رغم خيبات الأمل المتواصلة التي تتعزّز مع كل زيارة يقوم بها صندوق النقد الدولي الى لبنان ويجول فيه على المسؤولين اللبنانيين لمناقشة التطورات الاقتصادية والإصلاحية، والصورة السوداوية التي يرسمها عن لبنان ودحض الآمال بإمكانية التوافق رسمياً معه، لا يزال صندوق النقد ملتزماً بدعم لبنان.
فهو يتوقّع إجراء مناقشة المادة الرابعة في أيلول 2024 لتقييم التطورات الاقتصادية الحاسمة والإصلاحات المالية، إلا أنه في المقابل يشدّد على ضرورة تشكيل حكومة وانتخاب رئيس للجمهورية للتفاوض مع لبنان.
هذا الجوّ التشاؤمي أعلن عنه رئيس وفد صندوق النقد الدولي إرنستو راميريز ريغو الذي أنهى زيارته الى لبنان لفترة ثلاثة أيام، فقال إن «لبنان أحرز بعض التقدم في الإصلاحات النقدية والمالية منذ مداولات المادة الرابعة الأخيرة. ومع ذلك، فإن هذه التدابير السياسية لا ترقى إلى ما هو مطلوب لتمكين التعافي من الأزمة.
وأكّد أن «معالجة خسائر البنوك مع حماية صغار المودعين أمر لا غنى عنه، و أن موازنة 2025 يجب أن تستمرّ في استهداف العجز الصفري من خلال إصلاحات مالية أكثر طموحا».
هل يمكن إشراك الدولة في الخسائر؟
والواضح هذه المرة أن زيارة وفد الصندوق حلّت على وقع الإنقسام العلني بالنسبة الى كيفية توزيع الخسائر، اذ إن المصارف وبعض الجهات السياسية تريد إشراك الدولة بالخسائر في حين أن صندوق النقد الدولي يعتبر أن الدولة غير قادرة على الإلتزام بتسديد دينها. وحول ذلك علمت «نداء الوطن» أن «صندوق النقد غير حاسم بمسألة تحميل الدولة الخسائر ولكن يعتمد لبناء رأيه على إشراك الدولة في الخسائر على الأرقام. فهو ومن خلال الوقائع والأرقام يريد ان يتأكّد أولاً أن الدولة لديها الإمكانيات لتسديد حصّتها في الخسارة، وثانياً الإستدامة في عملية التسديد، والنقطة الأخيرة شديدة الأهمية بالنسبة الى صندوق النقد. فإذا تمّ ايداع أموال في مصرف لبنان لتسديد حصتها من الخسائر، فهو لن يمانع إشراكها في الخسائر».
هذا من جهة، أما من ناحية ما قيل عن أنه تمّ الحديث خلال اجتماع وفد صندوق النقد مع جمعية المصارف في لبنان على شطب الودائع، قال مصدر لـ»نداء الوطن» إنه «لم يتمّ الحديث ابداً حول تلك النقطة».
وخلال اللقاءات تطرّق صندوق النقد مع المسؤولين اللبنانيين الى مسألة التزامات الدولة تجاه دائني سندات الـ»يوروبوندز»، فحاملو السندات أي المدينون يريدون وفق معلومات «نداء الوطن» حزمة متكاملة من الحلول وليس إتفاقيات cut deals. فهم لن يبقوا صامتين بل سيبدأون برفع الصوت من خلال رفع دعاوى على الدولة اللبنانية، باعتبار أن حقّ مطالبتهم بفوائد الدين وليس الأصل يبدأ بعد فترة خمس سنوات من اعلان الدولة تخلّفها عن الدفع.
تداعيات استضافة اللاجئين السوريين
وبالعودة الى البيان أشار ريغو الى أن «الأزمة الاقتصادية لا تزال تلقي بثقلها على سكان لبنان، اذ وصلت البطالة والفقر إلى مستويات مرتفعة بشكل استثنائي، وقد تعطّل تقديم الخدمات العامة الحيوية بشدة. في الوقت نفسه، لا يزال لبنان يعاني من إستضافة أكبر عدد من اللاجئين بالنسبة الى عدد السكان في العالم، وسط موارد محدودة».
بيان ختامي
وشدّد على «أن التداعيات السلبية الناجمة عن الصراع في غزة وتزايد القتال على الحدود الجنوبية للبنان تؤدي إلى تفاقم الوضع الاقتصادي الضعيف أساساً. ونتج عن ذلك نزوح داخلي لعدد كبير من الأشخاص كما تسبب بأضرار في البنية التحتية والزراعة والتجارة في جنوب لبنان. وإلى جانب تراجع السياحة، فإن المخاطر العالية المرتبطة بالصراع تخلق قدراً كبيراً من عدم اليقين للآفاق الاقتصادية».
