شورى الدولة ومنصوري.. والتواطؤ ضد مصلحة الدولة والشعب اللبناني

لا أحد بحاجة إلى انتظار قرار مجلس شورى الدولة الأخير (نص القرار)، الذي أقرّ بمراجعة جمعيّة المصارف ضد الحكومة اللبنانيّة، ليفهم موقع رئيس المجلس من السجال الدائر حول توزيع الخسائر أو آليّات إعادة هيكلة القطاع المصرفي. فرئيس المجلس، القاضي فادي الياس، قدّم منذ تمّوز الماضي رؤيته لمعالجة أزمة الودائع. وهي غير بعيدة أبدًا عن رؤية الجمعيّة نفسها: إلزام الدولة بتسديد الخسائر عبر آليّة متكاملة لاستثمار أو بيع كل ما هبّ ودب من مرافق عامّة مُنتجة للإيرادات. وطالما أن موقع الرجل معروف في معركة توزيع الخسائر، فترقّب أي قرار مختلف عن القرار الأخير كان ضرباً من الخيال. غير أنّ الملفت كان خفّة المجلس واستهانته بمصالح الدولة اللبنانيّة، أي مصالح الشعب اللبنانيّة، عند صياغة القرار.

على المقلب الآخر، يبدو أن جهد فادي الياس يلاقيه، ومن الزاوية نفسها، التوجّه التي يتبنّاه حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري. فمسار تصحيح وإصلاح ميزانيّات مصرف لبنان، وتعديل النظم المحاسبيّة فيه، لن يفضي إلى التراجع عن أعمال التزوير التي قام بها الحاكم السابق رياض سلامة، والتي حمّلت الدولة من غير وجه حق كتلة من الديون العامّة غير مفهومة المصدر أو المسوّغ. بل على العكس تمامًا، يبدو أن هذا المسار سيؤدّي في خلاصة الأمر إلى تثبيت أعمال التزوير وتشريعها، في تبنٍّ تام ومطلق لمنطق الحاكم السابق، ومن خلفه طبعًا اللوبي المصرفي.

بين تحرّكات الحاكم بالإنابة ورئيس مجلس شورى الدولة، ثمّة قاسم مشترك أساسي: استباق عودة البحث في قانون إعادة هيكلة المصارف، الذي سيُحدد كيفيّة التعامل مع فجوة خسائر القطاع المصرفي. وبينهما قاسم مشترك آخر: الاتفاق على تحميل الدولة الكتلة الأهم من هذه الخسائر.

الخفّة في قرار مجلس شورى الدولة
المراجعة التي قبلها مجلس شورى الدولة، تطعن بأحد بنود خطّة التعافي، وتحديدًا البند الذي ينص على إلغاء جزء من إلتزامات مصرف لبنان للمصارف التجاريّة. هذا البند، بالنسبة لجمعية المصارف، يتعارض مع الموجبات الدستوريّة التي تنص على احترام الملكيّة الخاصّة والاقتصاد الحر. وهو يتعارض مع موجبات الدولة القانونيّة بتغطية خسائر المصرف المركزي، كما أنّه يتجاهل “استدانة الدولة 60 مليار دولار من المصرف المركزي” (عن أي ديون وبأي عملة نتحدّث؟ لا تجيب الجمعيّة).

بطبيعة الحال، يدرك كل من قرأ ميزانيّة مصرف لبنان أنّ حجم ديون الدولة للمصرف المركزي بالدولار الأميركي لا يتجاوز حدود الـ5 مليار دولار. أمّا ديون الدولة بالليرة، لمصرف لبنان والمصارف معًا، فلم تعد تناهز قيمتها حدود الـ700 مليون دولار، إذا ما احتسبنا التدهور في سعر صرف الليرة. ومن هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم زج فكرة مسؤوليّة الدولة عن تسديد خسائر المصرف المركزي، وكذلك أعمال التزوير في ميزانيّة مصرف لبنان لخلق ديون جديدة بالدولار، وهذا ما يتكامل طبعًا مع مراجعة جمعيّة المصارف وقرار مجلس شورى الدولة.

في خلاصة الأمر، تبنّى مجلس الشورى مقاربة جمعيّة المصارف: الدولة استدانت من مصرف لبنان 62 مليار دولار، والدليل هو “تصريحات حاكم مصرف لبنان”. والمقصود هنا طبعًا مقابلات الحاكم السابق رياض سلامة التي حفلت بمجموعة من التنافضات، ومنها قوله أن المصرف ردّ جميع الدولارات التي أودعتها المصارف لديه. وبرأي مجلس الشورى، هذه الديون هي سبب خسائر المركزي، وعلى الدولة موجب رد هذه الأموال، لمعالجة الأزمة المصرفيّة.

