تنجح أساليب الدعاية المُتقَنة في إقناع الجمهور باختيار منتَجٍ على حساب منتَج آخر. وكلّما كان المنتَج آتياً من شركة تحظى بشهرة عالمية، زادَ ثمنه وتسارعت نسبة مبيعاته وارتفعت أرباح الشركة المنتجة. ولا يقتصر هذا الواقع على السلع الاستهلاكية، بل يتعدّاه ليصل إلى الأدوية وأغذية الأطفال والحليب والحفاضات، أي إلى منتجات تطال صحة الأطفال.
وتتبدّل نِسَب المبيعات ومعدّلات الربح بين بلد وآخر، وفقاً لكثير من المؤشِّرات، منها مستويات الرقابة والمعايير المعتمدة للسماح باستيراد المنتجات. فتتراجع نسب المبيعات مع ارتفاع القيود والمعايير، وهو ما تحاول الشركات تجاوزه مراراً. ولذلك تختار بعض شركات تصنيع الأدوية أو أغذية الأطفال والحليب، دولَ العالم الثالث لتنشيط الجانب المظلم من تجارتها، ويساعدها في ذلك، انتشار الفساد وضعف الرقابة في تلك الدول، ومن بينها لبنان.
استمرار المشكلة رغم النداءات المتكرّرة
انغماس لبنان في دوامة الفساد المتعلِّق بالأدوية والأغذية، ليس مستجداً مع الأزمة الاقتصادية الراهنة، بل سابق لها. ورغم المحاولات الموسمية لوزارتيّ الصحة والاقتصاد بمداهمة مراكز ومستودعات ومحال وصيدليات تبيع منتجات مزوّرة أو منتهية الصلاحية، إلاّ أن المشكلة لم تنتهِ لأن المحاولات غير مرتبطة بخطة متكاملة وبنيّة صادقة لمنع التجاوزات.
بعد فضائح أدوية السرطان والأمراض المستعصية والمزمنة، تطفو على السطح أزمة أغذية الأطفال. ففي شهر نيسان الماضي، كشف نقيب الصيادلة جو سلوم عن “تلاعب بتواريخ مكمّلات أساسية لنموّ الرضَّع”.
وبالتوازي، أشارت رئيسة لجنة المرأة والطفل النيابية، النائبة عناية عز الدين، إلى وجود أغذية أطفال ورضَّع في السوق، غير مطابقة للمواصفات اللبنانية الصادرة عن مؤسسة ليبنور، وطالبت وزارة الصحة، يوم أمس، بـ”إعطاء خريطة كاملة لمسار دخول أغذية الأطفال والرّضع إلى البلد لتحديد المسؤوليات ولإصلاح أي خلل في الآليات المعتمدة، ولوضع حد لجريمة عدم مطابقة أغذية الأطفال المستوردة، للمواصفات”.
تزداد الغرابة في هذا الملف، بعد الكشف عن أن بعض الجهات العلمية اللبنانية كانت قد أصدرت تقاريرها في سنوات سابقة، وبيَّنَت عمق المشكلة، لكن الوزارات المعنية لم تتحرَّك. فالمجلس الوطني للبحوث العلمية، خلص في العام 2021 إلى أن 117 منتجاً مستَورَداً من حليب الأطفال والأغذية والمكمّلات الغذائية الخاصة بالأطفال تحت سن الخمس سنوات، يحتوي كل مئة غرام منها على 80 بالمئة من الدهون المشبعة التي تحتوي بدورها زيوتاً مهدرجة وصلت نسبتها إلى 45 بالمئة. وهذه الزيوت بحسب عز الدين، تؤدي إلى أمراض عديدة.
كذلك، تحتوي بعض المنتجات على نسب كبيرة من السكَّر المضاف، تتخطّى معدلاتها 35 بالمئة في بعض المنتجات مثل البسكويت والـ”كورن فلكس”. وهناك سكّر مضاف بنسب تتخطّى الـ5 بالمئة في بعض أنواع الحليب للأطفال بين سن 1 و3 سنوات. وبفعل هذه المواد، ارتفعت نسبة البدانة لدى الأطفال في لبنان، وفق عز الدين، من 18.9 بالمئة بين عامي 2004 و2021 إلى 26 بالمئة في العام 2023، في حين أن المعدّل العالمي للبدانة عند الأطفال يتراوح بين 5.7 و9 بالمئة.
وفي آذار 2023 أشارت خبيرة الأغذية في المجلس الوطني للبحوث العلمية، الأستاذة في الجامعة اللبنانية، مهى حطيط، إلى أن إحدى دراسات المجلس، بيَّنَت أنه “ولأول مرة منذ 21 عاماً، ارتفاع معدّل التقزّم ومعدل البدانة عند الأطفال، بسبب عدم حصولهم على الفيتامينات والمعادن اللازمة لنمو سليم، وهذا ما يسمى الجوع الخفي”، وحذّرت من أن لبنان “في مرحلة خطيرة”. وعموماً، لفتت حطيط النظر إلى أن “73 بالمئة من الشعب اللبنان يعاني انعدام الأمن الغذائي وعدم تنوع الغذاء”.
