بعد مضيّ أكثر من سنتين على الاتفاق «على مستوى الموظفين» مع صندوق النقد الدولي، يبدو أن المسار الذي يتجه فيه لبنان مجهول. فما رشح من لقاءات ممثلي الصندوق مع أكثر من مسؤول يشير إلى أن الاتفاق انتهى ولم يعد قابلاً للحياة، وأن تحديثه يوازي عقد اتفاق جديد. لبنان لم يتبلّغ رسمياً نهاية الاتفاق، إنما الزيارة الأخيرة لممثلي الصندوق إلى لبنان، والتي جاءت في إطار التحضيرات لاجتماعات اتفاق «المادة الرابعة» التي ستنطلق في أيلول المقبل من أجل إعداد التقرير الدوري عن الوضع المالي والنقدي في لبنان، لم يكن فيها نقاش عن إحياء الاتفاق بمقدار ما كانت زيارة استماع نفّذها ممثلو الصندوق واطّلعوا على الطروحات والأفكار، حتى إنهم لبّوا دعوة بنك عودة للقاء في مقرّه الرئيسي، إنما كل ردود فعلهم وإجاباتهم يختصرها مرجع معنيّ بالآتي: «أفكار جيّدة نناقشها بالتفصيل عند الاتفاق». وفي هذا السياق، يبدو أن «حزب الصندوق» خسر الجولة الثانية (الأولى بدأت مع حكومة حسان دياب)، بينما «حزب المصرف» لا يزال يبحث عن فوز ما بين سطور مشاريع القوانين التي تُعدّ حالياً بين رئاسة الحكومة ومصرف لبنان. عملياً، مرّ لبنان بثلاث مراحل: مرحلة إنكار الخسائر رغم إقرار صندوق النقد بها، ثم مرحلة «اللعب مع الصندوق» التي انتهت باتفاق على مستوى الموظفين مضى على توقيعه أكثر من سنتين، والآن نحن في مرحلة ما بعد نهاية الاتفاق
قبل انفجار الأزمة، كانت علاقة صندوق النقد مع لبنان، قائمة على التعاون في إطار «المادة الرابعة» و«التقييم المالي». الأولى تتم بطريقة دورية سنوياً، والثانية تقام كل خمس سنوات. وإضافة إلى ذلك، كان التعاون مع الصندوق يتم في الظلّ أثناء التحضيرات لمؤتمرات الدعم التي أقام لبنان العديد منها وأبرزها في باريس. وفي هذا الإطار كان تأثير الصندوق كبيراً على السياسات المالية، إلا أن شكل هذه العلاقة كان يسمح بأن ينفّذ لبنان الأفكار المطروحة بشكل استنسابي وغير شمولي وأن يضيف إليها ما يراه مناسباً. بهذا المعنى، كانت القوى السياسية تضيف ما يناسب استمرارية نموذج الاقتصاد السياسي الذي تعيش وتعتاش عليه. واستمرّ هذا الأمر إلى أن انفجرت الأزمة في عام 2019، ما فرض تحوّلاً في هذه العلاقة من علاقة ناصحٍ، إلى علاقة مقرض دولي يمثّل معبراً نحو «الانفراج». لكن لبنان لم يتخلّص من رواسب تاريخ العلاقة مع الصندوق وهو ما قسم لبنان إلى طرفين: أحدهما مع استقدام الصندوق لكسر نفوذ القوى السياسية، والثاني ضدّ الصندوق ليس لأنه يمثّل القرار السياسي الأميركي الذي ينطلق من البُعد النيوليبرالي المتشدّد في التعامل مع المجتمع باعتباره أرقاماً مالية واستهلاكية، بل لأن تطبيق «وصفته» المعروفة في لبنان، سيؤدي إلى تغيير بنيوي في توازن القوى السياسي – الاقتصادي – الاجتماعي.