تفنيد القرار وبنوده
ثمّة خفّة لا تُحتمل في كل ما ورد أعلاه، من ادعاءات جمعيّة المصارف، ومن نص قرار مجلس الشورى. ورغم سذاجة بعض النقاط، قد يكون من المناسب تفنيدها احترامًا للموقع الدستوري الذي يشغله مجلس شورى الدولة، وليس تقديرًا لجديّة هذه الادعاءات:

1- إنّ جوهر القرار يقوم على زعم أنّ الدولة استدانت من المصرف المركزي نحو 62 مليار دولار. وهذا تحايل على التاريخ والوقائع الماليّة، لأن قيمة هذا الدين لا توازي أكثر من 5 مليار دولار اليوم، حسب سعر الصرف الحالي. لا يمكن الخلط بين قيمة القروض في الماضي وقيمتها في الحاضر، وإلّا: فليتحمّل المصرفيون إلتزاماتهم للمودعين بالليرة اللبنانيّة، وبقيمة الإلتزامات قبل هبوط سعر الصرف!

2- إن أساس الفجوة الموجودة في ميزانيّات مصرف لبنان بالعملات الأجنبيّة، التي يقترب حجمها من 60 مليار دولار، نتجت أساسًا عن عمليّات متبادلة بين مصرف لبنان والمصارف التجاريّة: عمليّات قطع، بيع دولارات، هندسات ماليّة، فوائد فاحشة، تحويل الأرباح الفاحشة بالليرة إلى دولارات بسعر الصرف الرسمي.. إلخ. وطبعًا، ثمّة جانب يرتبط بتثبيت سعر الصرف ودعم الاستيراد. لكنّ هذا الجانب يخفي في طيّاته عمليّات احتياليّة كبيرة، أنتجت أرباحًا غير مشروعة. بهذا المعنى، الفجوة بالعملات الأجنبيّة تراكمت بفعل عمليّات متبادلة بين مصرف لبنان والمصارف، أي داخل القطاع نفسه، وليس مع القطاع العام.

3- إنّ اعتبار كل الخسارة دينًا على الشعب اللبناني، وهي خسارة توازي بحجمها 3.65 مرّات حجم الاقتصاد، بدل التحقيق في أسباب ومصادر الفجوة، يمثّل طعنًا بفكرة المحاسبة والمساءلة، وهذا ما يتعارض مع الدور البديهي لهيئة قضائيّة رسميّة.

4- مبدأ إلغاء إلتزامات مصرف لبنان للمصارف، لا يعني شطب الودائع. من الناحية الماليّة، لا يمكن استعادة الثقة أو الانتظام بالقطاع المصرفي من دون معالجة الفجوة، أي الفارق بين الإلتزامات والموجودات. وبما أن الموجودات لا تتكاثر، ولا يوجد في علم الاقتصاد سحر “يعيد تكوين الودائع”، فالهدف هو تقليص حجم الإلتزامات. وهذا لا يعني شطب الودائع، بقدر ما يعني توزيع الخسارة على من يستحق، أي باستهداف الأموال الناتجة عن الأعمال الاحتياليّة أو الأرباح الفاحشة، أو تحميل الرساميل نصيبها من الخسائر، أو حتّى تحمّل مصرف لبنان نصيبه من الأموال التي يفترض إعادتها، ومطالبة المصارف بضخ رساميل جديدة لتسديد الخسارة، وغيرها من آليّات إعادة الهيكلة المصرفيّة. بمعنى أوضح: تقليص الإلتزامات أو التخلّص منها هدف مالي لا مفر منه، السؤال هو: “كيف؟” وليس “هل؟”. وإذا كان مجلس الشورى لا يدرك ذلك، فهو لم يدرس ألف باء الإفلاسات المصرفيّة.

5- ثمّة خفّة لا حد لها في الاستعانة بفكرة “حماية الملكيّة الفرديّة” لرفض إشراف الدولة على عمليّة إعادة الهيكلة. ورغم بساطة الفكرة وبديهيّتها، ثمّة ضرورة للتذكير بها: من واجب الدولة حماية حقوق الأفراد، عبر إدارة الإفلاسات الكبرى، لا ترك إدارة المسألة للمفلسين أنفسهم من أصحاب المصارف واللوبي المناصر لهم داخل أجهزة الدولة.

6- اعتبار الدولة مسؤولة عن خسائر مصرف لبنان، في علاقته مع المصارف، ينطوي على استخفاف كبير بالنص القانوني. لقد نص القانون على تحمّل الدولة خسائر محدودة تنتج عن سنة ماليّة معيّنة، وذلك طبعًا بعد التدقيق في الميزانيّة والمصادقة عليها وفق آليّات معيّنة. وهذا لا يشمل حتمًا أعمالاً احتياليّة جرت على مدى عقود من الزمن، ولا يشمل بالتأكيد خسائر توازي أضعاف حجم الاقتصاد المحليّة (ونحو 36 ضعف الإيرادات العامّة السنويّة).

