في أقلّ من سنة، صدرت لصندوق النقد الدولي ثلاث أوراق بحثية عن مؤسسات وعمليات الإقراض «الزومبي»، في دلالة واضحة على الاهتمام العالمي بهذه المؤسسات وعملياتها. الأولى، كانت عن استفاقة مؤسسات «الزومبي» أو «الأموات الأحياء» حول العالم في حزيران 2023، والثانية في أيلول عن قناة الإقراض «الزومبي» للسياسة النقدية، والثالثة في شباط الماضي عن محدّدات مصارف «الزومبي» في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية.
يعرّف «المصرف الزومبي» بأنه مصرف متعثّر تسجّل ميزانيته العامة كمّاً كبيراً من الأصول المتعثّرة، ما يتطلّب تصفيته وفقاً للمعايير القانونية التقليدية، لكنه يستمرّ في العمل بفضل التسامح التنظيمي لمنع الذعر من الانتشار إلى المصارف الأخرى التي تكون في وضع أفضل. أوّل من أطلق هذا المصطلح، إدوارد كين من كلية بوسطن في عام 1987، في إشارة إلى أزمة المدّخرات والقروض في بلاده، حيث هدّدت خسائر الرهن العقاري التجاري بمحو مؤسسات الادّخار والقروض. وبدلاً من تركها تغرق، سمح صنّاع السياسات للعديد منها بالبقاء في مجال الأعمال على أمل انتعاش السوق، لكنهم تخلوا عن هذه الاستراتيجية عندما تضاعف عدد ضحايا «الزومبي» ثلاث مرات.
مصارف في الإنعاش
على الرغم من سهولة إدراك مفهوم «المصرف الزومبي»، إلا أنّ تحديده ليس بالأمر السهل. ففي كثير من الأحيان، لا يستطيع المنظّمون والمحلّلون مراقبة الأداء التشغيلي لهذه المصارف بشكل مباشر من خلال التقارير المالية. والسبب الرئيس هو أنّ مُعدّي هذه التقارير قد يميلون إلى إخفاء الحجم الحقيقي للقروض المعدومة من خلال تجديد الائتمان باستمرار لمقترضيها المتعثرين.
عادة، فإن المصرف الذي يتكبّد خسائر جسيمة، يعلن إفلاسه وتباع أصوله ويحجز على أموال وممتلكات القيّمين عليه لسداد أكبر قدر ممكن من الديون للمودعين والدائنين، إلا إذا تقرر إنقاذه بوسيلة من وسائل الإنقاذ المعروفة، إحداها مستجدّة، وهي إبقاؤه على أجهزة الإنعاش، بدلاً من السماح للطبيعة بمتابعة مسارها، مع نقاش حول الوقت المناسب لاتخاذ القرار بإيقاف هذه الأجهزة.
الحجّة الأساس التي يدافع عنها مؤيّدو «المصارف الزومبي»، هي أن إغلاقها يمكن أن يتسبّب في حال من الذعر على نطاق واسع، فتُشلّ معه الحياة الاقتصادية. في المقابل، يرى منتقدو هذه المصارف أن السماح لها بمواصلة العمل ينطوي أيضاً على عيوب وأخطار جسيمة ومتنوّعة؛ فمساندتها أو محاولة إعادتها إلى عافيتها، يمكن أن تكلّف كمّاً هائلاً من الأموال، ما يكون له تأثير على النمو الاقتصادي. وبعدم تصفيتها، يصبح رأس المال الاستثماري محاصراً بدلاً من استخدامه على نحو أفضل إنتاجية. علاوة على ذلك، فبدلاً من تعزيز الشركات السليمة ودعم التعافي الاقتصادي، يتمّ دعم «المصارف الزومبي»، ما يؤدي في النهاية إلى سوء تخصيص الموارد وتشويه آليات السوق وإضعاف النظام المالي برمته.
اجتاحت ظاهرة «المصارف الزومبي» الاقتصادات المتقدّمة خلال العقود الثلاثة الماضية. فكما فعلت الولايات المتحدة أثناء أزمة الإدخارات والقروض عام 1987، أبقت اليابان مصارفها في حالة إعسار بعد انفجار فقاعة الإسكان في عام 1990 بدلاً من إعادة رسملتها أو السماح لها بالإفلاس، والى الآن، وبعد مرور ما يقرب من 30 عاماً، لا تزال المصارف اليابانية «الزومبي» تحتفظ بكميات كبيرة من القروض المتعثرة في دفاترها. وبدلاً من مساعدتها على التعافي، حبست هذه المصارف الاقتصاد في فخ انكماشي.