241 تريليوناً خسائر و3500 ليرة سعر الصرف
في ذلك الوقت، كان الجميع أمام استحقاق سندات اليوروبوندز. كان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مع تسديد الاستحقاقات وفق رهان على معجزة سياسية تنقذ لبنان من فجوة الخسائر المتراكمة في بنية القطاع المالي. ثمّة آخرون روّجوا بأن التوقف عن السداد والتفاوض على إعادة هيكلة الديون وتوزيع الخسائر هي الأساس حتى يتوقف تبديد ما تبقّى لدى لبنان من سيولة بالعملة الأجنبية، والمعبر الوحيد لهذا الأمر هو «ختم» صندوق النقد الدولي. انتهى المطاف بأن حكومة حسّان دياب، توقفت عن السداد وتعاقدت مع «لازار» ومع «كليري غوثليب» للتفاوض مع صندوق النقد ومع الدائنين في إطار إعداد خطّة تعافٍ. توصّلت هذه الخطّة في 27 نيسان 2020، إلى أن حجم الخسائر بلغ 241 تريليون ليرة (وفق سعر صرف لا يفوق 4 آلاف ليرة) منها 73 تريليوناً تتعلق بإعادة هيكلة ديون الحكومة، 66 تريليوناً خسائر متراكمة لدى مصرف لبنان، 40 تريليوناً خسائر المصارف، 62 تريليوناً خسائر صافية في ميزانيات مصرف لبنان والمصارف نتيجة خفض قيمة عملة
الليرة اللبنانية إلى 3500 ليرة للدولار.
هذه الخطة أُسقطت في مجلس النواب، وتحديداً في لجنة المال والموازنة برئاسة النائب إبراهيم كنعان وعضوية كل القوى السياسية الأساسية. الذريعة التي استُخدمت، أنه جرى تضخيم حجم الخسائر عمداً أو عن سوء تقدير. قُضي على الخطّة بالضربة القاضية، بعد إصرار أعضاء لجنة المال والموازنة على خفض أرقام الخسائر. مثّل هذا الموقف وجهة نظر المصارف، وشكّل هذا الاتحاد بين النواب نيابة عن زعمائهم السياسيين الذين قادوا عملية إفشال الخطّة حلفاً سُمّي في حينه «حزب المصارف».
في هذا الوقت، أخذت الأمور منحى أكثر سوءاً. فالخسائر التي كانت موضع نقاش، بدأت تزداد، وجزء كبير من هذا الارتفاع كان نتيجة استنزاف الاحتياطات بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان. بدأ الاستنزاف مع تعميم مصرف لبنان الصادر في أيلول 2019 بدعم استيراد المشتقات النفطية والقمح والأدوية والمستلزمات الطبية، ثم ضغطت القوى السياسية ورياض سلامة على حسان دياب للموافقة على تمرير قرار يتضمّن دعماً للائحة استيراد من 30 سلعة ما لبثت أن توسّعت إلى 300 سلعة. كان التجّار يحصلون على الدولارات بسعر 1500 ليرة مقابل الدولار للاستيراد، بينما كان سعر الصرف في السوق الموازية على مسار تصاعدي يومياً. استمرّت هذه السياسة حتى صيف 2022 عندما تخلّى مصرف لبنان عن دعم آخر السلع الأساسية، وهي المحروقات، ما سبّب موجة تضخّم كبيرة بالتوازي مع تسارع ارتفاع سعر الصرف، وبلغت أوجها في آذار 2023 عندما سجّل سعر الدولار الواحد نحو 140 ألف ليرة. وبسياسة تمرير الوقت التي اعتمدها حزب المصرف، غرق القطاع المالي في المزيد من الخسائر غير القابلة للتعويض.
اللعب على الشروط المسبقة
بعد انفجار 4 آب استقالت حكومة حسان دياب. وبعد عشرة أشهر، شكّل نجيب ميقاتي حكومته التي بقيت تعمل بشكل عادي حتى الانتخابات النيابية في أيار 2022 حين أصبحت حكومة تصريف أعمال. ضمّت هذه الحكومة الوزير سعادة الشامي، الذي كان موظفاً سابقاً في صندوق النقد الدولي، وكان وجوده بمثابة الوسيط بين الحكومة وصندوق النقد. وفي نيسان 2022 توصّل الشامي وفريقه إلى صيغة مشروع مع ممثلي صندوق النقد الدولي تُرجمت إلى «اتفاق على مستوى الموظفين»، أي اتفاق يمهّد لتنفيذ الشروط المسبقة التي تكون بدورها معبراً للاتفاق النهائي مع الصندوق. تضمّن هذا الاتفاق، منح الحكومة إمكانية الوصول إلى نحو 3 مليارات دولار على مدى أربع سنوات، بشرط أن تقوم السلطة السياسية بسلسلة من الإصلاحات المالية والنقدية التي حدّدتها المؤسسة الدولية. يومها، وافق الصندوق على أن يَصدر تعهد من الرؤساء الثلاثة بتنفيذ هذه الإصلاحات، باعتبار أن الصندوق سيوقّع اتفاقاً مع حكومة على وشك أن تتحوّل إلى تصريف أعمال ومع رئيس للجمهورية على وشك أن تنتهي ولايته. الشروط التي طلب الصندوق تنفيذها بشكل مسبق للاتفاق النهائي هي على النحو الآتي:
– موافقة مجلس الوزراء على استراتيجية إعادة هيكلة المصارف والحدّ من اللجوء إلى الموارد العامة.
