قليلة هي الدراسات أو أوراق البحث العلميّة التي حاولت فعلًا الغوص في نتائج التدقيق الجنائي، أو البناء عليه لتحديد خلاصات ذات نفع، في عمليّة تحديد المسؤوليّات المتصلة بالانهيارين النقدي والمصرفي. فباستثناء بعض محاولات الاجتزاء، أو اقتطاع جملة من هنا أو جدول من هناك، لخدمة سرديّات معيّنة، لم يأخذ تقرير التدقيق الجنائي حقّه من المتابعة، ولا من التمحيص والتدقيق.
غير أنّ آخر القراءات الجديّة، وربما أهمّها على الإطلاق، صدرت خلال هذه الأسبوع عن معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت، من إعداد الخبير المصرفي توفيق كاسبار. هدف كاسبار المُعلن من القراءة تفنيد المعطيات وتبويبها، بحثًا عن “تحليل جنائي” للأرقام. وهذا يتكامل حتمًا مع جهود كاسبار السابقة في مجال تحليل أسباب الانهيار.
غير أنّ قراءة هذا التقرير، البالغ الأهميّة، تسمح لنا بمعالجة سؤال آخر، متصل بعدالة توزيع الخسائر: أين ذهبت هذه “الخسائر” أصلًا؟ وهذا السؤال، يتصل بقوّة بكل النقاش الراهن، حول آليّات إعادة هيكلة المصارف. فهل من العدل السير خلف طرح جمعيّة المصارف، الذي يقوم على تحميل خسائرها، وإلتزاماتها للمودعين، إلى الدولة، أي الشعب اللبناني بأسره؟ هل يتحمّل الشعب اللبنانيّة مسؤوليّة هذه الخسائر؟
يوم حذّرنا توفيق كاسبار عام 2017
ولمن لا يعرف توفيق كاسبار، هو الذي نشر عام 2017 وثيقة شهيرة بعنوان “الأزمة الماليّة في لبنان”. إذ حذّر كاسبار يومها من اتجاه البلاد نحو انهيار مصرفي ونقدي خطير، كما صوّب على النتائج الكارثيّة التي ستترتّب على أدوات “الهندسات الماليّة” التي يعتمدها مصرف لبنان.
كان من المفترض أن ترتعد فرائص الحكّام إزاء دراسة تحذّر من انهيار مصرفي ونقدي شامل، ومن حاكم مجازف يقود البلاد نحو الهاوية. وكان الرجل قد تحدّث –قبل ثلاث سنوات من الانهيار- بدقّة متناهية عن مفاهيم لم يكتشفها الرأي العام إلا بعد العام 2019: فجوة العملات الصعبة، كلفة الهندسات ونتائجها، خطورة السياسة النقديّة المتبعة، وغيرها من المخاطر.
غير أنّ ردّ فعل الصحافة والإعلام الاقتصادي ذهب يومها لاتهام الرجل بالتجديف والهرطقة وتهديد الاستقرار النقدي والمصرفي، وذهب بعض الخبراء للمطالبة بسجنه. وبالمناسبة، هؤلاء الخبراء ما زالوا نجوم الشاشات اليوم بالمناسبة، وهم يسوّقون للنظريات المناوئة لإعادة هيكلة المصارف بإسم “قدسيّة الودائع” ومنع “تفليس القطاع”…إلخ. وعلى اللبنانيين أن يراجعوا نظريّات هؤلاء لفهم المصالح التي يخدمونها.
تفنيد مصادر الخسائر بعد العام 2019
لاحقًا، بعد انفجار الأزمة، كانت مطالعات توفيق كاسبار من المصادر القليلة والشحيحة التي حاولت تفنيد كيفيّة تراكم فجوة الخسائر (مسؤوليّة الهندسات، الفوائد، تمويل الدولة، أرباح المصارف، …إلخ). وهذا طبيعي، لكون الرجل نفسه كان سبّاقًا –وقبل أن تُعلن الخسارة- للتحذير من هذه الفجوة.
