حدّد القائم بمهام حاكم مصرف لبنان د. وسيم منصوري خلال لقاء نظمه مؤخراً Leaders Club ملامح رؤيته للخروج من الازمة فذكر انها تعتمد، بعد ان تم توحيد سعر الصرف، على اربعة اعمدة:
1. المحاسبة عبر القضاء اللبناني
2. ردّ أموال المودعين وتنظيم علاقتهم مع المصارف
3. إعادة اطلاق عمل القطاع المصرفي
4. إعادة بناء الدولة واصلاحها.
وإذا لم يتم القيام بهذه الخطوات الاربع بشكل متواز، كل حسب اختصاصه، فنحن أمام خطر وجودي ولا يمكن الاستمرار بهذه الطريقة
(0) سعر الصرف
يذكر د. منصوري ان ارضية الخروج من الازمة قد تمت تهيئتها بتوحيد سعر الصرف على 89500 ل.ل للدولار الواحد «فميزانيات المصارف والمصرف المركزي وموازنة الدولة صارت على هذا الرقم».
كلام غير كاف، فالخلاف وكما هو معروف ما زال قائماً حول سعر صرف سحوبات المودعين الدولارية من المصارف، ومن يحدده في حال ابقائه متمايزاً عن السعر الذي تم اعتماده في ميزانيات المصارف والمصرف المركزي وموازنة الدولة؟ هل هو مصرف لبنان ام وزارة المالية ام مجلس الوزراء ام مجلس النواب ؟ علماً ان ادبيات مصرف لبنان طوال العقود الثلاثة الماضية كانت تعتبر، بلسان الحاكم السابق سلامة، ان سعر الصرف للسحوبات الدولارية من المصارف الواجب الاعتداد به هو ذلك المعتمد في تعاملات مصرف لبنان مع المصارف. ولا يجوز بالتالي التلاعب بأمر جد حيوي للمواطنين كسعر الصرف واصول تحديده عند كل تغيير في حاكمية مصرف لبنان.
جدير بالذكر ان الاطار الدستوري والقانوني للموضوع تتناوله المادة 65 من الدستور التي تنص على ان مجلس الوزراء هو المرجع المختص برسم السياسات العامة في كل المجالات من دون اي استثناء، والمادة 33 من قانون النقد والتسليف التي تذكر ان المجلس المركزي لمصرف لبنان هو الذي يحدد السياسة النقدية، والمادة 72 التي تطالب الحكومة ومصرف لبنان بالتشاور بأمور النقد. واعمال المواد السابقة تقضي بضرورة توافق مجلس الوزراء ومصرف لبنان، وعلى ضوء امكانات الاخير، على سعر الصرف الذي يتعين على المصرف «استهدافه» لا «تثبيته» مع وزير المالية اثناء التدخل في سوق القطع لاستقرار هذا السوق وليس لتثبيته، كما تذكر المادة 75 في ترجمة خاطئة لنصها الذي وضع اصلاً بالفرنسية وتحدث عن استقرار في الاسعار ومعدلات الصرف stabilité des prix et des taux de change وهذا ما هو معتمد في نصوص جميع قوانين المصارف المركزية في العالم لكن الترجمة الى العربية أتت بتعبير تثبيت fixation القطع وانشاء صندوق لهذا التثبيت؟
جدير بالذكر ان قرار وزير المالية رقم 883/73 يشير الى ان السعر المتوسطي المعتمد للضرائب والرسوم التي تستوفيها الدولة عن المبالغ المحررة بالعملات الاجنبية هو متوسط الاسعار الفعلية خلال شهر سابق، ما يعني انه بعد اعتماد قانون الموازنة سعر صرف ثابتاً للدولار للضرائب والرسوم، فان هذا يستتبع حكماً اعتبار سعر الصرف المعتمد سعراً واقعياً ويجب اعتماده في جميع المجالات بما فيها السحوبات من المصارف، ولا ضرورة بالتالي لكل النقاش الجاري حالياً بالموضوع منذ مدة.
(1) المحاسبة
يرى د. منصوري ان العمود الاول لخطة الخروج من الازمة هو المحاسبة عبر القضاء اللبناني.
