أقر المجّلس النيابي يوم الجمعة الماضي مشروع موازنة العام 2024 بالصيغة التي عدّلتها «لجنة المال والموازنة» ، بعد سبع ساعات من النقاشات بين النواب. وعلى الرغم من أن هذه الصيغة هي أفضل من الصيغة التي تقدّمت بها حكومة تصريف الاعمال ، إلا أنها تبقى بعيدة عن مستوى التحدّيات التي تواجه المالية العامّة بالدرجة الأولى، والإقتصاد بالدرجة الثانية، والنقد بالدرجة الثالثة.
التحدّي الأكبر للحكومة هو على صعيد الإلتزام بالأرقام التي وردت في قانون موازنة العام 2024 ، إن من ناحية الإيرادات أو من ناحية النفقات. فالكلّ يعلم أن الإيرادات تواجه مُشكلتين أساسيتين: الأولى تتعلّق بتوسّع إقتصاد الكاش على حساب الإقتصاد الرسمي، مما يعني فقدان قسم لا يُستهان به من الإيرادات. والثانية أن القسم الأكبر من هذه الإيرادات هي بالعملة اللبنانية (حتى ولو كانت على سعر السوق)، وبالتالي لا مداخيل بالعملة الصعبة كافية لتغطية نفقات الدولة بالعملة الصعبة.
أمّا على صعيد النفقات، فالمساهمات في أجور القطاع العام ستجعل الحكومة تستنزف إحتياطي الموازنة، قبل البدء بالصرف بإعتمادات من خارج الموازنة، بالإضافة إلى التوقّعات بإرتفاع الكلفة التشغيلية الناتجة عن إرتفاع أسعار النفط عالميًا، وهو ما لم يؤخّذ بعين الإعتبار في الموازنة. هذا الأمر سيؤدّي إمّا إلى زيادة الإنفاق وبالتالي زيادة العجز، وإمّا إلى تراجع في الخدمات العامّة.
وبمحاكاة حسابية بين تراجع الإيرادات وزيادة النفقات للأسباب الآنفة الذكر (من دون سيناريو عدوان «إسرائيلي» واسع على لبنان)، هناك إحتمال أن يصلّ العجز في الموازنة إلى أكثر من 40 تريليون ليرة في نهاية هذا العام ،على عكس ما ورد فيها من أن العجز هو صفر.
التحدّي الثاني لحكومة تصريف الاعمال هو الأخذ بعين الإعتبار ما لم تأخذه في موازنة العام 2024 ، عنيت بذلك الدين العام والكهرباء. فعلى صعيد ملفّ الكهرباء، لم يتمّ تسجيل مُستحقات الدولة العراقية في موازنة العام 2024، بل يتمّ تسجيلها في حسابات مصرف لبنان، وكأنها عملية تمويل مموّهة. وبالتالي من الضروري إصلاح هذا الملف عبر تحرير بالكامل وترك القطاع الخاص من خلال الشراكة، يقوم بمهام الإنتاج والنقل والتوزيع، مع لعب الهيئة الرقابية دورًا أساسيًا في الرقابة على التلزيم والتنفيذ.
أمّا على صعيد ملف الدين العام، فقد تعاطت موازنة العام 2024 مع الدين العام وكأنه غير موجود، مع العلم أنه وبحسب تقرير «بنك أوف أميركي – ميريل لنش» بتاريخ تشرين الثاني 2019، ان 85% من هذا الدين هو داخلي، وبالتالي من أموال المودعين. والتعاطي مع هذا الدين وكأنه غير موجود سيضرب القطاع المصرفي ومن خلفه الودائع، ولن يكون بمقدور الحكومة مكافحة الإقتصاد غير الرسمي وتحفيز الإقتصاد الرسمي، بحكم غياب القطاع المصرفي، وعدم قدرة الحكومة على تعقّب إقتصاد الكاش، ناهيك عن عملية التفقير التي ستطال (صغار) المودعين.
والتحدّي الثالث هو إنهاء قطوعات الحساب عن الأعوام السابقة، فرئيس حكومة تصريف الاعمال صرّح خلال كلمته في المجلس النيابي، أن الحكومة أرسلت إلى المجلس قطوعات الحساب حتى العام 2019 ، وبالتالي هناك قطوعات حساب الأعوام 2020 إلى 2023 الواجب إنهائها. والأهم هو طرح تقرير ديوان المحاسبة على الرأي العام لمعرفة أين تم صرف الدين العام، والبالغ أكثر من 96 مليار دولار أميركي.
