هل يمكن أن تتطور المصارف اللبنانية من مصارف «زومبي» قائمة على عمولات فاحشة على الحسابات، إلى «مصارف فريش»؟
منذ ان سمح مصرف لبنان بفتح حسابات بالدولار الـ»فريش» ومنذ صدور التعميم 165 الذي أنشأ أنظمة دفع عبر البنك المركزي وسمح بتبادل شيكات صادرة عن حسابات فريش بالليرة والدولار لاستعمالها في العمليات التجارية والمالية وحتى الادخارية، لم تنجح المصارف في استقطاب الودائع الفريش بالحجم الذي كانت تسعى له، بدليل ان حجم هذه الودائع بالدولار في القطاع المصرفي لا يزال ضئيلاً عند حدود الـ3 مليارات دولار، في حين بلغ عدد الشيكات الـ Fresh المتقاصة بالليرة اللبنانية منذ بداية تطبيق التعميم في تموز ولغاية كانون الأول 2023، 1216 شيكاً بقيمة إجمالية بلغت 2354 مليار ليرة، ووصل عدد الشيكات الـ Fresh المتقاصّة بالعملات الأجنبية إلى 1179 شيكاً بقيمة إجمالية فاقت 16,1 مليون دولار في الفترة المذكورة، مقارنة مع معدل 800 ألف شهرياً قبل اندلاع الازمة في 2019.
«الفريش» لأغراض محددة
هذه الارقام تدلّ على ان اعتماد المودعين الفريش على المصارف اللبنانية يقتصر فقط على تيسير بعض التبادلات التجارية والتحويلات المالية والحدّ قدر الامكان من التبادلات النقدية، التي تنضوي على مخاطر عالية بالنسبة للمؤسسات والشركات الرسمية. حيث ان أصحاب الحسابات الفريش حريصون جميعاً على سحب اموالهم فوراً، في حال كان الغرض من حسابهم استقبال تحويلات مالية من الخارج، او ايداع الحدّ الادنى المطلوب فقط لتيسير اعمالهم التجارية. أما في ما يتعلّق بالادخار في حسابات الفريش، فهذا الخيار غير وارد لدى اي مودع بسبب انعدام الثقة الكامل بالقطاع المصرفي منذ اندلاع الازمة، وترسيخ مبدأ عدم الثقة نتيجة التهرّب من معالجة ازمة المودعين واعادة هيكلة المصارف. وأصبح الادخار من اكثر من 4 سنوات يقتصر على المنازل، أو البنوك الاجنبية في الخارج.
وبالنسبة لشريحة كبيرة اخرى من المودعين، فهي تفضل اللجوء الى شركات تحويل الاموال التي وسّعت نشاطها وخدماتها بدرجة كبيرة وأخذت حيّزاً كبيراً من المعاملات التي كانت تقدمها المصارف لعملائها. وقد باتت المعاملات المالية التي لا تتجاوز قيمتها الـ10 آلاف دولار، إن كانت بغرض التحويل الى الخارج او تسديد رسوم وفواتير او حتّى بغرض التسوّق online، تتم عبر شركات تحويل الاموال إن من خلال بطاقات الدفع المسبق التي تصدرها او من خلال تطبيقاتها على الهواتف الذكية.
وبما ان الحاجة الفعلية للمصارف تبقى قائمة في حال ارادت الاخيرة لعب دورها الاساسي في تمويل القطاع الخاص من خلال القروض والتسلفيات من اجل المساهمة باستعادة عجلة النمو الاقتصادي، فان هذا المنفذ فتح المجال امام اقتراح اعتماد مبدأ «الفريش بنك» والسير به من دون انتظار عملية اعادة هيكلة القطاع المصرفي وتحديد مصير 90 مليار دولار من الودائع. فهل تنجح هذه المحاولة ومن أين ستأتي المصارف بالودائع لتعيد تسليفها، وماذا خطر ببال الحاكم بالانابة وسيم منصوري عندما طرح هذا الامر في الاعلام على انه واحد من مشاريعه المستقبلية؟
تعديل التعميم
في هذا الاطار، اوضح الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود انه عندما يسمح مصرف لبنان للمصارف بمعاودة التسليف، عليه تعديل التعميم 154 الذي ينصّ على تكوين المصارف حسابات خارجية حرّة من أي التزامات لدى المصارف المراسلة في الخارج، لا تقلّ، في اي وقت، عن 3% من مجموع الودائع بالعملات الاجنبية كما هي في 30/9/2022 اي اموال الحسابات الفريش.
وأشار في المقابل الى ان تعاميم مصرف لبنان ليست بمثابة قانون وليس لها قوّة القانون بل هي تصدر استناداً للقوانين القائمة منها قانون النقد والتسليف وغيرها، وبالتالي يمكن للمصارف التي تملك سيولة تفوق نسبة الـ3% المطلوبة ان تقوم باقراض بعض المودعين. إلا ان هناك عدداً ضئيلاً جدّاً من المصارف التي تملك فائضاً بالسيولة ناتج عن تكوينها ودائع خارج لبنان قبل الازمة.
غير محمية
أضاف: تستطيع تلك المصارف التسليف ولا تحتاج الى إذن من احد للقيام بذلك، لكنّ عميلة التسليف لن تكون محميّة بسند قانوني في حال حصل اي طارئ، لانه لا يوجد قانون يميّز بين الفريش دولار والدولار غير الفريش «وهذا المصطلح غير موجود في اي بلد في العالم!»، ورغم ان عقود الاقراض ستنصّ على تسديد تلك القروض نقداً وبالعملة ذاتها إلا ان مخاطر عدم وجود تشريع ثابت وكامل تبقى قائمة. مع الاشارة الى ان بعض المصارف شرعت منذ اكثر من عام بعمليات التسليف، إلا ان نطاق تلك العمليات يبقى ضيّقاً ولا يمكن اعتباره عودة صحيحة وصحيّة.