كلام جد صائب من حيث المبدأ والعنوان ويعيد الى الذاكرة قولاً للرئيس الايسلندي Ólafur Grímsson في «ان السبب الاساسي لنجاح بلاده في تجاوز ازمتها المالية هو تحديدها المسؤولين عن الازمة وارسالهم الى القضاء ثم الى السجن، ومصادرة ممتلكاتهم واموالهم وتتبع تفرغاتهم حتى في الجنات الضريبية. ما اعاد تظهير بلاده امام المجتمع الدولي والاسواق المالية على انها «دولة قانون»، امر ساعد على ارتقائها سريعاً وتسجيلها بعد ثماني سنوات من الازمة اعلى درجات النمو عالمياً وبلغت 7.2%، كما ارتقائها الى الدرجة الثالثة عالمياً بعد فنلندا والدنمارك في مؤشر السعادة الذي صدر مؤخراً في حين احتل لبنان وأفغانستان المركزين الأخيرين في قعر اللائحة.
كما يعيد كلام د. منصوري الى الذاكرة ما قالته Christine Lagarde، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، خلال ندوة نظمها الاحتياطي الفيدرالي في 5 تشرين الثاني 2015، وكانت حينها المدير العام لصندوق النقد الدولي، اذ ذكرت «أنه من الضروري تحميل المصرفيين المسؤولية الكاملة، أكانت مدنية أم جزائية، عن أفعالهم في حالة ارتكابهم المخالفات القانونية. ويجب ألا يكونوا قادرين على الإفلات من العقوبات بدفع الغرامات فقط، فتدبير كهذا أثبت محدوديته».
لقد أحسن د. منصوري باستعمال تعبير «المحاسبة» بدلاً من الكلام الشعبوي الذي بات ممجوجاً عن تحديد المسؤوليات وتراتبياتها في حين ان المطلوب تحديد واضح للتبعات القانونية لكل معني. لكنه جانب الصواب بالقول: «(1) ان مصرف لبنان لا يملك أي آلية قانونية للمحاسبة (خارج اطار الهيئة المصرفية العليا وهيئة التحقيق الخاصة التابعة للقضاء). و(2) أن هناك سرية مصرفية تقف عائقاً».
فالمادة 206 من قانون النقد والتسليف تطالب بنص صريح وواضح من مصرف لبنان بملاحقة مخالفات القانون المذكور من خلال النيابة العامة امام المحاكم الجزائية ووفقاً للاصول العاجلة، ومعروف ان الازمة الراهنة ما كانت لتحصل لولا ارتكابات خطيرة اتاها، خلافاً لقانون النقد والتسليف، مصرفيون ومسؤولون وعاملون لدى مصرف لبنان والهيئات المنشأة لديه بما فيه قائمون بخدمة عامة من مسؤولين حكوميين ومدراء عامين وغيرهم، واغلبهم معروفون بالاسم وارتكاباتهم محددة تتناقلها وسائل الاعلام واورد عدداً منها تقرير Alvarez & Marsal. من جهة اخرى تنص المادة 26 من قانون النقد والتسليف ايضاً وبوضوح ان الحاكم (وبالتاكيد القائم بمهامه) هو من يجيز اقامة جميع الدعاوى القضائية باسم مصرف لبنان ويتخذ جميع الاجراءات التنفيذية او الاحتياطية التي يرتئيها…؟ لكن للاسف لم يسجل اي ادعاء من قبل د. منصوري منذ تسلمه زمام الحاكمية منذ بداية آب المنصرم ولا يصح هنا قوله بـ»ان دور مصرف لبنان تمّ بالكامل وكل المستندات التي كان يجب ان تسلّم الى القضاء اصبحت بيد الاخير»، فهذا كلام منقوص ولا يحقق المطلوب وواجباته حسب المادة 206 وهو «الادعاء المباشر من قبل المصرف المركزي» ضد المرتكبين حسب النص الواضح للمادة الاخيرة.