مفهوم تاريخي
كذلك ارتكبت منطقة اليورو الخطأ نفسه بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، فقد عمدت مصارفها «الزومبي» المحمّلة التزامات سامة، إلى زيادة الإقراض لعملائها المتعثرين، معتمدة على سيولة البنك المركزي الأوروبي لتجنّب تكبّد المزيد من الخسائر على القروض المستحقة. نجم عن ذلك، سوء تخصيص ائتماني ألحق الضرر بالشركات ذات الجدارة الائتمانية الجيدة وأطال مدة التعافي لعدم تمكن مصارف «الزومبي» من استيعاب الخسائر بعد إفلاس عملائها «الزومبي» أيضاً، على الرغم من نظام التمويل الرخيص الذي أقرّه المصرف المركزي الأوروبي لدعمها. ولا تزال المصارف الأوروبية ترزح حتى تاريخه تحت عبء ديون معدومة بقيمة تريليون دولار.
تعاطت الولايات المتحدة الأميركية مع أزمة الرهونات العقارية لعام 2008 على ضوء خبرتها المكتسبة من أزمة الادخارات والقروض عام 1987، فاعتمدت اختبارات إجهاد صارمة وأجبرت «مصارف الزومبي» على إعادة تكوين رؤوس أموالها وزيادتها، وبيع الأصول القديمة السامة، واعتمدت إلى جانب ذلك سياسات تيسير كميّ لمساعدة فئة أخرى من المصارف لم تسفر إلا عن تأجيل اليوم الذي اضطرت فيه هذه الأخيرة إلى شطب القروض المعدومة.
معظم الدراسات والأبحاث عن «مصارف الزومبي»، كان موضوعها الدول المتقدمة، لتوافر البيانات المالية والإحصائية التي تساعد في الفهم والتحليل. وشكّلت الورقة البحثية التي أصدرها صندوق النقد الدولي في شباط الماضي استثناء، حيث تناولت أصول «مصارف الزومبي» ومحدداتها في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية.
ورقة صندوق النقد
بداية، تقرّ هذه الورقة بأنه من غير العملي اكتشاف «المصارف الزومبي» بناءً على الخسائر الخفية. وعليه، تعرّفها بأنها تلك التي تعاني من صافي قيمة سلبية في بياناتها المالية أو من نقص خطير في رأس المال يتطلّب إعادة الرسملة أو إعادة الهيكلة من جانب المالكين أو التأميم أو الخصخصة، أو عمليات دمج واستحواذ، وهي الأكثر شيوعاً في المعالجة، أو اللجوء إلى التصفية، وتتّخذ التدابير التصحيحية لهذه المصارف خلال عام من تاريخ إعلان الخسارة في البيانات المالية أو النقص في رأس المال. وارتفعت هذه المهلة إلى عامين بالنسبة إلى 77 في المئة من مصارف الدول التي تناولتها ورقة البحث في مناطق آسيا والمحيط الهادئ وأوروبا وأفريقيا والأميركيتين.
من أهم العوامل التي تحفّز ظهور «مصارف الزومبي» والتسامح باستمرارها عمل هذه المصارف في بلد يعاني من ارتفاع مستوى الفساد، حيث يتمّ إقراض الأموال لمن هم في السلطة، فيبدي هؤلاء عدم اهتمام بالسداد أو عدم استعداد له. أو في بلد يوجد فيه عدد محدود من فروع المصارف، خصوصاً في المناطق الريفية، ما يشكّل حافزاً لإبقاء المصارف ذات الأداء السيّئ لتوفير الخدمات المالية. كذلك تظهر «مصارف الزومبي» في بلد يعاني من نقص في رأس المال، فتساهم هذه المصارف وفروعها في استقبال تدفق احتياجاته من الأموال والائتمان من الخارج.
من جهة أخرى، قد تتحوّل المصارف إلى «مصارف زومبي» بسبب حصول أزمات عامة من نوع أزمات الديون و/أو العملة و/أو الأزمات المصرفية. وقد تظهر فرصة سانحة للعلاج إذا كانت عملية تنظيف القطاع المصرفي جزءاً من شروط برنامج صندوق النقد الدولي للمساعدة في التغلّب على الأزمة في البلد الذي يطلب هذه المساعدة، كما حصل مع النيبال وباكستان ومولدوفا.
واللافت عدم توقّف ورقة صندوق النقد البحثية عند الأزمة اللبنانية، للتركيز على تمايزها عن الأزمات الأخرى التي أفرزت العديد من «مصارف الزومبي». فاندلاعها يعود إلى أكثر من أربع سنوات، وقد صنّفها تقرير مرصد الاقتصاد اللبناني الصادر عن البنك الدولي، من أكثر الأزمات حدّة منذ أواسط القرن التاسع عشر، واعتبرت أول أزمة في التاريخ المعاصر يتسبّب بها مصرف مركزي لتجاوزه قانون إنشائه وأعرافاً نظامية وطنية ودولية في استقطابه القسم الأعظم من ودائع المصارف بالدولار، وفقاً لآلية «بونزي سكيم»، وإنفاقها في الدفاع عن سعر صرف تمّ تثبيته بشكل مخالف للأصول، وفي تلبية احتياجات قطاع عام فاسد، حيث يحتلّ لبنان مراتب دنيا في «مؤشر مدركات الفساد» الذي تنشره «منظمة الشفافية الدولية»، وآخرها المرتبة 149 من أصل 180.
