بعد نحو سنتين على توقيع لبنان اتفاقاً على مستوى الخبراء مع صندوق النقد الدولي، على ضوء نيّة السلطة السياسية إجراء الإصلاحات، التي على أساسها يفترض توقيع الاتفاق النهائي مع الصندوق للحصول على مساعدات مالية بقيمة 3 مليار دولار. وبعد نحو 5 سنوات على تسارع الانهيار في البلاد، تجد السلطة السياسية نفسها أمام إصرار من الصندوق على تنفيذ إصلاحات فعلية تتيح الخروج من الأزمة، وفي المقابل، تصرّ السلطة على عدم إجراء الإصلاحات، باستثناء ما قام به حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، من وقف لمنصة صيرفة وإقفال مسرب الدولارات والليرات الذي كان مفتوحاً من المركزي باتجاه الحكومة.
ما يراه صندوق النقد يتخطّى الإصلاحات الخفيفة، ومنها إقرار الموازنة ورفع تعرفة الكهرباء وغير ذلك. إذ تصل المطالب إلى مستوى إنهاء عقبة هيكلة القطاع المصرفي، وهي العقبة الأبرز في مسار الانهيار ونوايا الإصلاح.
لكن في حال امتدَّ زمن الأخذ والردّ بين السلطة السياسية والقطاع المصرفي، هل تستمر الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي يوثّق البنك الدولي تداعياتها الكارثية على الأسر اللبنانية والاقتصاد؟ وهل تُختَصَر الأزمة وتداعياتها بالقطاع المصرفي فقط؟
الإصرار على هيكلة القطاع المصرفي
منذ وصول الأزمة إلى خطّ اللاّعودة في تشرين الأول 2019، حَضَرَت المصارف كلاعب أساسي في إدارة الأزمة وتحديد اتجاهاتها، ذلك لضمان خروجها من الأزمة بأقلّ كلفة ممكنة. واستندت إلى الكثير من العوامل الداعمة، منها على سبيل المثال لا الحصر، قوة اللوبي السياسي وامتلاكها أموال المودعين كرهينة وإدراكها أن أي استقرار وتنشيط للاقتصاد لا يتحقَّق إلاّ بعد تنشيط عمل القطاع المصرفي. ولذلك، بقيَت الإصلاحات التي أقرّتها الحكومة على مدى 5 سنوات، غير كافية، وبشهادة صندوق النقد الذي جدّد على لسان رئيس بعثته إلى لبنان، إرنستو راميريز ريجو، التأكيد على أن “الإصلاحات الاقتصادية في لبنان غير كافية للمساعدة في انتشال البلاد من أزمتها الاقتصادية. وإن هذه التدابير السياسية لا ترقى إلى ما هو مطلوب ليتسنى التعافي من الأزمة. لا تزال الودائع المصرفية مجمدة، والقطاع المصرفي غير قادر على توفير الائتمان للاقتصاد، إذ لا تتمكن الحكومة والبرلمان من إيجاد حل للأزمة المصرفية”.
إصرار الصندوق على إنهاء عقبة إصلاح القطاع المصرفي، يبرِّرها الخبير الاقتصادي باتريك مارديني بالإشارة إلى دور القطاع بتنشيط الاقتصاد العام. فيقول مارديني في حديث لـ”المدن” أن الصندوق يدرك تأثير القطاع المصرفي “على خلق الاستثمارات. فالمصارف تأخذ الودائع وتحوِّلها إلى قروض تشكِّل استثمارات بالنسبة لمن يريد فتح مؤسسات ومصانع وشركات، ومن غير تلك الاستثمارات لا يمكن توسيع معدّلات التوظيف، وهذا يؤثِّر على البطالة ومعدّلات النموّ الاقتصادي”. وما يحثّ عليه الصندوق، بنظر مارديني، هو الإسراع في إعادة هيكلة القطاع المصرفي “وردّ ما يمكن ردّه للناس”.
هذه الآلية ليست سهلة التطبيق رغم وضوحها نظرياً. فبالنسبة إلى مارديني “إعادة الهيكلة تعني الاعتراف بالخسائر والبحث عن كيفية ردّ الودائع حتى 100 ألف دولار”، وهو أمر لم يتمّ التوافق عليه داخل القطاع المصرفي من جهة، وبينه وبين الحكومة من جهة أخرى.
إصلاحات أقلّ تعقيداً
إذا كان إصلاح القطاع المصرفي أكثر تعقيداً، فيمكن بالمقابل اتخاذ خطوات أكثر سهولة، تتعلّق بالقطاع العام. إذ لا يمكن اختصار مشكلة لبنان اليوم بهيكلة القطاع المصرفي، وإذا لم تُحَل العقدة، يبقى الوضع على ما هو عليه أو يتدحرج نزولاً.
وبالتالي، يرى مارديني أن “الأزمة أعمق بكثير من مشكلة القطاع المصرفي. وإذا كان هذا القطاع استثمر أمواله لدى القطاع العام بشقّيه، مصرف لبنان والحكومة، فيجب البدء من القطاع العام”.
وسيم منصوري وَضَعَ الحجر الأساس في فرملة نزف الأموال عبر إقراض الدولة. ولذلك، يجب استكمال الخطوة بـ”هيكلة القطاع العام وترشيد نفقاته وإقفال بعض الوزارات والإدارات العامة وتفكيك شبكة الاحتكارات العامة مثل الكهرباء والاتصالات والريجي والطيران وغيرها، ما سيسمح بتوسيع قاعدة التنافس وفتح فرص العمل عبر القطاع الخاص”.
ترجمة عملية للواقع
عدم كفاية الإصلاحات السياسية التي عبَّرَ عنها صندوق النقد، ترجَمَها البنك الدولي عبر أرقام تعكس الواقع اللبناني. فنتيجة الحالة الاقتصادية والاجتماعية وانهيار سعر الليرة، زاد الفقر والبطالة، ولم تتمكّن الإصلاحات المجتزأة التي أُقِرَّت، من تحسين شروط العيش لدى غالبية اللبنانيين. والتقرير الأخير للبنك، يكشف ارتفاع معدّل الفقر النقدي من 12 في المئة في عام 2012 إلى 44 في المئة في عام 2022. ويشير التقرير إلى أن العائلات الأكثر فقراً هي العائلات التي لا يصلها عائدات بالدولار. (راجع المدن).
وهنا، يلفت مارديني النظر إلى أن “هذه الإشارة من البنك، توضح مدى دولرة الاقتصاد والتخلّي عن الليرة”. ويضيف مارديني أن الأرقام التي يورِدها البنك، توضح انعكاسات عدم إجراء الإصلاحات التي يصرّ عليها صندوق النقد، وبذلك، هناك تكامل بين الصندوق والبنك لجهة توصيف الأزمة وتداعيتها التي تدخل ضمنها نتائج عدم قيام الدولة بالاصلاحات.
وهذه المعطيات تشي بأن تجزئة جوانب الأزمة ممكن، ويسهِّل حلّها أو التخفيف من حدّتها، لكن لا قرارَ في ذلك بعد. بل على العكس، هناك إصرار على ربط جوانب الحلّ بالاتفاق على كيفية إيجاد مخرج ملائم لأزمة القطاع المصرفي.