كما لا يجوز ايضاً في هذا المضمار التذرع بالسرية المصرفية كما اشار الى ذلك بقوله بوجود عائق امام الموجب الملقى على عاتق مصرف لبنان بملاحقة المرتكبين. فالسرية هي لحماية المودع الشريف في خصوصياته ولا تغطي ولا يجب ان تغطي الارتكابات والمخالفات التي يعاقب عليها القانون حسب Leo Schürmann كبير قانونيي المصرف المركزي السويسري، فهناك فرق بين السر المصرفي secret bancaire الذي هو ذات طبيعة مهنية secret de profession ويغطي العمليات العادية والمألوفة، وسر الوظيفة secret de fonction، فهذا الاخير يتعلق بادارة المصرف المركزي ويتعين بمقتضاه ضرورة كشف المسؤولين فيه للقضاء عن اية ارتكابات يعاقب عليها القانون، وتتصل بعلمهم اثناء ادائهم لمهامهم والا اعتبروا متكتمين على هذه الارتكابات. وهذا ما يقتضي اعماله في لبنان عملاً بالمادتين 350 و398 من قانون العقوبات والاخيرة تتعلق بكتم الجنايات والجنح وعقوبته، واي قول مخالف لذلك لا يمكن ان يستقيم لانه يفقد المادة 206 من قانون النقد والتسليف مبرر وجودها.
لقد انتبه القانونيون الذين شاركوا في المؤتمر الذي عقد خلال يومي 15 و 16 تشرين الاول من عام 1971 بتنظيم من «مركز الاقتصاد المصرفي العالمي»، و»المركز الجامعي للدراسات للمجموعة الاوروبية التابع لجامعة باريس»، الى اهمية الموضوع المحكي عنه، فاصدروا عدداً من القرارات من بينها عدم سلامة الاعتداد بالسر المصرفي ازاء ارتكابات يعاقب عليها القانون. في ما يلي النص الحرفي للقرار المذكور.
Les participants au colloque considérant que les droits des Etats membres de la communauté devraient admettre que le secret bancaire n›est pas opposanté à un juge quand une procédure est
ouverte pour un fait constituent un délit selon la loi du pays du juge.
(2) ردّ أموال المودعين
العمود الثاني في خطة د. منصوري هو «ردّ أموال المودعين وتنظيم علاقتهم مع المصارف»
وقد أتى للاسف كعنوان من دون مضمون، اذ تساءل د. منصوري «ما هو الاجراء الفعلي الذي قامت به الحكومات والبرلمانات التي تعاقبت على الحكم منذ بداية الازمة؟ وجوابه كان لا شيء». معترفاً بأمر جد خطير وهو «ان السلطة السياسية الحالية لن تستطيع اتخاذ اي قرار فعلي وواقعي لمواجهة الناس بخسائر تتجاوز 70 مليار دولار، والحل الوحيد هو تأجيل حل المشكلة بتناقض مع ما قاله في يوم من الايام السياسي والفيلسوف الروماني Sénèque بان ترك الحل لارادة لاحقة في المستقبل معناه عدم وجود ارادة حل (وليس تأجيل الحل)
Vouloir tard, ce n›est pas vouloir
وعزز د. منصوري حجته بالقول: «إن حجم الناتج المحلي انخفض من 55 مليار دولار الى 20 ملياراً، والموازنة من 17 الى 3.2 مليارات، وهناك ازمة امنية في الجنوب خانقة للحركة الاقتصادية وفراغ في رئاسة الجمهورية، ورئيس الحكومة قدم خطة لإعادة هيكلة المصارف، لكن هذا المشروع لا يمكن تطبيقه لان ارقامه تفتقر الى الوضوح وفي ظل كل هذه الظروف هناك من يريد ايجاد حل لكل اموال المودعين».
في المقابل ذكر د. منصوري ان مصرف لبنان كان هو صاحب المبادرة من خلال التعاميم التي أصدرها باشارة الى التعميمين 158 و166 اللذين كانا البداية بإعادة الاموال الى المودعين، بالطبع مع تفادي اي كلام عن تشوهاتهما كالهيركات القاسي الذي تكبده المستفيدون من التعميم الاول ثم تخفيض ما يسحبونه من دون مبرر من 400 الى 300 دولار شهرياً، وايضاً من دون اشارة الى ان المستفيدين من التعميم 166 من اصحاب الاموال غير المؤهلة الذين حولوا اموالهم من الليرة الى الدولار(أو اللولار بالاصح) بعد الانتفاضة، يتقاضون سنداً للمادة السابعة من التعميم المذكور نصف سحوباتهم من المصارف والنصف الآخر من الاحتياطي او التوظيفات الالزامية التي تكونت عملياً لدى مصرف لبنان من دولارات حقيقية لم يدفعوها هم، بل دفعها المعنيون بالتعميم 158 قبل الانتفاضة ما يصعب معه تصنيف التعميم 166 في خانة اعادة الحقوق بقدر ما هو بالحقيقة سلب واضح لها، بمعيار آخر يضاف الى سلسلة عمليات النهب والسرقة والتذويب الجارية على فدم وساق على الودائع (المقدسة).