التحدّي الرابع بالنسبة للحكومة هو طرح سلّة مشاريع قوانين تشمل بالتدرّج:
إعادة هيكلة الدين العام، وتتضمّن إعادة المُستحقات لأصحابها ضمن قدرة الدوّلة على سدّ ديونها، ومع إحترام قيود الملاءة الزمنية للمالية العامّة.
إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وتتضمّن إعادة الثقة إلى القطاع من خلال تدعيم رأسماله وسحب الرخص من المصارف، التي لا قدرة لها على الإستمرار.
الكابيتال كونترول بما يخدم الخطّة العامة للحكومة وليس الشعبوية التي شهدناها في المرحلة الماضية.
إعادة هيكلة القطاع العام من باب الشراكة مع القطاع الخاص ومن دون خصخصة أصول الدولة، نظرًا إلى مستوى الفساد المُرتفع.
وضع خطّة تنفيذية لمكافحة الفساد عملًا بالقوانين المرعية الإجراء، وتتضمّن مكافحة التهريب، مكافحة التهرّب الضريبي، مكننة كل إدارات ومؤسسات الدولة اللبنانية، بالإضافة إلى إقرار قانون إستقلالية القضاء وتدعيم رقابة الجهاز القضائي.
وضع خطّة واضحة المعالم لجذب الإستثمارات سواء في البنى التحتية (المرافئ، والمطارات، والطرقات، وأسواق لبيع المنتوجات الزراعية، والإنترنت، مناطق صناعية…)، أو في القطاعات الإقتصادية المُختلفة (الزراعة، الصناعة، التكنولوجيا…)، أو في القطاع الصحّي…
يبقى القول أن كل ما ذكرناه أعلاه يحتاج بدون أدنى شكّ لإعادة تكوين السلطة التنفيذية بشقّيها (رئيس الجمهورية وحكومة أصيلة) بحكم محدودية صلاحيات الحكومة الحالية (حكومة تصريف أعمال) في ظل شغور منصب رئيس الجمهورية، بالإضافة إلى رغبة حقيقية من قبل القوى السياسية على التعاون لإيجاد الحلول للخروج من الواقع الذي يعيشه لبنان. وبالتالي فإن الإتكال على ثلاثية «محو الدين العام – إنتظار مداخيل الغاز – إنتظار مداخيل القنّب» من دون القيام بأية إصلاحات جذرية هو أمر كارثي، وينمّ إمّا عن عدم معرفة أو تواطئ ضد الشعب اللبناني!
وإلى من يعتقد أن موازنة عام 2024 كما أُقرّت كافية لضمان إستمرارية الكيان اللبناني، نقول أن عليه أن يأخذ بعين الإعتبار ثلاثة أمور قد تُطيح بلبنان وبكيانه:
– أولًا : الشق المالي، حيث أن إيرادات الدولة بالعملة الصعبة ضئيلة ولا يُمكنها تغطية النفقات بالعملة الصعبة. وبالتالي، أي تحويل لليرات إلى دولار سيقضي على الليرة ويُفقّر الشعب. أيضًا يجب الأخذ بعين الإعتبار تنامي إقتصاد الكاش مع دولارات في السوق لا يُمكن تبرير مصدرها، وهو ما يضع لبنان أمام مُشكلة مع المجتمع الدولي.
– ثانيًا : أي هزّة إقليمية أو حرب، ستضع لبنان في وضع أسوأ من وضع غزّة، خصوصًا أن الرسائل الفرنسية والعربية كانت واضحة أن المُجتمع الدولي والعربي لن يدعم لبنان كما فعل بُعيد عدوان تموز 2006.
– ثالثًا : ظاهرة الهجرة الشبابية والتي تتنامى بشكلٍ مُقلق إقتصاديًا وديموغرافيًا، إذ هناك جيل سيختفى من سوق العمالة في الأعوام القادمة، وسيؤدّي إلى تغيير ديموغرافي حتمي (كما يحصل في الدول الأوروبية)، مع إرتفاع الطلب على اليد العاملة الأجنبية لتلبية حاجة الإقتصاد.
من كل ما تقدّم، نرى أن الوقت يلعب ضدّ لبنان، وعلى مسؤوليه أن يتحرّكوا سريعًا لإيجاد المخارج السياسية التي تخدم مشروع النهوض الإقتصادي قبل فوات الآوان. وللتذكير، فإنه وبعد إنتهاء الحرب في غزّة، من المتوقّع أن تنعم «إسرائيل» بحجم هائل من الإستثمارات الأميركية والفرنسية والبريطانية والألمانية… وهو ما سيحرم لبنان من الكثير من هذه الإستثمارات، التي ستُقصيه عن الخارطة الإقتصادية للشرق الأوسط.