لا يُخفى على أحد الكمّ الهائل من الضغوطات التي يتعرّض لها لبنان إقتصاديًا وماليًا وسياسيًا، خدمة لمشاريع إقليمية لم تستطع كل حكومات لبنان منذ بدء الحرب السورية وحتى اليوم التنبؤ بها أو التحوّط ضدّها. وقع لبنان في فخّ المشاريع الدولية والإقليمية التي رُسمت للمنطقة، وإكتفى لبنان الرسمي إما بالتفاخر بنمو إقتصادي من هنا أو إستقرار أمني من هناك أو بلملمة التداعيات الناتجة عن الأحداث. ولم يذكر التاريخ منذ ذلك الوقت أي إجراء حكومي تمّ إتخاذه، تفاديًا للتعقيدات الإقتصادية والمالية والنقدية المُحدقة بلبنان، على الرغم من التحذيرات التي قامت بها المؤسسات الدولية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) أو وكالات التصنيف العالمية («موديز» و»فيتش» و»ستندارد آند بورز»).
تناسى المسؤولون البعد الإقتصادي والمالي لصالح ما يُسمّى بـ «السلم الأهلي»، الذي طغى على كل الإجراءات التي أتُخذِت، حتى ولو كان ذلك على حساب الإقتصاد والمالية العامة. ومراجعة القرارات الحكومية خلال هذه الفترة، تُظهر مدى ضعف هذه الإجراءات وعدم إرتقائها إلى مستوى التحدّيات.
اليوم وبعد مرور أربعة أعوام على قرار الحكومة اللبنانية وقف دفع دينها العام (يوروبوندز وسندات بالليرة اللبنانية)، وما تبع ذلك من أزمات ستمتدّ حكمًا لسنوات طويلة، نرى أن سُلمّ الأولويات لم يتغيّر لدى المسؤولين، الذين إستسلموا لصراعات سياسية عقيمة جمّدت عمل مؤسسات الدوّلة، ودخلوا في طريق اللا عودة عن قراراتهم.
الإقتصاد الرسمي تراجع من 55 مليار دولار أميركي في العام 2019 إلى ما يُقارب الـ 23 مليار دولار أميركي حاليًا. وبسبب هذا التراجع، تراجعت مداخيل الدولة وتراجعت العملة اللبنانية، وزاد الفقر إلى مستويات تاريخية تعود إلى ما قبل الإستقلال. والأصعب هو تحلّل مؤسسات الدولة الواحدة تلو الأخرى، لتعجز بذلك عن سدّ ولو جزء بسيط من إحتياجات شعب تمّ سلب ودائعه المصرفية. وبالتزامن إرتفعت نسبة الفساد إلى مستويات تاريخية، حيث تُشير مؤشرات الـ World Governance Indicators أن السيطرة على الفساد في لبنان إقتربت من الصفر ، على مقياس يتراوح بين صفر (يعنى لا سيطرة على الفساد) و100 (سيطرة كاملة من قبل الدولة).
هذا الفساد دفع بالإقتصاد غير الرسمي والإقتصاد الأسود إلى النمو بشكل يضع لبنان في دائرة الخطر، من باب التشكيك بمصادر الأموال التي يتمّ إستخدامها للإستيراد. وما يزيد هذه الشكوك أنه وعلى الرغم من تراجع الإقتصاد الرسمي بشكل كبير، لا تزال مستويات الإستيراد موازية لما كانت عليه قبل الإستيراد، وهو ما يضع علامات إستفهام حول مصير لبنان خلال الإجتماع المُقبل لمجموعة العمل المالي (FATF-MENA)، والتي من المتوقّع أن تجتمع قريبًا للبحث في الوضع اللبناني، والإجراءات التي إتخذتها الحكومة للجم إقتصاد النقد.
على صعيد الإقتصاد، لم يتمّ أخذ أية إجراءات لتحفيز الإقتصاد الرسمي، خصوصًا مع إستمرار أزمة القطاع المصرفي الذي يُشكل العامود الفقري لهذا الإقتصاد. لا بل على العكس، تمّت زيادة الضرائب والرسوم على النشاط الإقتصادي الرسمي بأضعاف، وهو ما سيؤدّي إلى إنكماش في المرحلة المقبلة.