7- وحتّى إذا ما افترضنا أن هناك مسؤوليّة للدولة بالنسبة لخسائر مصرف لبنان العاديّة، إذا تراكمت بهذا الشكل، فهل يعني ذلك تحميل الشعب اللبناني مسؤوليّة الخسائر الاحتياليّة، التي يشير قرار مجلس الشورى نفسه إلى اتصالها بمخالفات قانونيّة فاقعة؟ وهل هذا الحل يتطابق مع القانون، أكثر من تخفيض الإلتزامات بآليّات عادلة تبحث عن مصدر العمليّات الاحتياليّة والمستفيدين منها؟ وعبر إعادة هيكلة منطقيّة تكفل استعادة أكبر قدر من الودائع؟

8- ما معنى أن تنص القوانين على أصول مشدّدة لاقتراض الدولة، وعلى قيود تفرض موافقة المشرّع على القروض، إذا كان بالإمكان تحميل الدولة هذا القدر من الديون بشخطة قلم، في الوقت الذي يسلّم به الجميع بعدم مشروعيّة آليّات تراكم الخسائر نفسها؟

9- إذا كانت الحجّة حماية المودع، فهل يتصوّر مجلس شورى الدولة هنا أن تحويل الودائع إلى ديون عامّة سيؤمّن سدادها ولو بعد عقود طويلة من الزمن؟ هل تحويل الوديعة إلى دين عام، سيجعلها في أمان أكثر من سيناريو إعادة الهيكلة العقلاني؟

في الخلاصة، لا تصب مقاربة مجلس شورى الدولة إلا في خانة مقاربة جمعيّة المصارف نفسها: رمي كتلة الخسائر على كاهل الدولة، أي تخليص القطاع المصرفي من إلتزاماته للمودعين، وتحويل الودائع إلى دين سيادي. وهذا سيكون التمهيد الطبيعي للإطاحة بالودائع، لكن بعد إثقال كاهل الماليّة العامّة بإلتزامات لا يمكن سدادها. هكذا، يكون مجلس شورى الدولة، مع جمعيّة المصارف، يتجهان نحو سيناريو تأبيد الانهيار القائم، لتفادي سيناريو إعادة الهيكلة الذي كان يفترض أن يعالج الخسائر (ويقلّص إلتزامات مصرف لبنان للمصارف) عبر تحميل الكلفة لمن يستحق. المطلوب عندهم ببساطة: تفادي إعادة هيكلة جديّة، تحمِّل الرساميل والمستفيدين من أرباح المراحل السابقة نصيبهم من الخسارة.

منصوري يتبنّى نظريات رياض سلامة
في مصرف لبنان، يدور السجل حول دين الـ16.5 مليار دولار الذي أضافه الحاكم السابق رياض سلامة كإلتزام على الدولة اللبنانيّة، لمصلحة المصرف المركزي. وفي لجنة تعديل النظم المحاسبيّة داخل المصرف المركزي، يواجه مدراء المصرف المركزي مدير الدين العام في وزارة الماليّة حسن حمدان، بالدفاع عن هذا الدين. وفي خلاصة الأمر، تبنّى منصوري مقاربة مدرائه، وطلب من وزارة الماليّة إقصاء حمدان واستبداله بممثّل آخر عن وزارة الماليّة. مع الإشارة إلى أنّ العديد ممن التقوا منصوري أكّدوا تبنيه الكامل لفكرة هذا الدين ومنطقها، تمامًا كما فعل رياض سلامة في آخر أيامه.

بهذا الشكل، يتكامل المساران معًا: يطالب المصرف المركزي بالديون المختلقة في وجه الدولة اللبنانيّة، ويتبنّى مجلس شورى الدولة أفكار المصارف بخصوص مسؤوليّة الدولة عن خسائر مصرف لبنان. وفي الحالتين، النتيجة واحدة، الدفع باتجاه الإطاحة بمسار إعادة الهيكلة المصرفيّة الجديّة، في مقابل الأفكار التي يتم طرحها بخصوص تحويل الودائع إلى ديون عامّة. أمّا الكلفة النهائيّة، فسيتحمّلها المودع الذي لن يسترد وديعتها، والمواطن الذي سيتحمّل تبعات إثقال كاهل الدولة بالديون الإضافيّة.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةإعادة مزايدة في “تاتش”: العفو عن الارتكابات ومحوها؟
المقالة القادمةمتى تبدأ المصارف بتطبيق التعميم 166.. وماذا عن السحوبات؟