في السنة الماضية، بدأ ميزان المدفوعات يُسجّل فائضاً. وهو مسار معاكس للفترة الممتدة من عام 2011 إلى عام 2022 (باستثناء 2016 وهي سنة الهندسات المالية). ففي عام 2023 سجّل ميزان المدفوعات فائضاً بقيمة 2.2 مليار دولار، وفي الفصل الأوّل من السنة الحالية، سجّل ميزان المدفوعات فائضاً بقيمة 442.5 مليون دولار، وانتشرت «تقديرات مصرفية» تقول بأنه من المتوقّع أن يُسجّل في نهاية السنة فائض بقيمة 1.1 مليار دولار. فما حقيقة هذا الفائض، وهل يُعبّر فعلاً عن حقيقة ما يدخل ويخرج من وإلى الاقتصاد اللبناني؟ لا بدّ من توضيح المؤشّر الذي يُعبّر، عُرفاً، عن ميزان المدفوعات في لبنان. لأن مصرف لبنان يُصدر أرقاماً غير واقعية عن ميزان المدفوعات منذ زمن، إذ يبدو فيها الميزان في حالة صفرية دائمة (من خلال التلاعب ببعض البنود غير الواضحة مثل «المعاملات غير المصنّفة». لذا، ما يُستخدم، عُرفاً، كمؤشّر يمثّل ميزان المدفوعات هو بند ينشره مصرف لبنان بعنوان «التغيّر في صافي الموجودات الأجنبية في القطاع المالي»، وهو عملياً يُعبّر عن حركة الأصول الأجنبية في القطاع المالي خلال السنة. وبما أن ميزان المدفوعات يُعبّر عن حجم صافي العملات الأجنبية الخارجة والداخلة من وإلى لبنان، قد يعكس هذا المؤشّر (التغير في صافي الموجودات…) وضع ميزان المدفوعات.
في الحالات الطبيعية، من المفترض أن يعرض مصرف لبنان أرقاماً حقيقية لميزان المدفوعات المؤلّف من التالي:
– الحساب الجاري، ويتضمّن كل المعاملات المالية «الجارية»، من الاستيراد والتصدير (للبضائع والخدمات) إلى تحويلات العمّال والتحويلات المصرفية الجارية، بالإضافة إلى مداخيل الموظفين القادمة من الخارج.
– حساب رأس المال، ويتضمّن التحويلات الرأسمالية وحيازة/التصرف في الأصول غير المنتجة وغير المالية، مثل المنح، أي الأموال المقدّمة لأغراض الاستثمار (مثل مشاريع البنية التحتية)، والإعفاء من الديون. كما يتضمّن الأموال الآتية والخارجة على شكل الاستحواذ/التصرّف في الأصول غير المنتجة وغير المالية (مثل الأرض والغاز والنفط وغيرها)، والأصول غير الملموسة، مثل براءات الاختراع وحقوق النشر والعلامات التجارية.
– الحساب المالي، وهو يسجل المعاملات التي تتضمّن بيع وشراء الأصول والالتزامات المالية بين المقيمين وغير المقيمين. مثل الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI)، والاستثمار المالي في السندات والأسهم، واستثمارات مالية أخرى مثل الودائع المُجمّدة والقروض.
لكنّ الاستعاضة عن حساب هذه الأجزاء من ميزان المدفوعات باحتساب حركة صافي الأصول الأجنبية في القطاع المالي، لم تعد دقيقة، لأن النظام المالي اللبناني مُعطّل بشكل عام، وقد انتقل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد يُعتمد فيه «الكاش» بشكل طاغٍ. هذا الأمر يجعل التغيّر في صافي الأصول الأجنبية لدى القطاع المالي اللبناني يُفوّت الكثير من الحركة المالية النقدية الداخلة والخارجة. فبعد الأزمة بات الاقتصاد غير النظامي، والذي يُترجم من خلال حركة «الكاش»، يُمثّل نحو 60% من الحركة الاقتصادية في البلد، بما في ذلك الأموال الداخلة والخارجة، وهذا الأمر لا تلتقطه حركة صافي الأصول الأجنبية في القطاع المالي.
من ناحية أخرى، الحركة الخارجة في ميزان المدفوعات لا تظهر كلها، إذ تقول بعض المصادر المطّلعة إن عدداً لا يستهان به من الصناعيين والتجار يستوردون موادَّ أولية وسلعاً من طريق حسابات مصرفية خارجية أسّسوها في بداية الأزمة عندما انهار وضع القطاع المالي في البلد وأصبح لا يُعتمد عليه. وهذا حال الكثير من الشركات التي جعلت المركز المالي لأعمالها خارج لبنان، حيث أصبحت أعمالها غير ظاهرة في الحركة المالية في القطاع المصرفي اللبناني. كما أن جزءاً كبيراً من حركة الأموال الداخلة إلى لبنان يأتي بسبب زيادة حجم الهجرة في السنوات الماضية، وهو ما يُشكّل جزءاً كبيراً من المدخول المالي الأجنبي إلى لبنان. بمعنى آخر، جزء كبير من «التحسّن» في ميزان المدفوعات لا يدل على تعافٍ اقتصادي حقيقي، بل هو بسبب تصدير رأس المال البشري اللبناني إلى الخارج واستغلاله لتحويل الأموال إلى البلد.
قد يكون الاعتماد على أرقام الحساب الجاري أكثر تمثيلاً للواقع في حالة لبنان اليوم، إذ إن الحساب المالي وحساب رأس المال لا يمثلان جزءاً كبيراً من الحركة المالية الداخلة والخارجة، باستثناء المساعدات التي تستهدف اللاجئين السوريين في لبنان والتي يمكن تقديرها بنحو المليار دولار سنوياً. أما الحساب الجاري فهو في حالة عجز مستمرّ منذ سنة 2011، ولم يتغيّر هذا الأمر في السنة الماضية. ففي حين سجّل ميزان المدفوعات فائضاً استثنائياً عام 2023، سجّل الحساب الجاري عجزاً بنحو 5.6 مليارات دولار، ما يشير إلى استمرار الوضع الاقتصادي السيّئ في البلد.