الموازنة ركيزة قانون المحاسبة العمومية ودورها محوري في السياسات العامة

في إطار العمل على تحديث قانون المحاسبة العمومية يَبرزُ موضوع الموازنة كَرُكْنٍ أساسي من هذا القانون، وعامل رئيسي في رسم وتوجيه وتنفيذ سياسات المالية العامة. فهل المنهجية الحالية لإعداد الموازنة في لبنان تسمح لها بأداء دورها المحوري بهذا الهدف؟

الموازنة في الشقّ التشريعي

لمجلس النواب عقدان في السنة: الأول من 15 آذار إلى 31 أيّار، مُخَصَّص للسياسات العامة، والثاني من 15 تشرين الأول إلى 31 كانون الأول مُخَصَّص رئيسيّاً لمناقشة مشروع الموازنة وإصدار قانونها (المادة 32 من الدستور). وتنص المادة 82 من الدستور على ان تُحيل الحكومةُ إلى مجلسِ النواب (في سنة 2023 على سبيل المثال) مشروع موازنة السنة القادمة (2024) في بداية العقد الثاني لمجلس النواب، أي قبل 15 تشرين الأول، 2023. وعلى مشروع الموازنة هذا أن يكون مصحوباً (المادة 87 من الدستور) ببيان الحسابات، أو ما يُسَمّى «قطع الحساب» و»حساب المُهِمَّة»، لتوثيق نفقات وإيرادات السنة المالية السابقة المُكْتَمِلَة عمليّاتها، أي 2022. ذلك يسمح لمجلس النواب بإصدار قانون الموازنة لِنشرِه في الجريدة الرسمية قبل 31 كانون الأول 2023، ما يُمكِّن الحكومة من الجباية وعقد النفقات مع بداية كانون الثاني 2024.

في واقع الممارسات لم تمتثل الدولة لنَصِّ الدستور وإملاءاته، وذلك لفترة طويلة من الزمن إذ، فعلياً لم تَصدُر قوانينُ موازنة ما بين 2006 و 2016، مع بداية فترة اضطرابات سياسية لم يَعْقِد فيها البرلمانُ جلسات. إنما الحق يُقال إن وزارة المالية واظبت عبر هذه السنوات على إعداد مشاريع الموازنات التي أقرَّها مجلس الوزراء وأحالها، وإن كان خارج المواعيد الدستورية، إلى البرلمان الذي لم يَبتُّ فيها. يعود آخر بيان للحسابات المقدمة من الحكومة للبرلمان إلى العام 2003.

أداة فاعلة… ولكن إن إقرارَ مشروع قانون الموازنة في مجلس الوزراء وتحويله لمجلس النواب لإصداره بقانون ضمن المهل الدستورية هو من أهم مسؤوليات هذَيْن المجلسَيْن، إن لم يكن الأهم. فبالإضافة لبعدها المزدوج من الناحية المحاسبية والائتمانية، ودورها في إدارة المال العام وتحسين التصرّف به، تُشكّل الموازنة أداةً رئيسية وفاعلة تُمَكِّن الحكومةَ من التأثير على الخيارات الاقتصادية الرئيسية في البلاد، ليس فقط للسنة المالية الجارية، بل على المدى المتوسط عبر تجسيد التوجُّهات الاقتصادية والاجتماعية والمالية الأساسية للحكومة، وخاصة في لبنان حيث جرت العادة على أن تَرِدْ مجملُ التغييرات الضريبية في سياق الموازنات العامة، وليس بقوانين مستقلّة. لِذا فالطرح الذي يمنع حكومة تصريف أعمال- أي مستقيلة، ودون صلاحية إقرار مشاريع القوانين- من بَتِّ مشروع الموازنة وتحويله إلى مجلس النواب، يشكِّل تفسيراً ضيّقاً لمفهوم الدستور نظراً لأهمية الموازنة في تسيير المرفق العام.

الواقع في لبنان

في واقعِ لبنان، تفتقر منهجية الموازنة إلى سمةٍ أساسيةٍ من مبادئ الممارسة الجيدة، إذ هي لا تَعْكس الرؤى الاقتصادية للحكومة. فنادراً ما أثارت مشاريع الموازنة التمحيصَ الموضوعي المطلوب لأن فلسفَةَ ممارسة السلطة في لبنان أدّت إلى تمحور النقاشات حول تخصيص الاعتمادات لمشاريع أو مناطقَ معينة يُفضّلها، إذ يستفيد منها، هذا الطرف أو ذاك، دون التطرّق إلى ملاءمة التغييرات الضريبية المطروحة لواقع الاقتصاد.

