لأول مرّة بعد 13 سنة متتالية من العجز، سجّل ميزان المدفوعات في نهاية 2023 فائضاً بقيمة 1.6 مليار دولار. يُستثنى من تلك الفترة ما حصل في عام 2016 الذي سجّل فائضاً بسبب التدفقات المالية التي اصطنعتها «الهندسات المالية» التي نفّذها مصرف لبنان. ميزان المدفوعات يقيس صافي الأموال الوافدة إلى لبنان والخارجة منه بالعملات الأجنبية، لذا، قد يبدو تسجيل فائض فيه مؤشراً على «تعافي» الاقتصاد، إلا أن الواقع يشير إلى أن هذا التعافي هو مجرّد تكيّف على أنقاض قطاع مصرفي مفلس، وهجرة متزايدة، وأجور متآكلة، واقتصاد ما زال يعتمد على استقدام التدفقات لتمويل الاستهلاك المحلي.
كانت العجوزات المتتالية المُسجّلة في ميزان المدفوعات طوال فترة السنوات الـ 13 الماضية، إحدى نتائج الخلل الاقتصادي الموجود في بنية الاقتصاد اللبناني. لذا، كان هذا العجز أحد الأسباب المباشرة التي أدّت إلى انفجار الأزمة في عام 2019. فالعجز في هذا الميزان معناه أن الاقتصاد ينزف العملات الصعبة، ويضغط على احتياطات مصرف لبنان والمصارف بالعملة الأجنبية. ولأن السياسة النقدية التي اتّبعها مصرف لبنان منذ التسعينيات، اعتمدت نظام سعر صرف ثابت لليرة اللبنانية، شكّل تراجع الاحتياطات بالعملات الأجنبية سبباً محورياً للانهيار النقدي، إذ إن تراجع الاحتياطات قوّض قدرة مصرف لبنان على التدخّل في السوق للحفاظ على سعر العملة الوطنية. وبما أن تثبيت سعر الصرف كان ركيزة بُني حولها النموذج الاقتصادي اللبناني في فترة ما بعد الحرب الأهلية، فقد أدّى فشل النظام المالي والنقدي إلى انهيار النموذج وانفجار الأزمة بكل تداعياتها المالية والاقتصادية والاجتماعية.
ثمة محاولة لتصوير هذا الفائض كأنّه تعافٍ ماليّ واقتصاديّ. لكن لم يسجّل حصول أيّ إجراء جدّي للتعامل مع الأزمة، ولا أيّ محاولة لإصلاح الخلل البنيوي في هيكل الاقتصاد اللبناني. فعلى سبيل المثال، ما زال الميزان التجاري يسجّل عجزاً متنامياً، أي أن الاستيراد أكبر من التصدير، والاستيراد يموّل بالعملة الأجنبية. بمعنى أوضح، ما زال الاقتصاد ينزف عملات أجنبية. لذا، من غير المنطقي الافتراض أن هناك تعافياً، بل إن لبنان ليس على طريق التعافي.
ما يحدث ليس إلا مجرّد تكيّف مع الأزمة فرض تغيّرات في البنية الاجتماعية، أي مزيداً من الهجرة مقابل تحويلات من المغتربين التي أصبحت المحرّك الأساسي للاستهلاك وباتت تمثّل أكثر من 30% من الناتج المحلي. وكيف يكون هناك تعافٍ في اقتصاد لا يوجد فيه قطاع مصرفي يعمل بشكل طبيعي ولا يؤدّي دوره كوسيط مالي في تمويل التوسّع الاقتصادي. هذا النوع من التكيّف مضرّ بشكل الاقتصاد وبجوهره، لأن ما يقابله من أثر سلبي أن شرائح من اللبنانيين يبيعون أراضيهم (وهي ثرواتهم المتبقية)، من أجل تأمين حاجاتهم الأساسية (مأوى وصحة وتعليم وحتى الغذاء). هذا أمر يزيد هوّة اللامساواة بين طبقات المجتمع.
قد يكون تفسير جزء من الفائض في ميزان المدفوعات يتعلّق بارتفاع أسعار الفوائد عالمياً، ما أسهم في زيادة الأرباح الرأسمالية على الأموال المستثمرة في الخارج، وخصوصاً من قبل المصارف ومصرف لبنان. فعلى سبيل المثال، تمتلك المصارف اللبنانية نحو 4.3 مليارات دولار مُستثمرة في الخارج، ولدى مصرف لبنان نحو 7 مليارات دولار مستثمرة في الخارج أيضاً، وهذا مبلغ كبير نسبياً، إذ إن العوائد الناتجة من ارتفاع أسعار الفوائد في الولايات المتحدة إلى 5.5%، قد تفسّر جزءاً من هذا الفائض.
لا يمكن الحديث عن التعافي فقط بسبب تحسّن المؤشرات الرقمية، من دون الغوص في ما هو موجود في باطن هذه المؤشرات. أيّ إشارة تعافٍ تستند إلى هذا الواقع، وتوحي بعودة البلد إلى «الوضع الطبيعي» هي ليست إلا تعافياً وهمياً.