مشكلة محلية وعالمية
لا ينفرد لبنان في مواجهة هذه المشكلة، إذ أنها مشكلة محلية وعالمية في آن واحد، لكن تتفاقم نتائجها السلبية أو تتراجع بحسب حضور ومتابعة الدولة لهذا الملف. ففي أوروبا وأميركا “هناك مختبرات مركزية تشرف على المنتجات المصنَّعة والمستوردة. ففي الولايات المتحدة الأميركية، يستحيل وجود دواء في السوق لا تشرف عليه إدارة الغذاء والدواء الأميركية FDA . وفي أوروبا هناك تدقيق أيضاً”، وفق ما يؤكّده طبيب الأطفال جمال بدران، الذي يشير في حديث لـ”المدن”، إلى أن الرقابة في تلك الدول “لا تعني بالمطلق أن بعض شركات تصنيع حليب وأغذية الأطفال، لا تصنع أنواعاً غير مطابقة للمواصفات الصحية التي تحدّدها دول العالم المتقدّم. فإحدى الشركات العالمية تقوم بصناعة منتجات تبيعها في أوروبا وأميركا، فيها نسب محدّدة من السكّر والبروتين، وتصنع في المقابل منتجات أخرى تبيعها في دول العالم النامي، تحتوي على معدلات أعلى من السكّر والبروتين، وهذا أمر مضرّ بصحة الأطفال”. ويلفت بدران النظر إلى أن “النتائج السلبية للإضافات الموجودة في أغذية الأطفال، تبدأ بالظهور بشكل واضح من عمر 5 إلى 10 سنوات”.
لكن ذلك لا يمكن تعميمه على كل منتجات الشركات الكبرى، إذ أن بعضها “يلتزم بالقوانين والنسب العلمية”. ويحذّر بدران من وجود حالات غشّ تتمثّل بـ”تعبئة مواد غذائية للأطفال وختمها ببلد منشأ معيَّن يحظى بسمعة جيّدة، كالكثير من الدول الأوروبية، وهو أمر منتشر في لبنان بفعل غياب الرقابة”.
وتتزايد شكوك بدران حيال المواد الغذائية المنتشرة في السوق، وحيال قدرة الدولة على ضبطها، بفعل سيطرة المحتكرين على سوق الأدوية وأغذية الأطفال، وهؤلاء يحظون بغطاءات سياسية من مختلف الأحزاب لأنهم يتبعون لأكثر من حزب سياسي، وهذا ما يُضعِف القدرة على ضبط المخالفات.
الضروري وغير الضروري
التذرّع بالأهداف التجارية، ليس سبباً كافياً للغشّ. فبرأي الصيدلاني حسن حجازي “حتى صناعة الدواء لها أهداف تجارية بحتة، لكن ذلك لا يعني انفلات السوق من أي رقابة أو سيطرة”. ووفق ما يقوله لـ”المدن”، فإن منظمة الصحة العالمية، ولأنها تدرك الهدف التجاري من تصنيع المواد الغذائية وحليب الأطفال، “فرضت أن يتم التدوين على منتجات الحليب وأغذية الأطفال، أن يفضّل استعمالها من عمر 6 أشهر فما فوق، لتشجيع الرضاعة والتغذية الطبيعية”. ويؤكّد حجازي لـ”المدن”، أن “هناك ما هو ضروري وبين ما ليس ضرورياً. فالحليب مقسّم بين عمر يوم إلى 6 أشهر وهو ضروري في حال لم تستطع الأم إرضاع طفلها، وهناك مرحلة ثانية تمتد لعمر 12 شهر، أيضاً يمكن اعتبارها مهمة. لكن بعد هذا العمر لا يعود الحليب المصنَّع مهماً لأن الطفل يستطيع أكل مشتقات الحليب. أما الأغذية المصنّعة فيمكن الاستغناء عنها واستبدالها بتحضير الأكل في المنزل. لكن في عصر السرعة، يفضِّل البعض الاعتماد على الأغذية المحضّرة مسبقاً”.
تقرع عز الدين ناقوس الخطر بتأكيدها أن “البطاقات البيانية للمنتجات لا تتطابق مع محتوياتها، مما يسبب غشاً فاضحاً للمستهلك”. لكن دعوتها إلى “كشف حقيقة الوضع ومعالجة أي خلل بدون تسويف أو تأجيل”، يُحال إلى حالة الترهّل والانهيار الذي تعيشه الدولة ومؤسساتها، وهو واقع يساعد على انتشار الأغذية غير المطابقة للمواصفات. بل على العكس، قد تستفيد بعض الشركات ومستوردي المنتجات في لبنان، من الأزمة وحالة الفوضى، للترويج لمنتجات معيّنة بالاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي، وهي قنوات تساهم في تشجيع أي منتج أو تشويه سمعة منتج آخر، بحسب آلية التسويق وحجم الإنفاق الدعائي. وهي وسيلة لفتت منظمة الصحة العالمية النظر إليها من خلال تقرير لها في العام 2022، سلّط الضوء على لجوء شركات الحليب الصناعي إلى “شراء أو جمع بيانات شخصية وإرسال دعايات مخصصة للحوامل والأمهات الجدد، من خلال أدوات تشمل التطبيقات المحمولة ومجموعات الدعم الافتراضية أو “نوادي الأمومة”، ودفع أموال لمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، وحملات الترويج والمسابقات ومنتديات أو خدمات المشورة”. وعليه، فإن الخطر في هذا المجال كبير، ولا يمكن الرهان فقط على شهرة الشركات العالمية.