التطورات الأمنية الحامية تجعل من الوضع المالي والاقتصادي المتأزّم أكثر سخونة، الأمر الذي يدفع الأوساط الاقتصادية إلى مطالبة مصرف لبنان بتحريك العجلة الاقتصادية بصورة عاجلة، لاعتبارها أن “زيادة احتياطي البنك المركزي بالعملات الأجنبية وتخزينها، خطوة ناقصة إن لم يتم تحريك الاقتصاد، في ظل هذا الوضع المأساوي حيث البلد “مكَربَج” والاقتصاد مُجمَّد والأسواق تفتقد للأموال الاستثمارية والاستهلاكية…”، مشيرة إلى أن “الموازنة العامة لم تحرّك الاقتصاد لأنها جاءت حسابية خالية من المشاريع التنموية والعمرانية وغيرها”.
رئيس دائرة الأبحاث الاقتصادية والمالية في بنك بيبلوس الخبير الاقتصادي الدكتور نسيب غبريل يستبعد أي مسؤولية للبنك المركزي في تحريك الوضع الاقتصادي، معتبراً أن هذه المهام تقع على عاتق الحكومة دون سواها… ويقول لـ”المركزية”: يقوم مصرف لبنان بكل ما يلزم على قدر استطاعته وضمن إمكاناته المتواضعة والصلاحيات المولَج بها وفق القوانين المرعيّة. فالمصارف المركزية في العالم لديها مهمّتان، الأولى: لجم التضخم ومَنع ارتفاع الأسعار، والثانية: مراقبة القطاع المصرفي وتنظيمه. إنهما المهمتان الأساسيتان لأي مصرف مركزي في العالم وليس مصرف لبنان وحده.
ويُضيف: لقد لاحظنا في السنوات الثلاث الأخيرة أن المصارف المركزية في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية مثلاً، أعطت الأولوية المطلقة لمكافحة التضخّم واستخدمت أداة الفائدة للقيام بذلك. والجدير ذكره أن مصرف لبنان هو المؤسسة الرسميّة المدنيّة الوحيدة القادرة على اتخاذ قرارات بشكل طبيعي، إذ إن الشغور يطاول رئاسة الجمهورية، والحكومة في حالة تصريف أعمال، فيما مجلس النواب أصبح هيئة انتخابية في نظر عدد كبير من الكتل النيابية وغيرها… فكان مصرف لبنان في بداية الأزمة ولا سيما منذ الانتخابات النيابية في العام 2022، المؤسسة المدنيّة الرسميّة شبه الوحيدة التي كانت قادرة على اتخاذ القرارات، لكن البعض دأب على عادة قديمة متمثلة في “الإدمان” على الاعتماد المستمرّ على مصرف لبنان والاستدانة منه…!
في العودة إلى آذار 2023 عندما زار لبنان وفد من صندوق النقد الدولي تحت البند الرابع، أصدر عقب اجتماعه مع المسؤولين المعنيين، بياناً أعلن فيه أن “الخروج من الأزمة يجب أن يكون من خلال تعاون السلطات النقدية والتشريعيّة والتنفيذيّة والتنسيق في ما بينها”، بمعنى آخر، وفق غبريل، “لا يمكن الاعتماد فقط على السلطة النقدية وأن تكون السلطات الأخرى في حالة المراقب والمتفرِّج بحجّة الشغور الرئاسي وتصريف الأعمال التي هي حالة مزمنة وليست طارئة”.
ويرى غبريل أن مصرف لبنان أحدثَ خرقاً في هذا الجدار، عبر قيامه بدءاً من العام 2023، بـ:
– أولاً: أبلغ الحكومة بوقف تمويل الدولة.
– ثانياً: سحب كتلة نقدية بقيمة 22 تريليون ليرة من السوق للحدّ من تدهور سعر الصرف في السوق الموازية، إلى أن وصل في تموز الفائت إلى 89،500 ليرة ولا يزال عند هذا المعدّل حتى اليوم، على رغم كل الصدمات الأمنية منذ ذلك التاريخ حتى اليوم.
– ثالثاً: زاد معدّل الاحتياطي بالعملات الأجنبية بقيمة مليار و100 مليون دولار بين آخر تموز 2023 وآخر نيسان 2024.
من هنا يؤكد أن “مصرف لبنان يقوم بكل ما يلزم مستخدماً كل إمكاناته وقدراته وصلاحياته، إنما ينقص تعاون السلطتين التشريعية والتنفيذية معه. وكان البنك المركزي أبلغ الحكومة في العام الفائت أنه توقَّف عن تمويل الدولة لا بالليرة اللبنانية ولا بالدولار الأميركي، كما طلب من وزارة المال تسعير خدماتها وفق سعر صرف الدولار المعمول به في السوق الموازية وليس على السعر الرسمي، الأمر الذي أمّن إيرادات كبيرة للخزينة العامة بالليرة والدولار النقدي، لدرجة توقّع البنك الدولي أن تشكّل الإيرادات نسبة 15% من الناتج المحلي في العام 2023 مقارنةً بنسبة 6% في العام 2022″.
ويلفت إلى أن “استقرار سعر الصرف يساعد إلى حدٍّ ما في لجم التضخّم، فمصرف لبنان لا يستطيع اليوم استخدام أداة الفائدة للجمه كما فعلت المصارف المركزية في البلدان الأخرى ولا تزال، كون لبنان في وضع لا يسمح بذلك. وفي القراءة الأخيرة لمؤشّر أسعار الاستهلاك، يظهر أن التضخم بلغ في آذار 2024 نسبة 70% وهي المرة الأولى منذ بداية الأزمة يكون فيها معدل التضخم أدنى من 100%!”.
أما بالنسبة إلى الحركة الاقتصادية، فيقول غبريل: الواقع الاقتصادي على ارتباط وثيق بالقوانين والتشريعات وقرارات السلطة التنفيذية وتحديداً ما يتعلق منها بتحسين المناخ الاستثماري وبيئة الأعمال… إذ أظهرت المؤشرات الاقتصادية العالمية ما قبل الأزمة، وضعيّة لبنان المتدنيّة في هذا المجال. فالحكومة هي المسؤولة الوحيدة عن تحسين المؤشرات الاقتصادية في لبنان، وليس مصرف لبنان. هناك مؤشر “الحوكمة والإدارة الرشيدة” الذي يصدر عن البنك الدولي يُظهر أن 92،5% من بلدان العالم لديها حكومات فاعلة أكثر من فعالية الحكومات اللبنانية المتعاقبة، 86% من بلدان العالم أفضل من لبنان، 86% من بلدان العالم نوعية قوانينها مؤاتية للحركة الاقتصادية والقطاع الخاص أفضل من نوعية القوانين في لبنان. وبحسب المنتدى الاقتصادي العالمي ومعهد “فرايزر للبحوث” إن 70% من بلدان العالم لديها نظام قضائي مستقل أكثر من استقلالية النظام القضائي في لبنان…
كلها مؤشرات معبِّرة تحمّل السلطتَين التشريعية والتنفيذية مسؤولية تحسينها بمنأى عن مصرف لبنان، وأخذ المبادرة للقيام بالإصلاحات المطلوبة أولاً… لا يجوز إلقاء العبء على البنك المركزي، إذ “على السلطات النقدية والتشريعيّة والتنفيذيّة التعاون سوياً للخروج من الأزمة”، وفق صندوق النقد الدولي في بيانه الصادر في آذار 2023…