أيضاً ركز د. منصوري في كلامه على اشكاليات عدة تحد من استرجاع فئات من المودعين لودائعهم مثل تجار الشيكات والذين اثروا عموماً خلال الازمة وبسببها، وتساءل هل من المنطقي ان يحصلوا على ودائعهم بنفس الآلية التي يحصل عليها مودع جمع امواله من تعويضات عمله مثلاً؟ واقتراحه كان بدفع ضرائب (ولو بصورة لاحقة)على كل من استفاد من صيرفة ومن الفوائد العالية، وهو امر سيتم الاعتراض عليه على الغالب بمقولة عدم جواز رجعية القوانين.
ذات الامر يسري على اقتراحه بفرض ضريبة على المدينين للمصارف بالدولار الذين اوفوا ديونهم او حولوها لليرة اللبنانية على اسعار صرف منخفضة، وغالبيتهم من الـ Pep s اي المكشوفين سياسياً، فهذا الاقتراح يخلع صفة الشرعية على تصرفاتهم التي هي في حقيقتها غير قانونية ويجب بدلاً من ذلك اعلان بطلانها حفاظاً على اموال المودعين وهو امر مندوب مصرف لبنان لقيادته. اذ لا يمكن الاستناد في تبرير الاقتراح الى ما تنص عليه المادة 7 نقد وتسليف من قوة ابرائية للاوراق النقدية من فئة الليرة وما فوق لتبرير سلامة الايفاء. فحكم المادة 7 يسري فقط على الالتزامات بالليرة اللبنانية وليس على ايفاء الالتزامات المحررة بالعملة الاجنبية، لان الامر يتطلب في الحالة الاخيرة اضافة جملة او فقرة على المادة 7 تفيد عن سعر الصرف الذي يتعين اعتماده اصولاً للعملة الاجنبية عند السداد بما يعادلها بالليرة اللبنانية، تماماً كما يفعل القانون الفرنسي. وفي غياب هذه الاضافة لا يمكن اعمال المادة 319 من قانون العقوبات اللبناني التي تعاقب على عدم التقيد بالمادة 7 لعدم اكتمال جميع عناصر المخالفة في هذه المادة (لمزيد من الايضاح يمكن مراجعة مقالنا بعنوان: «مصرف لبنان يتعمّد تفسيراً مغلوطاً للمادة 7 من قانون النقد والتسليف» المنشور في «نداء الوطن» بتاريخ 15 آذار 2023)، واغفال مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف عن ادارة ملف القروض الدولارية الآنفة الذكر بطريقة قانونية وصحيحة، أضاع على المودعين ما يقارب الثلاثين مليار دولار ويجب تصحيح الامور بأسرع وقت وترتيب التبعات القانونية على المتقاعسين عن ذلك.
أيضاً تطرق د. منصوري الى اهمية التمييز بين الودائع المشروعة وغير المشروعة فلا يجب ان ترد بنظره الا تلك التي يثبت اصحابها شرعيتها؟ والحجة ان الامر سائد في كل بلدان العالم بمقتضى قاعدة «إعرف عميلك» KYC وتجدد المصارف التأكد من متطلبات هذه القاعدة باستمرار.
والطريف في الامر ان اموالاً غير مشروعة استعملت منذ استقلال لبنان ولاحقاً عند وبعد اقرار قانون السرية المصرفية وتستعمل (ولتاريخ تحرير هذا المقال) في تحرير رؤوس اموال مصارف وزياداتها وزيادة مخصصات فروعها في الخارج، ولا يتم التحقق من مشروعيتها على النحو المقترح راهناً بالنسبة للودائع.
كذلك ألمح د. منصوري الى «ضرورة الاخذ بعين الاعتبار الاثر الاجتماعي للوديعة وتصنيفها على هذا الاساس. فهناك مودعون أقرب الى مستثمرين كونهم وضعوا أموالهم في المصارف طمعاً بالفوائد العالية، والتعاطي معهم كمستثمرين أسهل اذ يمكن الحديث معهم حول آليات مالية لرد أموالهم، وهناك مودعون صغار لا يمكن ادخالهم في هذه التعقيدات ولا يسمح عمرهم ووضعهم المالي والاجتماعي بذلك».
