رعب في مصرف لبنان: فضيحة أوبتيموم “قنبلة نوويّة”

قد يبدو للمتابع أنّ فضيحة شركة “أوبتيموم” باتت في طريقها إلى الطمس، بعد صدور قرار كف يد القاضية غادة عون مؤخّرًا، الذي سيَكفل فرملة التحقيقات الجارية في النيابة العامّة الإسئنافيّة في جبل لبنان. غير أنّ العارفين بتفاصيل الملف يتحدّثون عن واقع مختلف جدًا: في المصرف المركزي من يحبس أنفاسه اليوم، إزاء ما انكشف مؤخّرًا مِن وقائع جديدة في هذه القضيّة بالتحديد. وثمّة من باتوا يصفون هذه الفضيحة -حرفيًا- بالقنبلة النوويّة، نظرًا لعدد وحجم “الرؤوس” المتورّطة في الفضيحة. وما انكشف حتّى الآن، صار أكبر من أن يُلفلف محليًا، بعدما رُبطت هذه الشبهات بملفّات رياض سلامة في المحاكم الأوروبيّة. الخلاصة الأساسيّة هنا، هي أنّ اللبنانيون لن ينسوا إسم شركة “أوبتيموم” في القريب العاجل.

قبل الغوص في مستجدات الملف، قد يكون مفيدًا أن نستذكر سريعًا ما كنّا نعرفه أساسًا عن هذه الشركة، انطلاقًا من التدقيق الذي أعدّته شركة “كرول” لمصلحة القاضية غادة عون. أقرض مصرف لبنان الشركة -على مراحل- نحو 8.6 مليار دولار، لتشتري الشركة من المصرف نفسه سندات خزينة بهذه القيمة. مع كل عمليّة، وفي اللحظة ذاتها، كان مصرف لبنان يعود ويشتري السندات نفسها من الشركة، بقيمة إجماليّة ناهزت الـ16.6 مليار دولار. في نتيجة هذه العمليّات الغريبة والمشبوهة، حصّلت الشركة أرباحًا إجماليّة (ومجانيّة!) بقيمة 8 مليار دولار، جرى إيداعها في حساب لدى مصرف لبنان، قبل سحبها إلى جهة مجهولة. وعند قيام شركة “آلفاريز آند مرسال” بالتدقيق الجنائي في مصرف لبنان، لم يسمح رياض سلامة للمدقّقين بتتبع حركة هذا الأموال.

سلسلة التواريخ المشبوهة
ثمّة حاجة للعودة إلى بعض الأحداث المهمّة والخطيرة التي سبقت هذه العمليّات الغريبة، لمحاولة فهم أسبابها وخلفيّتها. المصادر المتابعة للملف، تنصح بالعودة إلى بعض التواريخ المتصلة بفضيحة أخرى لم ننسَ إسمها بعد: شركة “فوري”. وكي نقولها بعبارات أوضح، بإمكان “فوري” أن تفسّر خيوطًا من عمليّات “أوبتيموم”.

“فوري” هي الشركة الصوريّة التي تم تسجيلها بإسم شقيق رياض سلامة، رجا سلامة. حيث استفادت الشركة من عمولات إجماليّة بقيمة 320 مليون دولار (أو هذا فقط ما انكشف)، من أموال مصرف لبنان العموميّة، لقاء خدمات وهميّة لم يتم تقديمها بالفعل. ببساطة، وقّع سلامة عقدًا مع شركة شقيقه، بما يعطيها نسبة من عائدات بيع مصرف لبنان للمنتجات الماليّة، من دون أن يكون للشركة فعلًا أي دور في عمليّات البيع أو الوساطة. العمليّة بأسرها كانت نوعًا من “الخوّة” التي فرضها سلامة على المصرف المركزي.