ضعف وخلل رغم بعض التحسينات التي طالت إعداد الموازنة- منها محاولة توسيع شموليتها لعددٍ من مؤسسات الدولة، إضافةً للوزارات- لا تزال هناك أوجه ضعف وخلل في إعداد الموازنة، خاصة في ما يتعلّق بنوعية الإنفاق وبنوده، إذ هو لم يُوفِّر الحصةَ الكافيةَ للاستثمار في المشاريع الإنشائية من طاقة ونقل ومياه وصرف صحّي، التي أُهمِلت لصالح النفقات الجارية، أي الأُجور والتحويلات والدعم الشامل لكل فئات المجتمع، ناهيك عن كلفة الفوائد على الدين العام. فلم يتعدّ الإنفاقُ الاستثماري عبر العقدَيْن والنصف المنصرمَيْن عشرةَ بالمئة من النفقات العامة، ما كان يوازي ثلاثة بالمئة من الناتج المحلي مقارنةً بما بين معدل سبعة إلى عشرة بالمئة للدول الناشئة.

العجز والدين العام فما هي مكامن الضعف في إعداد وتنفيذ الموازنة في لبنان وإمكانية مقاربتها ومعالجتها في إطار تحديث قانون المحاسبة العمومية؟ إن مُعطيات وهشاشة المالية العامة تَفْرِض إعداد الموازنة انطلاقاً من معيارٍ أساسي ينبغي أن ُيشَكِّل مرساة السياسة المالية، ويتمثل في الحد من عجزِ الخزينة وتوأمه، الدين العام الذي تنامى دون هوادة عبر السنين، فكان سبباً فاعلاً في اندلاع الأزمة المالية. لذا، على الموازنة، بادئ ذي بدء، أن تُحدِّد مستوى العجز كنسبةٍ مئوية من الناتج المحلي. (لسبيل المقارنة، حُدِّدَتْ هذه النسبة في معاهدة “ماستريخت” لدول منطقة اليورو بـ 3%، على الّا يتعدّى حجم الدين العام 60% من الناتج المحلي.) عندها، يشكِّل مجموع العجز الذي اعتمدته الموازنة إضافةً إلى الإيرادات المتوقعة، السقفَ الأعلى للنفقات المتاحة في الموازنة. فلن تُمَوّل أيّةُ نفقات خارج هذا السقف إلاّ عبر إيرادات جديدة، وليس من خلال اتِّساعِ العجز كما كان مألوفاً وبيِّناً في موازنات لبنان عبر السنين.

حل وسطي وتحكيم انتهازي

إن الموازنةَ هي حلٌ وسطي نتيجة تسويات بين مطالب مختلف الوزارات والمناطق، واحتياجات شَتّى القطاعات ونشاطات الأمة، من الخدمات الاجتماعية إلى البنى التحتية والتربية والصحة والأمن، وهي قيود حقيقية تُقَلِّص إلى درجةٍ ما من المرونة والفعالية الاقتصادية في تخصيص الأموال العامة. رغم ذلك، إن تخصيصَ الإنفاق يجب أن يستند ما أمكن إلى معايير موضوعية، ويَحِدّ من النفقات الجارية التي، في لبنان، خرجت عن السيطرة بسبب النمو الجامح للتوظيف غير المنتج نتيجة حشد الزبائن في القطاع العام- ونظام تقاعد مضنٍ للخزينة- في ظلِّ غياب قوانين موازنة وتبيان الحسابات والرقابة والمُساءلة النيابية على فترات طوال. وعليه، من الأساسي أن تأخذ الموازنة في الاعتبار الاحتياجات التمويلية للنفقات الاجتماعية للفئات الفقيرة ولقطاعات البنى التحتية المتداعية وقد غدت دون الطاقة الكافية لتلبية حاجات المواطن، ولمواكبة النشاط الاقتصادي ما يشكل عقبة رئيسية أمام النمو. لذا، من الحَيَوي تعزيز الإنفاق الاستثماري وإدماجه في خطة إنمائية تعيد تأهيل المرافق الأساسية وتحدد الأولويات وتخصص الأموال العامة على أساس معايير شَفّافة وليس نتيجة تحكيم انتهازي بين الأطراف المُهَيْمِنة، تستجيبُ إضافةً لمفهوم مُجْتَزأ «للإنماء المتوازن».

المؤسسات العامة إضافةً، وتبعاً للمبادئ الصحيحة المتّبعة دولياً، والتي من الضروري أن يلحظها تعديل قانون المحاسبة العمومية، يجب الضمان أن الموازنةَ هي شاملة من حيث الإيرادات والنفقات، وأنها تغطي القطاع العام بمجمله، وليس عمليات الخزينة حصراً (أي مختلف الوزارات) ولا تستبعد الصناديقَ والمجالسَ والهيئات وغيرها من المؤسسات العامة. ففي بعض الأحيان، تُحْجِم الحكومات عن تضمين موازنتها حسابات بعض المؤسسات العامة، خاصة المتعثرة منها، خوفاً من إظهار الحجم الحقيقي للعجز. أما القول، في هذا السياق، أن هناك حاجة لبعض المؤسسات العامة إلى المرونة المالية والحرية في التصرف، لا يمكن أن يكون ذريعة لعدم إدخالها في الموازنة وإخضاعها إلى رقابة السلطة التشريعية، بغض النظر عن مهمة هذه المؤسسات أو مصادر التمويل التي لديها، وإن لم تكن من الخزينة، كقروض المنظمات الدولية مثلاً. كما تتطلب معايير المحاسبة العمومية السليمة تسجيل النفقات والإيرادات بشكل منفصل كُلّ بقيمتها الإجمالية، وليس بالقيمة الصافية (أي بعد طَرْحِ النفقات من الإيرادات) ما يسمح بتقييم أداء مختلف مرافق الدولة وكفاءتها في إدارة شؤونها.