وما ميّز تلك المطالعات هو تمييزها، وببراعة تقنيّة متناهية، بين الدين العام الذي تراكم جرّاء عجوزات الميزانيّة من جهة، وخسائر القطاع المصرفي، أو الفجوة ما بين الموجودات المتبقية وقيمة الإلتزامات المتوجبة على القطاع للمودعين، من جهة أخرى. لقد دحضت تلك المطالعات النظريّة الشائعة التي تقول أن “الشعب” بمجمله مسؤول عن خسائر المصارف، جرّاء استخدام دولارات المودعين لتمويل الميزانيّة العامّة.
فتمويل المصارف ومصرف لبنان للدين العام هو بغالبيّته الساحقة بالليرة اللبنانيّة، أمّا الفجوة المصرفيّة القائمة –بالعملات الأجنبيّة- فنتجت عن عمليّات أخرى متبادلة بين مصرف لبنان والمصارف التجاريّة. وكثير من تلك العمليات يتصل قبل كل شيء بمسائل ذات طابع نقدي: الفوائد والهندسات والأرباح الفاحشة وتمويل التحويلات وغيرها من العمليّات الغامضة.
لقد توصّل كاسبار من خلال تلك المراجعات، بعد العام 2019، إلى أنّ تنامي الدين العام بالليرة كان له آثاره الكارثيّة على مستوى قيمة الليرة اللبنانيّة. إلا أنّ “الخطاب السائد والمتكرّر في لبنان” الذي يربط الانهيار المصرفي “بتمويل الديون الحكوميّة غير صحيح ولا أساس له”. فالتركيز على حركة السيولة بالدولار، تُظهر أن أسباب الانهيار المصرفي ترتبط بعوامل أخرى تمامًا، لا علاقة بتمويل الدولة أو الحكومة. بل يصل كاسبار إلى نتيجة معاكسة تمامًا: لقد كانت الحكومة هي من يموّل مصرف لبنان بالدولار، لا العكس!
عن أهميّة كلام كاسبار اليوم
تمامًا كما حصل عام 2017، لم تحصل قراءات توفيق كاسبار بعد العام 2019 على حقّها من المناقشة والتغطية الإعلاميّة. فهذا الكلام، تمامًا ككلامه عام 2017، يتعارض مع مصالح النخبتين الماليّة والسياسيّة. وإذا كانت هذه المصالح قد انتفعت من حقبة الهندسات الماليّة والفوائد الفاحشة عام 2017، فهي باتت منتفعة بعد العام 2019 من الخطاب السائد الذي يركّز على مسؤوليّة الدولة. أي بصورة أوضح: بات هدف هذه المصالح تحميل الخسائر الناتجة عن حقبة الهندسات، لعموم الشعب اللبناني، من خلال اعتباره مستفيدًا من خسائر القطاع المصرفي.
على أي حال، كل ما سبق ذكره كان ضروريًا لوضع خلاصات دراسة كاسبار هذا الأسبوع، حول تقرير التدقيق الجنائي، في سياقها التحليلي. هي محاولة مُكرّرة لتفنيد أسباب الانهيار المصرفي، ومصادر تراكم الخسائر في القطاع، بشكل علمي وتقني بعيدًا عن الشعبويّات والمصالح الملتبسة. وهذه المحاولة، هي جزء من مسار عمل عليه هذا الخبير المصرفي منذ سبع سنوات، واجه خلالها جملة من الشعارات البعيدة عن الواقع. وإذا كانت التجربة تُظهر مدى فداحة الخطأ الذي ارتكبه الإعلام الاقتصادي وأصحاب القرار، بعدم الالتفات إلى ما قاله الرجل في الماضي، فوقائع الحاضر تؤكّد أيضًا أهميّة الإلتفات إلى ما يقوله اليوم.
