مع بداية هذا الشهر، احتفى المصرف المركزي بزيادة جديدة في احتياطي العملات الأجنبيّة: 126 مليون دولار خلال النصف الثاني من شهر شباط. وبهذا الشكل، يكون المجلس المركزي للمصرف قد رفع قيمة الاحتياطات المتاحة بنحو مليار دولار، خلال الأشهر السبعة التي تلت رحيل الحاكم السابق رياض سلامة.
وهذا ما يتم استعراضه اليوم بوصفه “إنجازًا” ونقطة تحوّل في سياق الأزمة النقديّة. إذ لم يقتصر نجاح المصرف على مراكمة الاحتياطات بدل استنزافها، بل فعل ذلك من دون أنّ يهدّد استقرار سعر صرف الليرة.
إحذروا من “بونزي سكيم” جديد
غير أنّ تجربتنا مع رياض سلامة، مهندس “أنجح” مخطط احتيالي (أو “بونزي سكيم”) في العصر الحديث، تعلّمنا درسًا مهمًا لا ينبغي تجاهله اليوم: لا تحتفل بزيادة الاحتياطات وحدها، أي بزيادة ما يملكه المصرف من سيولة بالعملات الأجنبيّة. بل إبحث عن التغيّر في صافي الاحتياطات، أي الفارق بين الموجودات والإلتزامات. التمييز بين مفهوم الاحتياطات، ومفهوم صافي الاحتياطات، يسمح لك بالتمييز بين الإنجاز الحقيقي و”البونزي سكيم” الاحتيالي.
فقبل العام 2019، لطالما احتفى سلامة بزيادات معتبرة في احتياطات العملات الأجنبيّة التي يملكها مصرف لبنان، وخصوصًا في مرحلة الهندسات الماليّة. ثم تبيّن أن المصرف المركزي كان يراكم –خلال الفترات نفسها- أضعاف هذه المبالغ كإلتزامات على المصرف لمصلحة المصارف التجاريّة. كان تزايد الإلتزامات على مصرف لبنان بالعملة الصعبة يتم أولًا عبر إيداع المصارف أموال المودعين لدى مصرف لبنان، وثانيًا عبر تراكم الأرباح والفوائد لمصلحة المصارف، في حساباتها لدى المصرف المركزي.
هكذا، كان مصرف لبنان قبل العام 2019 يحقق الزيادات في ما يحمله من احتياطات، عبر استقطاب دولارات المصارف إلى خزائنه، وكان ينفق من هذه الاحتياطات لتمويل التحويلات إلى الخارج وتسديد الفوائد. لكن في المقابل، كانت العمليّة تُنتج مبالغ أضخم بكثير كديون على المصرف المركزي، لحساب المصارف. وبهذا الشكل، كان صافي الاحتياطات، أي الفارق السلبي بين الموجودات والإلتزامات بالعملة الصعبة، يرتفع، وهو ما أسّس لما بتنا نعرفه اليوم بـ: كتلة خسائر مصرف لبنان، وللعمليّة التي باتت تُعرف على نطاق واسع على أنّها مخطط “بونزي”.
فضلًا عن ضرورة التمييز بين الاحتياطات وصافي الاحتياطات، تعملّنا تجربة رياض سلامة أنّ الميزانيّة لا تخلق قيمة ما من العدم. وعلى من يقرأ الميزانيّة أن يبحث عن المصدر الذي أفضى لتراكم كل دولار في الاحتياطات، لمعرفة كلفة استقطاب هذا الدولار. زيادة الاحتياطات، لا تعني شيئًا، إذا لم نقرأ أو نراجع كيفيّة تحقيق هذه الزيادة!
إذًا، كل ما سبق ذكره يدفعنا للعودة إلى الخلاصة الأساسيّة: على اللبنانيين أن يحذروا من تكرار نموذج “البونزي” اليوم، خصوصًا حين تتسم تطوّرات ميزانيّة مصرف لبنان بالغموض، وحين تكثر الأسئلة والشكوك في معايير الإفصاح المالي التي يعتمدها المصرف المركزي.
على اللبنانيين أن يحذروا دائمًا من ظهور أو ولادة رياض سلامة آخر في مصرف لبنان. وبما أننا نعتمد الهيكلية الإداريّة نفسها للمصرف المركزي، التي تجعل الحاكم –أو من ينوب عنه- فرعونًا ماليًا، فعلينا أن نخشى دائمًا من شبح رياض سلامة.
من أين جاء مصرف لبنان بالـ126 مليون دولار؟
الخشية من رياض سلامة آخر، تدفعنا للبحث في مصدر الـ126 مليون دولار، وفي ما تراكم مقابلها من إلتزامات على مصرف لبنان.