تدابير وزارة المالية ومصرف لبنان
وبالنسبة الى التقدم في الإصلاحات النقدية والمالية اعتبر ريغو ان « السياسة التي اتخذتها وزارة المالية ومصرف لبنان – بما في ذلك الإلغاء التدريجي للتمويل النقدي للموازنة، وإلغاء منصة صيرفة والسياسة المالية المتشددة، والخطوات نحو توحيد أسعار الصرف – ساعدت على احتواء تدهور سعر الصرف، واستقرار العرض النقدي وبدأت الحدّ من الضغوط التضخمية. إضافة إلى ذلك، أدّت التدابير التي اتّخذتها وزارة المالية إلى تحسين تعبئة الإيرادات من ضريبة القيمة المضافة والرسوم الجمركية، من خلال تعديل سعر الدولار الجمركي حسب سعر الصرف في السوق، إلى تقريب العجز المالي المتوقع لعام 2023 من الصفر. كما أتاحت الجهود المشتركة التي بذلها مصرف لبنان ووزارة المالية إلى تراكم بعض الاحتياطي الأجنبي».
وأضاف: «لا تزال ودائع البنوك مجمدة، والقطاع المصرفي غير قادر على توفير الائتمان للاقتصاد، حيث لم تتمكن الحكومة والبرلمان من إيجاد حلّ للأزمة المصرفية. فمعالجة خسائر البنوك مع حماية صغار المودعين إلى أقصى حد ممكن والحدّ من اللجوء إلى الموارد العامة الشحيحة بطريقة موثوقة ومجدية مالياً أمر لا غنى عنه لوضع الركيزة للتعافي الاقتصادي. ومن دون إحراز تقدم، سيستمر الاقتصاد النقدي والاقتصاد غير النظامي في النمو، مما يثير مخاوف تنظيمية ورقابية كبيرة». لافتاً الى ان «غياب استراتيجية للنظام المصرفي ذات مصداقية وقابلة للاستمرار مالياً لا يزال يعيق النمو الاقتصادي واستعادة أموال المودعين، في حين يؤدي إلى زيادة حجم الاقتصاد النقدي وغير النظامي وبالتالي مخاطر أكبر للأنشطة غير المشروعة».
لبذل الجهود لتعزيز المالية العامة
إن الموافقة في الوقت المناسب على موازنة 2024 خطوة أولى مهمة، ولكن هناك حاجة إلى بذل جهود أقوى لتعزيز المالية العامة. ولا تزال إدارة الضرائب تعاني من نقص التمويل، مما يعيق تحصيل الضرائب ويضع دافعي الضرائب في القطاع النظامي في وضع غير مؤات. ويحول نقص الموارد دون توفير الخدمات العامة الأساسية والبرامج الاجتماعية والإنفاق الرأسمالي. كما أنه يؤدي إلى تفاقم عدم المساواة ويؤثر سلباً على تصورات العدالة الضريبية.
موازنة 2025: إستهداف العجز الصفري
وتطرق الى موازنة 2025 فرأى أنه بالنظر إلى المستقبل، ومع الأخذ بالاعتبار النقص المحتمل في أي تمويل، ينبغي أن تستمر موازنة 2025 في استهداف العجز الصفري من خلال إصلاحات مالية أكثر طموحاً، لا سيما زيادة تعزيز تعبئة الإيرادات من خلال تعزيز الامتثال وإعادة ترتيب أولويات الإنفاق الحالي لتلبية الاحتياجات الاجتماعية واحتياجات البنية التحتية الأساسية.
واعتبر ان التقدم المحرز في الإصلاحات الأساسية الأخرى، بما في ذلك الحوكمة والشفافية والمساءلة، لا يزال محدوداً. إن مصرف لبنان بصدد البدء في اتخاذ خطوات لتعزيز الرقابة الداخلية والحوكمة. في نفس الوقت، هناك حاجة ماسة أيضاً إلى اتخاذ تدابير لزيادة الشفافية في القطاع العام، بما في ذلك البيانات المالية المدققة للمؤسسات العامة، فضلاً عن إصلاحات المؤسسات العامة على نطاق أوسع. علاوة على ذلك، فإن نقاط الضعف في جودة البيانات الاقتصادية وتوافرها وتوقيتها تشكل تحديات أمام صنع السياسات المستنيرة.