وضع حرج
وأكد حمود لـ»نداء الوطن» ان المصارف بوضع حرج لانها غير قادرة على تأمين كلفتها التشغيلية، ولا تملك خيارات عديدة لرفع مدخولها سوى زيادة الايرادات عبر العمولات الخيالية التي تفرضها على الحسابات، «وهو الامر الذي لم يأتِ بالنتيجة المرجوّة»، أو انها تلجأ الى خيار صرف الموظفين لخفض الكلفة. وبالتالي، فان المصارف التي تحاول معاودة التسليف تهدف الى تأمين الايرادات لتمويل كلفتها التشغيلة وضمان استمراريتها التي تنازع من اجلها، وليس بغرض تمويل الاقتصاد وحرصها على تفعيل الدورة الاقتصادية او ممارسة دورها الاساسي المتمثل بالتسليف والاقراض.
لا ثقة
لكنّ حمود رأى انه لا يمكن للمصارف ان تقوم بعمل مصرفي او ينشأ نظام مصرفي وقطاع مصرفي، خارج اطار التشريع، «ولا بدّ من وجود دولة تحترم نفسها وقطاع مصرفي يحترم نفسه ويعمل في اطار القوانين السائدة، علماً ان هناك حاجة لاصدار قوانين وتشريعات لمعالجة الازمة ولكي يعود القطاع المصرفي الى عمله الطبيعي الذي ينصّ على استقطاب الودائع واقراض الاقتصاد، على ان تكون تلك الودائع وهذا الاقراض تحت رقابة حقيقية من قبل مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، رقابة توحي بالثقة وتبعث بالاطمئنان للمودعين الذين لا يملكون حالياً لا الثقة ولا الاطمئنان لاي طرف من الاطراف المعنيّة إن كانت الدولة او نظامها المصرفي!».
وختم حمود مشدداً على ضرورة تنظيم هذا الموضوع قبل الشروع به من اجل ضمان العودة الصحيحة والطبيعية للمصارف وفقاً للمعايير الدولية. معتبراً انه بوجود سياسة نقدية جافّة وسياسة تسليف «عرجاء» لا يمكن للاقتصاد ان ينمو بل سيستمرّ قائماً من خارج اطار التسليف وخارج اطار النظام المصرفي.
ترقيع بالانتظار
من جهته اعتبر الخبير المصرفي سمير طويلة ان استعادة المصارف لدورها الطبيعي واعتبارها «فريش بنك» تمارس مهامها الرئيسية من جديد من خلال الودائع الفريش، امر مستحيل! موضحاً لـ»نداء الوطن « ان كافة المصارف تحاول القيام بذلك من خلال السعي الى تشغيل الودائع الفريش عبر القروض والتسليف، إلا ان هذا المسعى ليس سوى محاولة «لتمرير الوقت والترقيع بهدف الاستمرار الى حين ايجاد حلّ لازمة الودائع وتبنّي خطة لاعادة تكوين الودائع التي لم تعد موجودة». ولن ينجح اي مصرف في هذا المسعى بسبب انعدام الثقة!
وبما ان اساسات عمل اي مصرف هي الرأسمال، الودائع، والتسليفات، سأل طويلة: كيف يمكن لمصرف من دون ودائع ومن دون رأسمال ان يعمل كـ»فريش بنك»؟ يمكن ان يعمل فقط كصندوق يأخذ حفنة الودائع الفريش التي ترده ويقرضها، «إلا ان هذا لا يعتبر عملاً مصرفياً حقيقياً!». مشدداً على ان الاولوية تكمن في خطة لاعادة تكوين الودائع واعادة تكوين رساميل المصارف.
محدود جداً
وفيما أشار إلى أن بعض المصارف يقوم بتسليف بعض العملاء بتشدد كبير وبشكل محدود وفقاً لعقود مبرمة بين الطرفين، من اجل تحقيق الارباح وتأمين ايرادات اضافية عبر فارق الفوائد بين الايداع الفريش (5%) والتسليف (7%) على سبيل المثال، إلا ان القانون لا يميّز بين «الفريش» وغير «الفريش»، ولا ضمانة على اعادة تسديد تلك القروض بالفريش دولار رغم وجود عقود بين الطرفين، لان القوانين السائدة لا تغطي العقود.
وأكد طويلة على ان عمليات التسليف الضئيلة التي تقوم بها المصارف حالياً، لا يمكن لا بل من المستحيل ان تتوسّع طالما لا يوجد حلّ لازمة الودائع، كما لا يمكن الاعتماد على تلك العمليات البسيطة للجزم بان القطاع المصرفي يستأنف نشاطه مجدّداً، لافتاً الى ان حجم السيولة النقدية الفريش في دورة المصارف يتعدّى الـ 3 مليارات دولار، ولكنّ نسبة الـ3% من السيولة النقدية التي يجب ايداعها في الخارج ليست مؤمّنة من قبل عدد كبير من المصارف. وبالتالي من يسعى للتسليف عليه تأمين تلك النسبة لاقراض الفائض عنها.
وختم طويلة مشدداً على ان «الفريش بنك» ليس الحلّ رغم انه مسعى يُمارس حالياً بشكل محدود جدّاً لا يمكن ان يساهم في تمويل الاقتصاد الذي يحتاج الى وجود مصارف تمارس دورها الحقيقي عبر الاقراض، التسليف، فتح الاعتمادات المستندية للاستيراد، الكفالات وغيرها…