الطرح المذكور على معقوليته يحمل مخاطر متنوعة فهو يقوم على تحوير الاحكام القانونية للوديعة المصرفية لتكييفها على انها نوع من انواع الاستثمار بعكس ما هو واضح ومحدد في المادة 123 من قانون النقد والتسليف، وما تذكره اسبابه الموجبة في شرحها للمادة 152 من ان لصاحب الوديعة استرداد وديعته كما لو كانت في صندوقه الخاص ونقطة على السطر. وكان من الاجدى اعمال المقترح في مكانه الصحيح بوجه اصحاب الحق الاقتصادي في الودائع الائتمانية التي تم تهريبها الى الخارج بداية الازمة، ولم ترد اية اشارة الى ضرورة استرداد هذه الودائع رغم كبر حجمها في كل الاقتراحات والمشاريع المتداولة.
من جهة اخرى هناك لبس حول معدلات الفوائد التي تعتبر عالية وضرورة اقتطاع ما يفوق منها من الودائع فلا يمكن هنا القياس مع معدلات اسواق الدول ذات التصنيفات العالية، كما فعل مشروع قانون معالجة اوضاع المصارف، بل يقتضي الرجوع الى الارشيف الذي يحفظ عشرات التصريحات للحاكم السابق سلامة عن ان معدلات الفوائد التي تم التعامل بها في لبنان هي ذاتها التي تتعامل بها بذات الوقت دول عدة في المنطقة ذات التصنيف الائتماني المماثل للبنان، مع ذكر صريح لدولتي مصر وتركيا ولم يثر كلامه في حينه اي اعتراض.
جدير بالذكر ان البحث في موضوع الفوائد الفاحشة مجاله المصارف ويؤكده كلام عضو جمعيتهم د. تنال الصباح في 30 ايار 2022 في برنامج 20/ 30 بحضور نائب رئيس الوزراء سعادة الشامي. اذ ذكر حرفياً التالي: «ان حاكم مصرف لبنان قال لنا، اي للمصرفيين: يللي بيجيب 100 مليون دولار من زبائنه بعطيه فوراً 35 مليون دولار، وكل سنة 5 أو 6 ملايين دولار!!!!» وقد استفاد من هذا العرض المصرفيون وقلة من المودعين من فئة المكشوفين سياسياً الـ Pep s.
(3) إعادة إطلاق العمل المصرفي
العمود الثالث للخروج من الازمة بنظر د. منصوري هو اعادة اطلاق عمل القطاع المصرفي وهذا أمر ممكن (بنظره) لكن لا يوجد الاطار القانوني ليسمح بذلك، وهو ان لا ضمانات قانونية اذا حصل اقراض بالدولار ان يلتزم المقترض بتسديد قرضه بالدولار.
كلام غير صحيح للاسف فقد سبق اعلاه تبيان ان القوة الابرائية للعملة الوطنية هي بالصياغة التي وردت فيها المادة 7 من قانون النقد والتسليف محصورة فقط بالتعاملات النقدية بالليرة monnaie fiduciaire ولا تتعداها الى التعاملات المصرفية monnaie scripturale وحتى الالتزامات بالعملات الاجنبية بصورة عامة على النحو المبين في المقال المشار اليه اعلاه، بمعرض الكلام عن المادة 7 والذي تضمن عرضاً لرأي عدد من الاخصائيين القانونيين الاجانب الذين اكدوا ان التعاقد بالعملات الاجنبية ملزم لاطراف العقد في ظل سيادة نظامي سعر الصرف الالزامي forcé والقانوني légal الا في الحالة التي يتوافق فيها اطراف العقد على التحلل من هذا الالتزام. وطبيعي ان لا يكون للمصارف خيار التحلل من الالتزام المذكور في الحالة التي تتعرض فيها مصالح المودعين للخطر كما هي الحالة اللبنانية مع التدني الكبير في سعر صرف الدولار، والا أثيرت مسؤولياتها القانونية ويتعين على السلطات الناظمة منعها من ذلك ابتداء.