التواريخ لها أهميّة هنا: تم توقيع عقد “فوري” الوهمي في نيسان 2001، وظلّ العقد ساري المفعول حتّى العام 2015. في تلك السنة، أثارت بعض عمليّات الشركة “علامات الخطر” في مصرف HSBC في سويسرا، وهو ما دفع المصرف إلى التوقّف عن استقبال التحويلات في حساب شركة “فوري” لديه. وفي السنة نفسها، أبلغ المصرف عن الحساب والشركة وسلامة إلى هيئة الرقابة على السوق الماليّة السويسرية، لتبدأ منذ تلك اللحظة سلسلة من الأحداث غير السعيدة بالنسبة إلى رياض سلامة. انتهت عندها قصّة “فوري”، بعد إضاءة الإسم باللون الأحمر في أوروبا.

هنا، نعود إلى فضيحة شركة “أوبتيموم”! سنة 2015، وبالتوازي مع توقّف عمليّات “فوري”، كانت “أوبتيموم” تسجّل في حساباتها لدى مصرف لبنان أولى “الصفقات الخاصّة”، كمّا سمّتها الشركة نفسها.

في كانون الثاني 2015 تم تسجيل العمليّة الأولى بهامش ربح بلغ 80%، قبل أن تواظب الشركة على تسجيل عمليّات وصل هامش ربح بعضها إلى 239% من قيمة العمليّة، إلى أن سُجّلت العمليّة الأخيرة في آذار 2018. ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ العمولات والأرباح الضخمة كانت تتم بعد عمليّات فوريّة معدومة المخاطر (بيع وشراء في اللحظة نفسها)، وبسيولة مموّلة من قروض مصرف لبنان نفسه.

عند هذه النقطة من البحث، لا يوجد ما يؤكّد قطعًا ارتباط نسق عمليّات “أوبتيموم”، بمسألة توقّف “فوري” عن العمل. ولو أنّ هناك وجه شبه واضح: من جهة وجود أرباح كبيرة لا تبرّرها سوى “شخطة” قلم من رياض سلامة. الفارق الأهم هنا، هو أنّنا نعرف مصير أرباح “فوري”، التي حطّت أخيرًا في حسابات رياض سلامة و”عصابة الأشرار” المتعاونة معه (وفقًا لتوصيف اتهام القضاء الفرنسي)، في حين أنّ مصرف لبنان لم يفصح لنا بعد عن مصير أرباح شركة “أوبتيموم”.

لكنّ ما تمّ كشفه مؤخّرًا لم ينتهِ هنا. وفي ثنايا الفضيحة ما يمكن أن يوضح أكثر طبيعة العمليّات التي قامت بها “أوبتيموم”.

شبهة تزوير قرارات المجلس المركزي
اطّلعت “المدن” على نسخ مسرّبة من بعض عقود عمليّات شركة “أوبتيموم”، والتي بلغ عددها 45 عمليّة طوال الفترة الممتدة بين 2015 و2018. في جميع تلك العقود، ثمّة إشارة متكرّرة إلى قرارات من المجلس المركزي لمصرف لبنان، لتبرير القيام بتلك العمليّات الغريبة والغامضة.

من بين المصادر الموثوقة المطّلعة على الملف، هناك من تمكّن من الاطلاع على جداول أعمال اجتماعات المجلس في تلك الفترة بالذات. وهنا تبرز حقيقة خطيرة أخرى: لم يأتِ أي بند في تلك الجداول على ذكر “أوبتيموم”، ولم يكن هناك ما يشير إلى عمليّات ملتبسة من هذا النوع.

حُسن النيّة برياض سلامة قد يدفعنا إلى افتراض طرحه الموضوع في تلك الاجتماعات من خارج جدول الأعمال، رغم حساسيّة الملف التي تفرض إعلام أعضاء المجلس المركزي بتفاصيل العقد قبل مناقشته في الاجتماع. غير أنّ الاستفسار من بعض الأعضاء الحاضرين في تلك الاجتماعات يفضي إلى اكتشاف التالي: لا يذكر أيّ من هؤلاء الموافقة على صفقة غريبة كهذه. ولو أنّ الحاكم السابق طرح مسألة مشبوهة كهذه من خارج جدول الأعمال، وبشكل متكرّر في كل اجتماع، لما كان من الممكن أن ينسوا إسم “أوبتيموم”.