– صدور قانون من البرلمان لمعالجة أوضاع المصارف وإعادة التوازن المالي.
– البدء بعملية تقييم لأكبر 14 مصرفاً بمساعدة خارجية.
– إقرار تعديلات على قانون السرية المصرفية ليتماشى مع المعايير الدولية لمكافحة الفساد وإزالة العوائق أمام إعادة هيكلة القطاع المصرفي والإشراف عليه بشكل فعّال، وإدارة الضرائب، فضلاً عن الكشف عن الجرائم المالية والتحقيق فيها، واسترداد الأصول.
– إنجاز التدقيق بوضع الأصول الأجنبية لمصرف لبنان.
– موافقة مجلس الوزراء على استراتيجية متوسطة الأجل للمالية العامة وإعادة هيكلة الديون.
– إقرار قانون موازنة 2022.
– قيام مصرف لبنان بتوحيد سعر الصرف.
غالبية هذه الشروط لم تُطبّق، وما طُبّق منها كان جزئياً. فالتدقيق في مصرف لبنان لم يصل إلى أي نتائج وتخلّله الكثير من المشاكل لأن رياض سلامة لم يكن متعاوناً. ولم يمرّ قانون الكابيتال كونترول بعد، رغم أنه لم يعد مهمّاً إلا في سياق القيود على الاستيراد. وقد أقرّ مجلس النواب تعديلات على قانون السريّة المصرفية لا تراعي ما طلبه الصندوق. ولم يتم إقرار قانون لإعادة هيكلة المصارف بعد، علماً أن هذا الأمر هو محور الصراع بين «حزب المصرف» و«حزب صندوق» لأنه يتضمن توزيع الخسائر وإعادة هيكلة «الدولة» التي كان القطاع المالي ركناً أساسياً فيها ومحرّكاً للنشاط السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
ما بعد نهاية الاتفاق
اليوم، ثمّة فراغ سياسي في لبنان إلى جانب تداعيات الحرب الصهيونية على غزّة. فلا رئيس للجمهورية، ولا حكومة فعّالة، إنما حكومة تصريف أعمال، والمجلس النيابي شبه معطّل، وقد مضى عامان على الاتفاق الأوّلي مع صندوق النقد من دون تحقيق أي تقدّم في مسار الاتفاق مع الصندوق. ومع انقضاء عامين، لم يعد هذا الاتفاق صالحاً لوضع اتفاق نهائي مع الصندوق، ما يعني أن أي اتفاق نهائي مقبل يحتاج إلى إعادة التفاوض على اتفاق أوّلي (على مستوى الموظفين) من جديد، وبالتالي شروط مختلفة. أحد ممثلي الصندوق يصف السياسيين في لبنان بأنهم «منافقون»، وكل الانطباعات التي أتت من رحم الزيارة الأخيرة التي قام بها وفد الصندوق في إطار «البعثة الرابعة» من رئاسة الحكومة إلى وزارة المال ومصرف لبنان والمصارف والهيئات المدنية وسواهم من خبراء ومستشارين، تشير إلى أن الاتفاق انتهى ولم يبقَ فيه إلا أن يتبلغ لبنان ذلك رسمياً. الوحيد الذي ما زال متمسكاً بالاتفاق هو نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي الذي يخفّف من وطأة الأمر بالإشارة إلى أن الاتفاق يتطلب تحديثاً. لكنّ السؤال المطروح اليوم، هل يقتنع ممثلو صندوق النقد بتحديث الاتفاق بعدما جرّبوا لبنان ومنحوه فرصة لتنفيذ خطوات أطلقوا عليها «إصلاحات»، وتبيّن أن لبنان ماطل في تطبيقها أكثر من سنتين؟
عملياً، لم يبقَ من الاتفاق شيء؛ فالموازنة التي طُلب إقرارها في عام 2022، صارت بعيدة زمنياً، وسعر الصرف عاد إلى التثبيت وفق قواعد السوق التي يتحكّم فيها مصرف لبنان ويستعمل من أجلها الأدوات الضريبية. الكابيتال كونترول لم يعد لازماً في ظل القيود التي تمارسها المصارف بتوجيه ورعاية مصرف لبنان والحكومة. التعديلات المطلوبة من لبنان في سياق مكافحة الأموال تتم بشكل عادي، بعيداً عن أي اتفاق مع الصندوق. والإصلاحات التي سيُتفق عليها للإقرار لن تكون أكثر من خطط «تسوية» مع المصارف لإبقاء معظمها على قيد الحياة وهو ما سينهي عصر اقتصاد الكاش… العقبة الوحيدة التي تعترض «التعافي» على طريقة القوى السياسية، هي الاتفاق مع الدائنين الأجانب. بمعنى أوضح، ما يطلبه صندوق النقد الدولي في سياق الاتفاق، لبنان ينفذه بلا اتفاق على طريقة القوى السياسية الحاكمة.