أيضاً ذكر د. منصوري «انه مع توحيد سعر الصرف سوف لن يكون هناك ما يمنع من اعادة اطلاق القطاع المصرفي، والارباح التي ستتحق ستكون للمودع لذا يجب اعادة التسليف في البلد لانه مهم للاقتصاد». هذا الكلام غير دقيق ويتعارض مع الفصل الذي اقامه التعميم 165 بين الواقع المصرفي الذي كان قائماً قبل 19 تشرين الاول 2019 والاموال الجديدة التي يتحدث عنها التعميم المذكور، ويؤكد مضمون ادعاء نواب التجدد في المراجعة المقدمة من النائبين مخزومي ومعوض ورفاقهما الى مجلس الشورى لابطاله، حيث ذكر في المراجعة ان التعميم 165 اقام منطقة مصرفية جديدة في كل مصرف تمارس فيها حصراً وبحرية كافة العمليات والنشاطات من الاموال الجديدة، ما يعني تجميداً ووأداً للقطاع المصرفي الذي كان قائماً قبل انتفاضة تشرين الاول 2019 ما يبرر معه الاعلان ببطلان التعميم 165.
والحقيقة التي جانبها د. منصوري في موضوع اعادة اطلاق العمل المصرفي هي مآل التعميم الاساسي رقم 154 تاريخ 27 آب 2020 والذي صدر بناء لقرار اتخذه المجلس المركزي في 25 آب 2020 بموافقته هو وزملاء له في الحاكمية ويطالب المصارف باﻻﻤﺘﺜﺎل بشكل متدرج بكل النصوص القانونية والانظمة المصرفية، سيما المتعلقة بالسيولة والملاءة واعادة تفعيل نشاطاتها وخدماتها المعتادة لعملائها بما لا يقل بما كانت عليه قبل تشرين الاول 2019، تحت طائلة احالة المخالف عملاً بالمادة 208 من قانون النقد والتسليف امام الهيئة المصرفية العليا لتطبيق الغرامات والعقوبات الجزائية عليه بما فيها تطبيق احكام القانون 2/67 الخاص بتوقف المصارف عن الدفع والقانونين 110 (اصلاح الوضع المصرفي) و44 (مكافحة تبييض الاموال وتمويل الارهاب).
والسؤال الذي يطرح ذاته هو التالي لقد انتهت المهل المحددة بالتعميم 154 دون اعمال جزاءاته باستثناء تدخل الهيئة المصرفية العليا وتعيينها ثلاثة مدراء مؤقتين لثلاثة مصارف، المدير الاول رئيس سابق للجنة الرقابة على المصارف والآخران كنائبي حاكم وجميعهم في دائرة الشبهة في انفجار الازمة بعد سنوات من ولايتهم، ويشير التقرير الجنائي لـAlvarez & Marsal بشكل صريح الى ان التقصير الواضح لنواب الحاكم السابق ساعد الاخير في التفرد بالسلطة وإتيان الانحرافات.
لقد قُدّر للرئيس الفرنسي الاسبق Vincent Auriol ان يواجه عندما كان وزيراً للمالية وضعاً شبيهاً الى حد ما بالوضع اللبناني الراهن، فدعا المصرفيين الى اجتماع في مكتبه اعلمهم فيه بالقسم A من خطته وهي تتماهى الى حد كبير مع مضمون التعميم 154 لجهة ضرورة اعادة تكوين المراكز النظامية لمصارفهم من اموال خاصة وملاءة وسيولة وغيره، ضمن مدة محددة يتم بعدها الانتقال الى القسم B من الخطة وقد اعلنها لهم في حينه وهي اغلاق المصارف المخالفة (مع تعويض الدولة المودعين المتضررين) وزج المصرفيين المقصرين بالسجن ومصادرة اموالهم وممتلكاتهم وامور اخرى…. فانخفض عدد المصرفيين المقصرين بسرعة فائقة لاكثر من الثلثين ويؤثر عن Auriol في هذا المضمار قوله الشهير التالي الذي اعاد سريعاً الانتظام للعمل المصرفي:
les banques je les ferme
et les banquiers je les enferme
(4) إعادة بناء الدولة وإصلاحها
العمود الرابع للخروج من الازمة بنظر د. منصوري هو اعادة بناء الدولة واصلاحها والامور التي تناولها في هذا الاطار (أ) اعتماد الحكومة الالكترونية و(ب) الكابيتال كونترول و(ج) ترسيخ استقلالية مصرف لبنان و(د) حوكمته.