بطبيعة الحال، ثمّة حاجة للعودة إلى محاضر الاجتماعات نفسها، المخبّأة حاليًا في أدراج مصرف لبنان. إلا أنّ إشارة العقود إلى موافقات المجلس المركزي، وعدم ورود المسألة في جداول الأعمال، وعدم معرفة بعض أعضاء المجلس بالصفقة، كلّها علامات تقودنا نحو شبهة جديدة: تزوير مقرّرات المجلس المركزي لمصرف لبنان.

وهذه الشبهة وحدها كفيلة بإثارة خوف من يعنيهم الأمر، داخل مصرف لبنان. في مصرف لبنان، هناك من تولّى مسؤوليّة تسجيل المحاضر، وهناك من يجب أن يُسأل عن قرارات المجلس المركزي (مجددًا: لم يكن غريبًا أن توصف الفضيحة بالقنبلة النووية).

لكنّ البحث في علاقة رياض سلامة بهذه العمليّات، وسرّ توقيت عمليّات “أوبتيموم” بعد وقف عمليّات “فوري”، لم ينتهِ بعد.

تفويض الأرباح لرياض سلامة
تتوالى إذًا فصول المفاجآت في هذه الملف، وخصوصًا عند المضي قدمًا في البحث عن مصير الـ8 مليار دولار. في العقد الذي وقّعته الشركة، لإتمام هذه العمليّات، ثمّة تفويض مكتوب للمصرف المركزي -ممثلًا برياض سلامة- بتحريك حساب “أوبتيموم” لدى المصرف، للتصرّف بكامل قيمة العمولات الناتجة عن كل عمليّة.

بهذا المعنى، لم تملك الشركة أساسًا القدرة على رصد مصير الأرباح، التي جرى تحويلها بالفعل من حساب الشركة إلى حساب وسيط يحمل إسم “حساب الاستشارات”. ومنذ تلك اللحظة، بات مصير الأموال رهن إرادة رياض سلامة وحده. وكما أشرنا سابقًا، رفض رياض سلامة إعطاء شركة التدقيق الجنائي “آلفاريز آند مارسال” الولوج إلى داتا “حساب الاستشارات”، وهو ما منعها من معرفة المستفيدين الحقيقيين من هذه الأرباح.

مجددًا، نعود إلى النقطة ذاتها: ولدت “الصفقات الخاصّة” في حساب “أوبتيموم” بعدما توقّفت شركة “فوري” عن تحصيل العمولات. وسلامة، أعطى نفسه –في العقود- قدرة التصرّف بالعمولات والأرباح، عبر سحبها من حساب “أوبتيموم” إلى حساب وسيط، ومن ثم التحكّم بها هناك. أين ذهبت الأموال بعد إيداعها في الحساب الوسيط؟ لا يوجد جواب حتّى اللحظة، ولم يقدّم المصرف المركزي الجواب الشافي.

ابتزاز بتقرير المخالفات
في النتيجة، يبدو أن الشركة كانت مجرّد ستار تم استعماله لتحصيل هذه الأرباح. وهذا ما يطرح السؤال عن سبب تعاون الشركة في “صفقات خاصّة” من هذا النوع، طالما أنّها أعطت سلامة مفاتيح التصرّف بالأرباح لاحقًا.

المصادر المتابعة لهذا الملف، تُذكر بتقرير هيئة الأسواق الماليّة، الذي تلى تحقيقات الهيئة عام 2015. إذ أشار التقرير إلى المخالفات الفادحة التي ارتكبتها شركة أوبتيموم في مراحل سابقة، ومنها تحصيل عمولات غير مشروعة بقيمة تناهز الـ111 مليون دولار. وكان من المفترض بحسب توصيات الهيئة وقف تعاملات مصرف لبنان مع الشركة، وإقالة إثنين من كبار مديريها، وشطبهما من “هذه الصناعة” (أي مهنة الأسواق الماليّة)، وإجبار الشركة على إعادة الأرباح الاحتياليّة.