تكاليف البنك المركزي كما أن أي التزام من جانب القطاع العام الذي قد يؤدي إلى إنفاق في المستقبل ومنها الضمانات، يجب أن يُدْرَج في الموازنة سواء كان ذا طابعٍ ملموس أو شبه مالي. في هذا السياق مثلاً، إن دعم أسعار الفائدة عبر المصرف المركزي لأنشطة ترغب الحكومة تحفيزها يجب أن يظهر كنفقات في الموازنة. ذلك يسري أيضاً على التكاليف المرتبطة بإعادة هيكلة المصارف أو دمجها من قبل البنك المركزي، كما على «الهندسات المالية» التي ابتكرها، أياً كان وقعها، ذلك أن أيَّة تكاليف يَتَحَمّلها البنكُ المركزي تُقَلِّص من أرباحِه التي تبعاً لقانون النقد والتسليف يعود الجزء الأكبر منها للخزينة.

تعديلات خارج السياق في لبنان جرت العادة أن تُقْحَم الموازناتُ السنوية بوابل من التعديلات الضريبية خارج أي سياق مدروسٍ وشاملٍ للإصلاح الضريبي، وهي باختصار، لا هدف لها سوى تغذية إيرادات الخزينة. فالخطر أنه يمكن في غضونِ سنواتٍ قليلة عبر هذه الممارسة التراكمية، تعديل النظام الضريبي بصورة جذرية دون أن يكون ذلك هو الهدف المنشود، أو دون أن يكون أحدٌ على بيِّنة من هذا التغيير. كما أنه غالباً ما تُقَرُّ الاجراءاتُ الضريبية المحشورة بالموازنة دون اعتبارٍ لوقعها على الاقتصاد الوطني من حيث الاستثمار، والاستهلاك، والادِّخار، والعمالة، والإنتاجية، والتصدير، ناهيك عن ارتداداتها الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، إن زيادة الضرائب على الاستهلاك والاستثمار، وإن كانت مهمَّة كمصدر إيرادات، قد تكون في فترات الركود غير مواتية لتحفيز النمو. كما أنه في بعض الأحيان، بدلاً من العمل على تسهيل الإجراءات الضريبية عبر تبسيطها وتوحيدها، تزيد بعض التعديلات من تعقيدها وصعوبةِ إدارتها.

نقاش مستقل

كي يُكتب النجاح للإصلاحات، ومنها الضريبية، التي يحتاج لها لبنان، يجب مناقشتها وإقرارها بشكلٍ مستقلٍ عن استحقاقات الموازنة. وينبغي تطويرها بالتشاور مع ذوي الشأن من هيئاتٍ ونقاباتٍ وأحزابٍ بالاقتران، ما أمكن، مع تدابير أُخرى من تحسين الخدمات العامة التي من شأنها أن تجعل أيَّةَ زيادة في الاتاوات أكثرَ قبولاً وشرعية. ماذا وإلّا قد تغدو الإصلاحاتُ الضريبية عرضةً للنزاع ورهينة التجاذبات السياسية والاجتماعية، أو تُرْفَض مباشرةً. في هذا الإطار يغدو إصلاح النظام الضريبي عبر اعتماد الضريبة الموحّدة على الدخل حيث تُجْمَع كلُّ مصادر ارباح المُكَلّف من رواتب وعائدات استثمار وفوائدُ الودائعِ المصرفية ليخضع المجموع لمعدلِ الجباية الذي يُطَبَّق على شريحة الدخلِ المعنية. إن مبادئ المحاسبة العمومية وركيزتها الموازنة والنظم الضريبية من أهم أدوات السياسة الاقتصادية، بل السياسات العامة أجمع، ما يستحِقّ أقصى الجدّ والجهد في مقاربة تحديث قانون المحاسبة العمومية.

 

مصدرنداء الوطن - سمير الضاهر
المادة السابقةتوحيد أسعار الصرف خطوة نحو الحل العادل… أو الانفجار الشامل
المقالة القادمةسعر الصرف حالياً لقيط ضائع بين الحكومة ومجلـس النواب ومصرف لبنان… والسوق الحر