نحو «الشفافية الدولية» للاقتراض مجدداً
يعتقد «حزب الصندوق» أن السلطة الحاكمة ليست جديرة بالحكم لأنها كانت تمارس الفساد والهدر عن إدراك وتصميم. يقدّم أعضاء هذا الحزب، أنفسهم على شكل البديل الليبرالي الذي سيعيد الانتظام إلى الوضع المالي على مستوى العجز التوأم (العجز في المالية العامة، العجز في الحساب الجاري)، وأنه سيضفي الشفافية المحاسبية على الميزانيات العامة والخاصة، وأنه سينفذ كل ما هو مطلوب من الصندوق. وفي هذا الإطار، يرى حزب الصندوق أن ملف توزيع الخسائر هو أساس «الشفافية» التي يطلبها الصندوق، والتي تمهّد لإعادة هيكلة القطاع المصرفي. هدف هؤلاء، الحصول على «ختم« الصندوق من أجل إعادة لبنان إلى السوق الدولية»، أي إن الختم يعطي إشارة إلى الاستثمارات الأجنبية بالقدوم إلى لبنان، ويسمح له بالاقتراض بالعملة الأجنبية. هذا النهج، ليس أقلّ خطورة من حزب المصرف، بل هو لا يضمن تعافياً اقتصادياً بمقدار ما سيضمن امتداد الفقر والهيمنة لعقود. وهذا واضح في أمثلة كثيرة على فشل نهج الصندوق في دول المنطقة، لعلّ أهمها النموذج المصري في السنوات الأخيرة. فالعودة للاعتماد على التدفقات الأجنبية، تعني العودة إلى النموذج السابق للأزمة ولو بشكل جديد. والمشكلة في الاعتماد على الاستثمار الأجنبي هي أن أسهل من يستطيع الهروب هي رؤوس الأموال الأجنبية، وقد شاهدنا ما حدث في مصر عقب الحرب الروسية الأوكرانية، عندما خرجت المليارات من البلد وتدهور وضع العملة. كما أنه لا توجد أي بنية تحتية، لجذب الاستثمارات في القطاعات المنتجة، ما يعني أن الاستثمارات التي ستأتي ستكون في القطاعات التي يسهل الخروج منها، مثل القطاعيْن العقاري والمصرفي.
الهروب من تراتبية توزيع الخسائر
«حزب المصرف» لا يرغب في أي اتفاق مع الصندوق لأن أصحاب المصارف سيتحمّلون بموجب هذا الاتفاق «تراتبية توزيع الخسائر» التي يتمسّك بها الصندوق، وبالتالي سيتحمّلون خسائر فادحة تمحو غالبية أصولهم. ويسعى هذا الحزب لتحميل الدولة أعباء الخسائر من خلال السيطرة على مرافقها العامّة وأملاكها وشركاتها، بما في ذلك أملاك مصرف لبنان. وكان هذا الأمر واضحاً في المواجهة السابقة بين لجنة المال والموازنة وحكومة حسان دياب، عندما صرّح إبراهيم كنعان أن رقم 66 ألف مليار ليرة (الخسائر المُسجّلة في ميزانية مصرف لبنان بحسب خطّة التعافي لحكومة حسان دياب)، لا يُمثّل الخسائر. خطابه كان يتضمن احتساب الذهب وشركة ميدل إيست من بين الأصول التي يمكن استخدامها لسدّ خسائر مصرف لبنان. كما أن خطاب أطرافٍ عدّة، ومنها جمعية المصارف، يشير باستمرار إلى استخدام أصول الدولة لسدّ الخسائر. الفكرة عند «حزب المصارف» هي عبارة عن أوهام العودة إلى ما قبل أزمة 2019، فتكون مسؤولية الدولة سداد الخسائر، من خلال بيع الأصول. لكن لا خطة واضحة لدى هذا الحزب للعودة إلى ما قبل 2019، فكيف يمكن إعادة الثقة بهذا القطاع إذا لم يتغيّر فيه أي شيء بنيوياً؟ وكيف يمكن إعادة التدفقات المالية التي بدأت تشحّ في عام 2011 حتى انفجار الأزمة في عام 2019؟