أهميّة العودة إلى هذه المناقشات تكمن في ارتباطها بمسار إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وكيفيّة توزيع خسائر القطاع. فالتسليم بنظريّة “مسؤوليّة الدولة” (أي الشعب اللبناني)، له ما بعده: تحويل الودائع إلى ديون عامّة لن تُسدّد يومًا. وتحويل الدولة إلى هيكل عظمي تستنزفه ديون تتخطى قيمتها الـ5.4 مرّات حجم الاقتصاد المحلّي. إذًا، خطورة النقاش الحالي لا تقتصر على عدم دقّة خطاب “مسؤوليّة الدولة”، ولا على اللاعدالة التي يحملها، بل تشمل كذلك التداعيات المدمّرة التي سيؤدّي إليها هذا الخطاب.
أكلاف الهندسات وفجوة الخسائر
يبوّب كاسبار في قراءته لتقرير التدقيق الجنائي الأكلاف المتراكمة للهندسات الماليّة التي قام بها مصرف لبنان، بين العامين 2015 و2019. إذ بدأت الكلفة بقيمة محدودة لا تتخطى حدود 4.1 مليار دولار عام 2015، ثم تنامت قيمتها التراكميّة تدريجيًا لتصل إلى حدود 55 مليار دولار عام 2019، وإلى نحو 60.5 مليار دولار في مطلع العام 2020، أي عند انكشاف حجم الأزمة وقدر الخسائر المتراكمة. وحين نتحدّث عن أكلاف الهندسات الماليّة، فنحن نتحدّث عن حجم الأرباح الضخم والهائل الذي منحه مصرف لبنان للمصرفيين أو كبار النافذين، مقابل استدامة ضخ دولارات المصارف (أي أموال المودعين) من الخارج، وإيداعها في مصرف لبنان.
في خانة أخرى من الجدول الذي يستعرضه كاسبار، ثمّة شيء آخر كان يتراكم خلال السنوات نفسها: الصافي السلبي من الاحتياطات بالعملة الأجنبيّة، أي الفارق بين موجودات وإلتزامات المصرفي المركزي بالعملة الصعبة. هناك: بدأ حجم هذا الصافي السلبي بالتراكم، من 5.5 مليار دولار عام 2015، إلى 59.7 مليار دولار في مطلع العام 2019، وصولًا إلى نحو 71.8 مليار دولار في مطلع العام 2020.
ولمن لا يلاحظ التوازي بين القيمتين: بلغت الكلفة المتراكمة للهندسات الماليّة، حتّى العام 2019، نحو 92% من إجمالي فجوة خسائر المصرف المركزي. وفي العام 2020، باتت هذه النسبة توازي 84%. أي بصورة أوضح، كان من الممكن أن يوفّر الحاكم السابق رياض سلامة نحو 84% من فجوة الخسائر بحلول العام 2020، لو لم يتورّط في بهلوانيّات الهندسات الماليّة، التي مثّلت أكبر عمليّة نقل للأموال العامّة (أموال مصرف لبنان)، إلى أموال خاصّة (أرباح المصارف)، في تاريخ الأمّة اللبنانيّة.
وكلفة هذه العمليّة تحمّلها طبعًا المودع، الذي أودعت المصارف أمواله لدى المصرف المركزي مقابل هذه الأرباح. قد يكون مثيرًا للاهتمام تذكّر كلام المصرفيين ومن لفّ لفّهم اليوم، عن قدسيّة الملكيّة الفرديّة، في مواجهة أي محاولة لإعادة هيكلة القطاع واستعادة هذه الأرباح!
يستنتج كاسبار في ورقته، من تشريح تقرير التدقيق الجنائي، الخلاصة نفسها التي توصّل إليها عند دراسة ميزانيّة المصرف المركزي، بعد حصول الانهيار: الانهياران مختلفان في طبيعتهما وأسبابهما ونتائجهما. لقد أدّت الهندسات الماليّة، بآليّاتها وطريقة عملها، إلى الأزمة المصرفيّة التي شهدها لبنان، على الأقل منذ العام 2015. أمّا انهيار الليرة، فهو ظاهرة مختلفة (كان قد ربطها كاسبار سابقًا بالدين العام، في دراسة سابقة). وليؤكّد على هذه الحقيقة، يُذكر كاسبار بمرحلة الثمانينات، التي شهدت انهيار كبير في قيمة الليرة، من دون أن نشهد انهيارًا مصرفيًا موازيًا، كالذي نشهده اليوم.