فالحكومة الالكترونية تسرّع بلا ريب المعاملات وتختصر الوقت والنفقات والأهم انها تخفف من حجم العاملين في القطاع العام، سيما من حجم الذين تم حشوهم فيه خلافاً للقانون ما يقلص من بند الرواتب والاجور الذي ارهق مع بند الفوائد موازنات الدولة لعقود طويلة وتسبب بالعجوزات، لكن المشكلة تدق في حال تقرر اعتماد الليرة الرقمية فمعها سوف تتلاشى ارباح سك وطبع العملة، ما يعني انتفاء امكانية اطفاء الخسائر المتراكمة من هذه الارباح كما خطط لذلك الحاكم السابق سلامة.
والكابيتال كونترول المقترح هو بالتأكيد من دون معنى مع تحويل النخبة السياسية والمالية النافذة مليارات الدولارات للخارج ومنذ ما قبل انتفاضة 2019 حين استشفت بوادر الانهيار منذ بداية 2017 على حد قول Olivier de Schutter مفوض الامم المتحدة لحقوق الانسان، لذا فالمطلوب ان يقترن الكابيتال كونترول باعادة جميع الاموال المحولة منذ عام 2017 الى الوضع القانوني الذي يخضع له جميع المودعين مع التفكير حتى باعادة جميع اموال اللبنانيين من الخارج اذا لزم الامر، كما فعلت المانيا وفرنسا في الثلاثينات الماضية بتوجيه الاولى من الحاكم البروفسور Hjalmar Schacht والثانية من الرئيس.Paul Reynaud
في ما خص طلبات التمويل من الدولة حسناً فعل د. منصوري ورفاقه باعلانهم التوقف عما انتهجه الحاكم السابق من استجابة كاملة لهذه الطلبات من دولارات المودعين بتجاوز فاقع للقانون لغايات ولطموحات رئاسية. فهذا المنحى الجديد لمصرف لبنان سيدفع الحكومة الى وضع موازنات عقلانية والى تحقيق فصل فعلي بين السياستين المالية والنقدية ما يؤسس لاستقرار نقدي راسخ واحترام لاستقلالية مصرف لبنان.
شروحات أول نائب أول لحاكم مصرف لبنان جوزيف اوغورليان للمادة 13 من قانون النقد والتسليف تستفيض في توضيح اطار الاستقلالية المذكورة فتذكر «انها ليست فقط ازاء الحكومة بل ايضاً تجاه المصارف لان مصرف لبنان يستوحي في عمله المصلحة العامة التي تستوجب غالباً الإهتمام بالاعتبارات البعيدة المدى، بينما يكون من الطبيعي ان تهتم المصارف أولاً بمصالحها الشخصية والفورية لذا المهم ألّا يتسنّى لها أن تؤثر على قرارات مصرف لبنان حتى ولا أن تقف عليها مسبقاً، ولا ان يكون لها صوت في اتخاذ القرارات المعدّة لأن تطبّق عليها او أن يكون لها حق علم بها قبل وضعها موضع التطبيق».
للأسف لم يتم التقيد بالاطار السابق في محطات كثيرة فالبيان الذي وزعه د. منصوري مثلاً بمناسبة اصداره التعميم 682 تضمن نصاً يشير الى «حصول «تفاهم» بين المجلس المركزي لمصرف لبنان وجمعية المصارف» قبل صدور التعميم في سابقة لم يعرفها المصرف منذ انشائه، اسست هي وممالآت أخرى متنوعة للكلام عن هدر لاسقلالية القرار في مصرف لبنان لصالح المصرفيين.
أخيراً ذكر د. منصوري «ان المصرف المركزي يعيد بناء ذاته بشكل كامل ويقوم باصلاحات داخلية كبيرة، وأحد هذه الاجراءات هو التشدد في تطبيق شروط الحوكمة كما يجب، ووضع استراتيجية واضحة لتطبيقها من قبل الموظفين. ومن هذه الاجراءات تنظيم محاسبة المصرف المركزي…».
توجه سليم بالتأكيد لكن لا يؤيد البعض اولوياته فالحوكمة الحقيقية تبدأ من القمة. ان مصدر الانحراف الذي حصل في مصرف لبنان وكما وثقه تقرير Alvarez & Marsal هو تفرد الحاكم بالسلطة وبالتالي قيادته لسياسات هدامة. وقد ساعدته في ذلك امور كثيرة من اهمها ان قانون المصرف يجمع، وخلافاً لقواعد الحوكمة الرشيدة المتعارف عليها، بمرجعية واحدة سلطة التقرير والتنفيذ والتنظيم مع دور محوري للحاكم اضيف اليه ادراج مديرية الرقابة الداخلية (التفتيش والتدقيق) من ضمن اشرافه، وكما الاشراف او رئاسة هيئات عدة منها ما هو منشأ لدى مصرف لبنان وهي الهيئة المصرفية العليا ولجنة الرقابة على المصارف وهيئة التحقيق الخاصة وهيئة الاسواق المالية.