من أي جاء المصرف بهذا المبلغ؟ وماذا تراكم مقابله من إلتزامات؟ وماذا لو أن المصرف زاد إلتزاماته بقيم أكبر بكثير من زيادة الاحتياطات؟ بمعنى أوضح: ماذا لو أنّ المصرف زاد الاحتياطات، لكنّه زاد العجز –أو القيمة السلبيّة- لصافي الاحتياطات بالعملات الأجنبيّة (أو حتّى: بالدولار “الفريش”)؟ ماذا لو كان مصرف لبنان يخلق خسائر جديدة “فريش”، بالدولارات “الجديدة”؟
خلال النصف الثاني من شهر شباط 2024، وفي مقابل الزيادة المحققة بقيمة 126 مليون دولار في الاحتياطات، تراكم في ميزانيّة مصرف لبنان ما يلي من إلتزامات، أي في خانة الديون:
– ارتفعت إلتزامات المصرف المركزي لمصحلة المصارف التجاريّة بأكثر من 162 مليون دولار. لم تتضح نسبة الإلتزامات المدولرة من أصل هذا المبلغ، ونسبة الإلتزامات الناتجة عن ودائع “الفريش دولار” التي تراكمها المصارف لدى مصرف لبنان. وهذا يتصل بانعدام الشفافيّة في الميزانيّات. وقلّة الشفافيّة هذه، موروثة من أيّام رياض سلامة، الذي علّم الذين خلفوه سرّ المهنة: أن لا يميّزوا الإلتزامات المدولرة من غير المدولرة في الميزانيّة، كي لا يكشف أحد التغيّر في صافي الاحتياطات. على أي حال، ما يهمّنا هنا هو أنّ زيادة إلتزامات المصرف المركزي للمصارف، بمعزل عن عملة الإلتزامات، تفوق الزيادة في الاحتياطات بنحو 36 مليون دولار. هذه الزيادة، هي زيادة في حجم عجز الميزانيّة، أو الخسائر.
– ارتفعت إلتزامات المصرف المركزي لمصلحة القطاع العام بأكثر من 124 مليون دولار، وهو ما يوازي وحده تقريبًا قيمة الزيادة في الاحتياطات! لم يتضح كذلك حجم الزيادة الناتجة عن إيداعات القطاع العام بالفريش دولار لدى مصرف لبنان، وتلك الناتجة عن إيداعات القطاع العام بالليرات، لكن هذه المبالغ هي ديون يجب تسديدها يومًا ما لصالح الدولة (إلا إذا الخطّة هي ابتلاعها، أي أن “البونزي” الجديد هو على حساب الدولة والمال العام). وتمامًا كحال الإلتزامات للقطاع المصرفي، يبقى هذا الغموض والإلتباس جزءًا من سرّ المهنة ومن إرث رياض سلامة.
– ولدت إلتزامات أخرى بقيمة 47 مليون دولار، من بينها 13 مليون دولار هي كناية عن زيادة في حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة، أي زيادة في قيمة السيولة التي يمكن أن تتحوّل في أي لحظة إلى طلب على الدولار الأميركي.
هكذا إذًا، ثمّة ما يشير بوضوح إلى أنّ زيادة الاحتياطات يقابلها زيادة ما في “عجز” مصرف لبنان، أو في صافي الاحتياطات السلبي، أو في الحفرة الماليّة التي يغرق فيها.
كيف يستعمل مصرف لبنان دولاراته، التي يجمعها مقابل زيادة الإلتزامات؟ نحن لا نعرف. لم تولد منصّة التداول بالعملات الأجنبيّة الشفّافة بعد. وكم يترتّب على مصرف لبنان من ديون بالدولار “الفريش” للمصارف وللقطاع العام؟ نحن لا نعرف، القيادة الجديدة للمصرف المركزي لا تعلن عن ذلك. من أين أتى مصرف لبنان بالدولارات الجديدة؟ من السوق أو من الإيداعات؟ أو من الإثنين معًا؟ هل ينفق مصرف لبنان من هذه الدولارات، بعد استقطابها؟
هل هناك رياض سلامة جديد في المصرف المركزي؟ هل ما زالت روح سلامة تحوم في أروقة المصرف؟ لا يمكن أن نعرف، وفقًا لما يعلنه مصرف لبنان من أرقام. الأكيد، هو أنّ ما يخفيه مصرف لبنان يبقي “البونزي سكيم” الجديد احتمال وارد، ولا ينفيه.
والأكيد أيضًا، هو أن تجربتنا مع سلامة تعلمنا الخوف من الغموض والإلتباس وقلّة الشفافيّة.