف اليوم من تكريس أمر واقع جديد، بما يعطي المستفيدين من التعميم 151 حقًا مكتسبًا بدفعات نقديّة ثابتة بالدولار. وعند منح هذا الحق، لن يكون بالإمكان التراجع عنه بسهولة لاحقًا. بلغة أوضح وأكثر صراحة، إذا تم إعطاء المستفيدين من التعميم 151 الحق بالدولار النقدي اليوم، ولو بدفعات محدودة، لن يكون بالإمكان إعادة تصنيفهم كأصحاب حسابات “غير مؤهّلة” في أي مشروع مقبل لإعادة هيكلة القطاع، ولن يكون بالإمكان تسديد ودائعهم بالليرة وبأسعار صرف منخفضة، كما هو مطروح اليوم. وبذلك، ستكون المصارف مضطرّة لاحترام إلتزاماتها لصالح هؤلاء المودعين، بوصفهم أصحاب ودائع دولاريّة، تمامًا كحال المستفيدين من التعميم 158.
على هذا النحو، ما تقاومه المصارف الآن ليس فكرة الدفعات الشهريّة، التي لن تؤثّر كثيرًا على سيولتها أو ملاءتها. ما تقاومه المصارف هو حق أصحاب الحسابات “غير المؤهّلة” بالدولار النقدي، أو بقيمة ودائعهم كما هي. ما تريده المصارف في المقابل، هو تطبيع فكرة “ودائع الدرجة الثانية”، بحسب الآليّة التي نصّ عنها التعميم 151، أي تلك الودائع التي يتم سدادها بسعر صرف منخفض. وهذا تحديدًا ما حاولت آخر مسودّات مشروع قانون استعادة انتظام المالي فرضه، بمفهوم الودائع غير المؤهّلة.
وبهذا الشكل، باتت مواجهة المصارف مع منصوري ذات طابع استراتيجي، وبما يتخطّى حدود النزاع حول حجم أو سقف الدفعات الشهريّة.
المصارف وسعر صرف الميزانيّات
الخلاف الآخر بين منصوري والمصارف، يرتبط بمسألة توحيد سعر الصرف المعتمد لإعداد الميزانيّات المصرفيّة والتصريح عنها. فالمصارف تُدرك أن اعتماد سعر صرف واقعي مرتفع لإعداد الميزانيّات، سيكشف الفارق بين إلتزاماتها الدولار من جهة، وموجوداتها بالدولار من جهة أخرى، وهذا ما يُشار إليه بعبارة “مركز القطع السلبي”. مع الإشارة إلى أنّ هذا الفارق مختلف عن مركز القطع السلبي الموجود في مصرف لبنان، والمسؤول عن الجزء الأكبر من خسائر القطاع المصرفي، التي سببت أزمة السيولة الراهنة.
وفي الوقت نفسه، تُدرك المصارف أن اعتماد سعر الصرف المرتفع في الميزانيّات سيسهم في المزيد من الانخفاض في القيمة الدفتريّة لحقوق أصحاب الأسهم، والتي تمّ تقويم جزء كبير منها بالليرة اللبنانيّة. وبهذا الشكل، ستنخفض قدرة الرساميل، أي حقوق أصحاب الأسهم، على امتصاص الخسائر الموجودة في الميزانيّات، ما سيفرض بديهيًا المسارعة إلى إعادة الرسملة، أي إلى إدخال مساهمين جدد. وبطبيعة الحال، لن تكون إعادة الرسملة خيارًا متاحًا في قطاع متعثّر، كما هو الوضع اليوم، ما سيجبر المصارف على الدخول في عمليّة إعادة الهيكلة الشاملة. وهذا كابوس المصارف اللبنانيّة.
إذًا، ما تقوم به المصارف على مستوى عرقلة مسار توحيد سعر الصرف، بات أبعد من النقاش البنّاء حول توقيت كل خطوة أو طريقة تطبيقها. فالمصارف، لا تملك المصلحة في هذا المسار منذ الأساس، وهي لا تريد دخوله خلال المرحلة الراهنة، لأسباب استراتيجيّة تُعنى بمصالحها ومصالح المساهمين فيها. باختصار، إلغاء تعدد أسعار صرف السحوبات سيفرض احترام الإلتزامات للمودعين في المستقبل، وإلغاء تعدد أسعار صرف الميزانيّات سيفرض تآكل الرساميل. وهذا ممنوع في قاموس المصارف اللبنانيّة.