البونزي سكيم
ما يتحدّث عنه كاسبار هنا، هو البونزي سكيم، بحسب تعابير البنك الدولي (ومن قبله الرئيس الفرنسي وأمين عام الأمم المتحدة). لقد نقلت المصارف بين العام 2015 و2019، أي خلال أربع سنوات فقط، 75% من أموال مودعيها من حساباتها في الخارج إلى مصرف لبنان، ليصل حجم أموالها المودعة في مصرف لبنان إلى 90 مليار دولار خلال العام 2020. وفي مقابل هذه اللعبة، كانت المصارف تحصد أرباحاً هائلة على حساب أموال مصرف لبنان، أي على حساب أموال مودعيها المودعة هناك. وهذا مسار منفصل طبعًا عن تراكمات الدين العام، وتوظيفات مصرف لبنان والمصارف فيه، المقوّمة بالليرة (قيمة توظيفات المصرف المركزي والمصارف الحاليّة في سندات اليوروبوند لا تتخطى 7 مليار دولار).
غير أن تتبع كاسبار لأرقام سيولة المصرف المركزي تُظهر ما هو أخطر. فخلال الأعوام الممتدة بين 2015 و2019، ثمّة 25 مليار دولار من الأموال التي لم يتم تحديد مآلها، ويُرجّح أن تكون هذه القيمة هي الدولارات التي اشترتها المصارف لتمويل تحويلات مساهميها للخارج، على حساب القطاع وسيولته. أي بمعنى آخر، كانت المصارف تحوّل أرباحها الفاحشة بالليرة اللبنانيّة إلى الدولار الأميركي، على حساب المودعين، وعلى حساب الدولارات التي تم استقدامها من الخارج إلى مصرف لبنان.
ماذا يعني كل ما سبق؟
يدور النقاش الراهن حول آليّات إعادة الهيكلة المصرفيّة، وهو ما يفترض أن يجيب على السؤال المركزي: كيف نعيد أموال المودعين على أفضل وأعدل وجه؟ مقاربة المصارف تقوم على تحويل الفارق بين الإلتزامات والموجودات، أي الخسائر، إلى ديون عامّة. وهذه تحديدًا مقاربة مجلس شورى الدولة، وكل من ينادي بمبدأ مسؤوليّة الدولة. بهذا الشكل، سنحوّل جزءاً من الودائع إلى إلتزامات على الدولة اللبنانيّة، وإن كانت جميع المؤشّرات الواقعيّة تدل على أن الدولة لن تتمكّن من سداد ولو جزء بسيط جدًا من هذه الإلتزامات. تحت شعار قدسيّة الودائع، وقدسيّة الملكيّة الفرديّة (؟!)، سنحوّل المودع إلى دائن، في وجه دولة لا تملك ما تشغّل به مرافقها العامّة.
المقاربة البديلة، التي ترفضها المصارف، ومجلس شورى الدولة وكل من يسير في ركب اللوبي المصرفي، هي إعادة الهيكلة الشاملة. لا معنى لشعار قدسيّة الودائع، بعد السطو على الودائع. ولا معنى لقدسيّة الودائع، إذا كان المطلوب تحويل الودائع إلى إلتزامات لن تُسدد يومًا. البديل، هو فتح الدفاتر وتصنيف الودائع، وتتبّع كل ما نتج عن آليّات عمل البونزي سكيم. والبديل، هو ملاحقة نتائج كل العمليّات الاحتياليّة التي حصلت في الماضي، والتي أدّت إلى تراكم الفجوة الموجودة الحاليّة.
من هذه الزاوية بالذات، تكتسب دراسة توفيق كاسبار أهميّتها.