تهديد علاقة لبنان بالنظام المالي الدولي
وما دفع لحصول الانحراف، وبالتالي الانهيار في لبنان، سيطرة وازنة للنخب السياسية على القطاع المصرفي بتماهٍ مع سياسات البنك المركزي الذي سيطر على الأمور وأدارها بعقلية «البروكر» (أو الوسيط) من دون أي حسيب أو رقيب بحسب التقرير الجنائي الذي أعدّته شركة الاستشارات «ألفاريز ومارسال» عن عمليات المصرف ما بين عامي 2015 و2020 تنفيذاً لطلب صندوق النقد الدولي.
أسفرت الأزمة اللبنانية عن ضمور هائل في حجم رساميل المصارف من نحو 20 مليار دولار إلى نحو مليار دولار بفعل فقدان الليرة نحو 90 في المئة من قيمتها، إضافة إلى تسجيل فجوة بنحو 70 مليار دولار في بياناتها بسبب تعثر مصرف لبنان برد توظيفاتها لديه إليها، ما دفعها إلى تقييد سحوبات مودعيها بالدولار وإقران هذه السحوبات بـ»هيركات» قاسية تعدّت الـ80 في المئة، استخدمت لإطفاء جزء من خساراتها وخسارات مصرف لبنان.
وكان مصرف لبنان قد طالب في آب 2020 كل مصرف بوضع خطة للاﻤﺘﺜﺎل بشكل متدرّج لكل النصوص القانونية واﻷﻨظﻤﺔ، لا سيما المتعلّقة ﺒالسيولة والملاءة، وعرضها على المجلس المركزي لمصرف لبنان للحصول على موافقته عليها خلال الفصل الأول من عام 2021، مع التهديد بإحالة المصرف المخالف أمام الهيئة المصرفية العليا التي يرأسها الحاكم لإنزال العقوبات الإدارية المناسبة به، بما فيها الإحالة على القضاء، لتطبيق الأحكام التي ترعى توقف المصرف عن الدفع (القانون 2/67) ووضع اليد عليه (القانون 110/91 وتعديلاته)، لكن ذلك لم يحصل. فتدخلت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الشهر المنصرم بمشروع قانون لمعالجة أوضاع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها، ما ترك انطباعاً عن وجود نوع من التخبط.
في ما يخص المرجعية المعنية فعلاً بمعالجة موضوع «المصارف الزومبي» أو وجود نوع من التمييع في بتّ الأمور، بدليل دخول لبنان السنة الخامسة من الأزمة من دون حصول أي تقدم في اتجاه أي حل. وهو أمر بات يهدّد علاقة لبنان بالنظام المالي الدولي لأنه يكرّس مصارفه «الزومبي» ومعها الاقتصاد النقدي، وبالتالي الاقتصاد غير الشرعي وتبييض الأموال، خصوصاً أن مقاصة المدفوعات بالدولار «الفريش» تجري وفقاً للتعميم 165 من خلال حسابات تفتحها المصارف لدى مصرف لبنان، وليس لدى المصارف المراسلة. ويسهّل الإطار المذكور عمليات تبييض الأموال، ومن بينها تلك المستخدمة في تمويل «حزب الله» و»حماس» بحسب الرسالة الأميركية التي قيل إن جيس بايكر، رئيس وفد الخزانة الأميركية، قد حملها أخيراً إلى المسؤولين اللبنانيين. علماً بأن رئيس جمعية مصارف لبنان سليم صفير يجاهر بالقول «إن ‹المصارف الزومبي› ليست في حاجة لأية إصلاحات، إذ يكفي أن يردّ مصرف لبنان أموالها إليها لكي تحلّ كل الأمور».
«ألفاريز ومارسال»
وكان تقرير «ألفاريز ومارسال» قد كشف أن مصرف لبنان هو نفسه «مصرف زومبي»، إذ استخدم معايير محاسبية «غير تقليدية» لتحضير البيانات المالية للمصرف ونشرها على نحو غير شفّاف، أظهر أن المصرف يحقّق أرباحاً، نصيب وزارة المالية منها 40 مليون دولار سنوياً، بينما هو واقع في الحقيقة، في عجز منذ عام 2015، بلغت قيمته 50,7 مليار دولار في نهاية عام 2020، نتيجة فروقات عمليات القطع والهندسات المالية وتكلفة استقطاب العملات الأجنبية من خلال شهادات الإيداع والودائع وغيرها، وتمّ تسجيل العجز في بند «أصول أخرى»، على أمل إطفائه من أرباح مستقبلية، منها الأرباح المتأتية من طباعة النقود وطرحها في التداول.