كان رياض سلامة، الذي ترأّس الهيئة، هو من تساهل مع صدور التقرير بتلك التوصيات القاسية جدًا. وكان هو من طمس الملف وتوصيات التقرير لاحقًا، بل وأصدر قرارًا يُقصي هيئة الأسواق الماليّة عن التعامل مع هذا النوع من المخالفات في المعاملات مع مصرف لبنان.

هكذا، فكّ سلامة حبل المشنقة عن رقبة “أوبتيموم”، وكرّت سبحة “الصفقات الخاصّة” بين عامي 2015 و2018. هل كانت علاقة سلامة بالشركة علاقة ابتزاز؟ أم علاقة ابتزاز مشفوعة بشراكة ما؟ هذا ما لن نعرفه، قبل أن نعرف مصير الـ8 مليار دولار، التي حلّت في حساب “الاستشارات” لدى مصرف لبنان.

من حصّل الأرباح؟
السؤال الأخير إذًا، يبقى حول هويّة المستفيدين من أرباح الـ8 مليارات دولار. وفي الواقع، ثمّة من يشير إلى أنّ “صفقات خاصّة” بهذا الحجم كانت أكبر من رياض سلامة وحده، وهو ما يطرح السؤال عن حجم الشركاء المحتملين. نعود مجددًا إلى عبارة “القنبلة النوويّة”، التي يتم استعمالها عند الإشارة إلى هذا الملف، في بعض أروقة مصرف لبنان.

وللإنصاف وإعطاء الرأي الآخر حقّه، يشير البعض إلى إمكانيّة الأخذ بحسن النيّة (؟)، عبر طرح احتمال أن يكون رياض سلامة قد أعاد طوعًا الأرباح إلى حسابات مصرف لبنان. وحسب هذا السيناريو، قد تكون العمليّة بأسرها مجرّد “عمليّة تجميليّة” في حسابات المصرف المركزي، لرفع القيمة الدفتريّة للسندات بعد بيعها وشرائها بسعر أعلى.

لكن الركون إلى حسن النيّة مع الحاكم السابق رياض سلامة، بعد كل ما كشفته فضيحة “فوري”، لن يتعدّى حدود السذاجة. وهل يمكن الاكتفاء بحسن النيّة بعد الإصرار على إخفاء حركة الحساب الذي ابتلع العمولات؟ وإذا كان الحال كذلك، ألا يمكن لمصرف لبنان في هذه اللحظة حسم الجدل، وإثبات حسن النيّة بكشف مصير هذه العمولات أمام الرأي العام؟ وما سرّ حساسيّة هذا الملف، المُحاط بالغموض والإلتباس؟

باختصار، وإلى أن يكشف المصرف المركزي مصير هذه العمولات، لا مكان للسذاجة وحسن النيّة. وحجم الفضيحة بات اليوم أكبر من الاستيعاب أو الطمس، عبر كف يد القاضية التي كانت تحقق في الملف. إذ بات ملف “أوبتيموم” جزءًا من الملاحقات القانونيّة الجارية في الخارج، في الملفّات المتصلة بالحاكم السابق رياض سلامة والمتعاونين معه. ولذلك، وتمامًا كحال فضيحة “فوري”، سيكون من الصعب تجاهل تداعيات هذه الفضيحة محليًا، وإن تمكّن المعنيون من الإفلات من العقاب كما فعل سلامة.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةأموال ضائعة بين “النافعة” وشركات التحويل: خطأ تقني؟
المقالة القادمةقروض مصرف الإسكان ستُدفَع في تمّوز المقبل