ماليًا، لا يزال التخبّط يلف موضع الدين العام ، الذي ترفض حكومة تصريف الاعمال حتى الساعة التفاوض مع المقرضين (بالدرجة الأولى المصارف ومصرف لبنان) لإعادة هيكلة القطاع المصرفي. أكثر من ذلك تتصرّف الحكومة وكأن لا دين عليها، وأصدرت عدّة موازنات منذ بداية الأزمة من دون ذكر الدين العام، مع العلم أن هذا الدين مُموّل بدرجة كبيرة من أموال المودعين.
أيضًا، لم تستطع الحكومة على الرغم من «العجز صفر» في موازنة العام 2024، من الوصول إلى الإنتظام المالي والنقدي. فقد فشلت في تأمين مداخيل بالدولار الأميركي كافية لتغطية مصاريفها من العملة الصعبة. وعلى الرغم من القول أن مداخيل الدولة الشهرية توازي 23 تريليون ليرة لبنانية (256 مليون دولار أميركي)، نصفها – أي 128 مليون دولار أميركي بالعملة الصعبة، إلا أن هذه الأرقام تبقى غير كافية لدولة كانت تُنفق 1.4 مليار دولار أميركي شهريًا، وتحتاج إلى أكثر من 150 مليون دولار أميركي حاليًا في الشهر الواحد، لتغطية الإنفاق الأساسي. وبفرضية أن الأرقام هذه صحيحة، لا يُمكن للحكومة إستخدام مداخيلها بالليرة اللبنانية، بحكم أن ضخّها في السوق سيؤدّي حكمًا إلى إرتفاع سعر الصرف الدولار مُقابل الليرة اللبنانية.
أمّا على صعيد مؤسسات الدولة ووزارتها، فإن الإحتجاجات على أجور وتحفيزات القطاع العام، تُهدّد بوقف العمل في هذه المؤسسات والوزارات. وحتى لو قامت حكومة تصريف الاعمال بإقرار زيادات وحوافز لكل الموظّفين المدنيين والعسكريين في الجلسة المُقبلة هذا الأسبوع (لا نعلمّ كيف سيتمّ تمويلها!)، إلا أن الإحتجاجات مُرجّحة للعودة من جديد بحكم الغلاء المعيشي الذي عجزت الحكومة عن لجمه.
نقديًا، أدّت الدوّلرة التي أقرّها وزراء حكومة تصريف الأعمال وإمتصاص الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، بواسطة التعميم 161 (سابقًا) ومن خلال الفوترة والضرائب (الآن) إلى عزل الليرة اللبنانية، التي لم تعد تؤدّي عملها في خدمة الإقتصاد اللبناني، وهو ما أدّى إلى إستقرار في سعر الصرف وسيظلّ قائمًا بشرطين: الأول إستمرار عزّل الليرة اللبنانية والثاني غياب المضاربة. وإذا غاب أحد هذين الشرطين، فإن الليرة ستُعاود إنخفاضها أمام الدولار في السوق الموازية.
وكأن كل ذلك لا يكفي، فتكت آلة الدمار العسكرية «الإسرائيلية» بالجنوب اللبناني، حيث هناك ما يُقارب التسعة آلاف وحدة سكنية متُضرّرة سواء كليًا أو جزئيًا، مع تقديرات بكلفة إعادة إصلاح تتجاوز المليار دولار أميركي لا نعلم كيف سيتم تمويلها، خصوصًا مع الإطار الجيوسياسي والجيو إقتصادي القائم حاليًا في المنطقة.
وبالتالي، يُمكن القول أنه مع إستمرار التعطيل السياسي والشغور الرئاسي وغياب توافق بحدّ أدنى على الإصلاحات الإقتصادية، هناك مخاطر عالية تطال الماكينة الإقتصادية والمالية العامة وستتحلّل مؤسسات الدولة أكثر فأكثر، ما قد يؤدّي في بعض السيناريوهات المُحتملة إلى فوضى إقتصادية ومالية عارمة، قد تؤدّي بدورها إلى فلتان أمّني على المدى المتوسّط. وفي سيناريو إندلاع مواجهة مفتوحة مع العدو الإسرائيلي، هناك إحتمال نشوب أزمة غذائية وأزمة محروقات حادّة، قد تشلّ البلد بالكامل على كل الأصعدة، خصوصًا أن العدو لن يتوانى عن تدمير المرافق الحيوية للمواطن.
فهل آن الآوان لخطّة إستراتيجية تسمح بإخراج لبنان من وحول الأزمة الإقليمية، وإستطرادًا من أزمته الإقتصادية؟