كان الأحرى بمنصوري ورفاقه ان يبدأوا من هنا فيقترحوا على الحكومة سريعاً وكما تقضي به المادة 72 من قانون النقد والتسليف مشروع لاعادة هيكلة مصرف لبنان وهيئاته، كما فعل مدير عام صندوق النقد الدولي السابق Stanley Fischer حين استدعي من قبل حكومة اسرائيل لوقف الانهيار الحاصل في البلاد من جراء انخفاض سعر صرف العملة الوطنية، اذ اعلن امام الكنيست بعد اشهر قليلة من استلامه لمهامه (خمسة اشهر) عن وجود ضرورة لاعادة هيكلة المصرف المركزي الاسرائيلي، ودرجة تركيز السلطة في الاخير اقل بكثير مما هو قائم في مصرف لبنان، وذلك على وجه تتقابل وتتوازن فيه سلطات القرار والتنفيذ والمراقبة. واقترح آلية للتعيين في السلطتين الاولى والثانية لا ينتقي بمقتضاها مجلس الوزراء اعضاء الحاكمية الا من بين من تجاوزوا بنجاح امتحانات تقييم للكفاءة العلمية والعملية تعدها لجنة مؤلفة من اقتصاديين وقانونيين واكاديميين لامعين. بعكس ما هو قائم في لبنان حيث يتم التعيين باقتراح من قبل وزير المالية بعد استشارة الاخير القوى السياسية ما يتأتى عنه الاتيان بمحسوبين لهذه القوى وللمصالح المالية والمصرفية التي يهيمنون عليها او يشاركون فيها.
إن من الاهمية بمكان ان يصار الى فصل مهمة التنظيم والرقابة والاشراف المصرفي من مهام مصرف لبنان وحصر مهمة الاخير باستقرار النقد والاسواق المالية وضبط تطور وسائل الدفع كما هو الامر بالنسبة لمصرفين مركزيين رائدين هما الالماني والسويسري. والوضع المقترح لو كان قائماً لما كان حصل ما حصل لان الهيئة المصرفية المقترحة ما كانت لتسمح لمصرف لبنان ان يتصرف بالشكل الكارثي الذي تصرف به باستقطاب غالبية ودائع المودعين الدولارية لحاجات سياساته وعملياته.
أيضاً من الضروري اخضاع مصرف لبنان لرقابتين خارجيتين (الاولى) رقابة مالية يتولاها ديوان المحاسبة كما هو الامر بالنسبة للمصرف المركزي الفرنسي وايضاً للمصرف المركزي الاوروبي، على قاعدة ان الديوان المذكور هو المولج برقابة سلامة وقانونية الاعمال والعمليات التي تتناول المال العام مع الابقاء بالطبع على مفوضي المراقبة الخارجيين، الذين يقتضي ان يتم تعيينهم لا من قبل مصرف لبنان بل من قبل مجلس النواب الجهة التي منحت الامتياز للمصرف، على ان يرفع هؤلاء المفوضون تقاريرهم الى المجلس النيابي لتناقشه لجانه ولا يجوز نشرها الا بعد موافقة المجلس النيابي بهيئته العامة عليها مع الشروحات الكافية لاطلاع الجمهور، و(الثانية) رقابة تقييمية فيكون هناك مرجع علمي متخصص يقيّم سلامة السياسات المعتمدة من قبل مصرف لبنان وحسن تطبيقها على النحو الذي يقوم به الـ observatoire في سويسرا. وهذا الوضع لو كان قائماً لما كان للكارثة ان تحصل ايضاً لان المرجع المولج بالتقييم كان سيكشف للبنانيين بتقارير علمية ومركزة وبالوقت المناسب، مخاطر السياسات المتبعة من قبل مصرف لبنان وعدم صحة ادعاءات حاكمه السابق ووزير المالية المتكررة بأن «الليرة بخير» و»بريادة وبمتانة القطاع المصرفي اللبناني».